د. القس جرجس عوض يكتب: عبثية الطاعة العمياء – نظرية القطيع

في إحدى ولايات شرقي تركيا، وفي صباحٍ لا يختلف كثيرًا عن سواه، وقف راعٍ يراقب قطيعه فوق منحدرٍ صخري. لم يكن يعلم أن هذا اليوم سيُخلَّد في التاريخ، لا لكونه مميزًا أو فريدًا، بل لأنه سيكون شاهدًا على عبثية الطاعة العمياء.

في عام 2005، وتحديدًا في قرية “غيفِس” شرق تركيا، خرج الراعي بخرافه متجهًا إلى مرعى خصيب. وبينما كان يعبر المنخفضات والمرتفعات، حدث ما لم يكن في الحسبان:
قفز خروف واحد من منحدرٍ صخري شاهق إلى هوّة الموت. والأعجب أن أكثر من ألفٍ وخمسمائة خروف تبعوه — دون تفكير، دون وعي — لتسقط أجسادهم تباعًا. وقد لقي نحو أربعمائةٍ وخمسون خروفًا حتفهم، بينما نجا الباقون لأن الجثث المتراكمة خفّفت من قوة ارتطامهم بالأرض.
وقف الراعي مذهولًا يصرخ ويستغيث، لكن لا سامع ولا مجيب، فقد سلّم القطيع عقولهم لا للراعي، بل للغباء وفقدان الوعي.
هذه القصة العجيبة تعكس ظاهرةً معروفة في علم النفس تُسمّى «سلوك القطيع»، حيث يتبع الأفرادُ الجماعةَ دون تحليل أو تقييمٍ للعواقب، لمجرد أن غيرهم فعل ذلك.
ولئن كانت الحادثة واقعية ومأساوية، فإنها تجسّد بصدق واقعًا بشريًا مريرًا، لا يقتصر على الحيوانات فقط، بل يتجلّى في بعض التنظيمات والجماعات البشرية، بل والدينية أحيانًا، التي تقوم على الولاء الأعمى والطاعة المطلقة للقيادة، وتغليب المصلحة الشخصية، وتغييب الضمير، وليّ الحقائق الدينية لخدمة الأهواء والمصالح.
فكما تبعت الخرافُ بعضها إلى الهلاك دون تفكير، كذلك يتبع بعض البشر قياداتهم وهم عُميان، حتى وإن سارت بهم إلى الهاوية، تحت شعارات «السمع والطاعة» وادعاءات «المنهج الرباني»، دون نقدٍ أو فحصٍ أو فهمٍ لما يُطلب منهم.
وفي تلك البيئات يكثر الكذب والمكر والخداع والتهديد والوعد والوعيد، حتى يصير الغشُّ سلوكًا جماعيًا، والباطلُ حقًا مسموعًا.
إنّ حادثة الخراف تذكّرنا بخطورة غياب التفكير الفردي، وتُظهر كيف يمكن لسلوك القطيع أن يقود حتى الإنسان — المخلوق العاقل — إلى نهاياتٍ كارثية إذا أسلم عقلَه لغيره.
كما قال الرسول بولس عن الذين:
“إِذْ هُمْ قَدْ فَقَدُوا الْحِسَّ، أَسْلَمُوا أَنْفُسَهُمْ لِلدَّعَارَةِ لِيَعْمَلُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ فِي الطَّمَعِ” (أف4: 19). النجاسة والدعارة هي الطمع
المدهش ليس في قفزة الخروف الأولى، بل في مئات القفزات التي تلتها. أكثر من 1500 خروفٍ تبعوه واحدًا تلو الآخر، بلا سؤال، بلا تردّد، بلا التفاتٍ إلى الخلف — غير عابئين بصوت الراعي الذي كان يصرخ لينقذهم. قفزوا كأنّ ما يفعلونه أمرٌ بديهيّ لا يحتاج إلى تفكير.
وفي نهاية المشهد: أجسادٌ مكدّسة، أنفاسٌ منطفئة، وراعيٌ مذهولٌ لا يدري أكان ما رآه واقعًا أم كابوسًا.

القطيع… فينا وليس فيهم
نضحك أحيانًا على غرابة الموقف ونقول: “يا لها من خرافٍ غبية!”
لكن، ألم يحدث أننا اتّبعنا آراء الآخرين فقط لأنهم “الأغلبية”؟
ألم نصفّق ونهتف ونُدين ونُحبّ ونكره لأن “الناس” فعلوا ذلك فقط ؟
القطيع لا يعيش في الجبال فحسب، بل يعيش في دواخلنا، في مجتمعاتنا وجماعاتنا الدينية مثل جماعة الاخوان وغيرهم من الجماعات المتعددة داخل المجتمع وصوتهم ناعم وكلامهم متملق يظهر عكس ما يبطن
ينطبق عليهم
قول الشاعر
يُروغ منك كما يروغ الثعلب، ويُعطيك من طرف اللسان حلاوة ويُطعم من طرفه بلوى.
وصوتهم
يهمس لنا كل يوم:
“لا تكن مختلفًا… سر مع الجميع.”وكن مع القطيع
لا تفكّر لأن التفكير يجعلك من الغرباء؟
ان أردت الأمان والانتماء. كن مع القطيع
ونحن غالبا حين يخيّم الخوف، نبحث عن صدر الجماعة لنختبئ فيه.
لكن الكارثة تبدأ حين يتحوّل الاتباع إلى عادةٍ عمياء، حين نتنازل عن عقولنا ونفكّر بعقول الآخرين، وحين نرتدي عيون الآخرين بدلاً من عيوننا.
هنا تبدأ المشكلة حين يصبح القفز من الجرف أسهل من الوقوف وحدنا.
لكن صوت الحكمة والضمير  والحق كن الخروف المختلف
في عالمٍ يضجّ بالصخب والضغوط والاتجاهات السريعة، لا بأس أن تقف لحظةً وتسأل: “لماذا؟”
لا بأس أن تخطئ، أن تشكّ، أن تفكّر بصوتٍ لا يُشبه الآخرين.
في كل مرّة تجد نفسك وسط موجةٍ من الرأي الجماعي، اسأل:
هل أنا مقتنع؟ أم فقط لا أريد أن أبدو غريبًا؟
الوعي نعمة الوعي قوة حتي وان ساد الجهل وخيم الظلام فحتما سيظهر النور ويبدد الظلام .
ليتنا نتذكّر دائمًا أن أول خروفٍ قفز، لم يكن يعلم أن المئات سيتبعونه.
فلنعرف ماذا يعني الاتّباع الأعمى، ولنسأل دومًا إلى أين يقودنا الطريق.
كن الخروف الذي توقّف، ونظر، وفكّر… ثم  اتخذ طريق النجاة
ليس بالضرورة ان تسير في طريق الأغلبية
كن الشخص المفكر
دمتم في رعاية الله وأمنه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى