عبدالسلام فاروق يكتب.. قمة السلام على أرض مصر

تحت وهج شمس البحر الأحمر الساطعة، تراءت أمام العالم في شرم الشيخ لوحة سلام تحمل أحلامَ المفاوضين، وتصدح نداءات الأمل. في هذه القاعة الرحبة الواسعة، اجتمعت الأمم تتلمّس الضوء في نفق طويل، وأخذت مصر دورها الطبيعي لقيادة ركب السلام، تقدم خيوط الوساطة بين أطراف الصراع، وتحاول أن تزرع بين شظايا الحرب بذور السلام.

شرم الشيخ تتوشح بالسلام:

في منتصف أكتوبر من عام 2025، تنفست مدينة شرم الشيخ أنفاسًا سياسية غير مسبوقة. المدينة السياحية الوادعة على البحر الأحمر تحولت إلى مسرحٍ لدبلوماسية مكثفة، حين احتضنت قمة دولية استثنائية هدفها تحويل وقف هش لإطلاق النار في غزة إلى خطة سياسية شاملة تضع للسلام أساسًا يمكن البناء عليه.

دائماً مصر، بتاريخها وموقعها وقدرها، تتوسط المشهد. هذا رئيسها فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى جانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في رئاسة الجلسات المشتركة، فيما علت وجوه القادة والأمناء العامين وممثلي الدول الكبرى على شاشات البث المباشر. بدت شرم الشيخ وكأنها عاصمة مؤقتة للعالم، وملتقى لأحلام معلقة بين التخوف والأمل.

مصر لم تكن «وسيطًا» بالمعنى السطحي للكلمة، بل كانت الطرف الذي يمسك بالخيوط الدقيقة للحظة التاريخية، تتحرك بين الألغام السياسية ببراعة الدبلوماسي العتيق، وبشعور المسؤول الذي يدرك أن أمن غزة ليس بعيدًا عن أمن سيناء، وأن استقرار الشرق الأوسط يبدأ من هنا، من الأرض التي تعرف متي تنتهي الحروب ومتي يبدأ السلام.

من الميدان إلى الطاولة:

لا يمكن فهم أهمية هذه القمة من دون العودة إلى عامين من النار والدم. حرب مدمرة شطرت قطاع غزة، أوقفتها هدنة مؤقتة ولدت من رحم ضغط دولي متكرر.

كانت اتفاقات وقف إطلاق النار السابقة أقرب إلى مسكنات قصيرة الأجل: تسكت المدافع ولا تُطفئ جذور الأزمة. بقيت الملفات الكبرى عالقة: إعادة الإعمار، الأسرى، إدارة القطاع، وضمانات الأمن. وبينما تاهت الأطراف في تفاصيل التفاوض، بدا أن المنطقة بحاجة إلى «مظلّة» تجمع العالم، وتمنح الاتفاق شكلًا رسميًا. وهنا برزت القاهرة، بخبرتها الطويلة في إدارة التناقضات، لتقدم نفسها مضيفًا ووسيطًا ومنسقا في آن واحد.

أكثر من عشرين دولة ومنظمة دولية وإقليمية لبت الدعوة، وتنوعت مستويات الحضور بين رؤساء دول وحكومات ووزراء خارجية وممثلي مؤسسات عالمية.

القمة اكتسبت طابعًا دوليًا واسعًا؛ إذ جمعت قوى من الشرق والغرب، من أوروبا وآسيا والعالم العربي. لكن المفارقة أن الطرفين المعنيين مباشرة بالصراع، إسرائيل وحركة حماس، غابا عن قاعة الاجتماعات، وإن حضرا من وراء الستار في سلسلة اتصالات مكثفة أجرتها الأطراف الوسيطة.

رفضت تل أبيب المشاركة في اللحظة الأخيرة، متذرعة بـ«الظروف الداخلية»، بينما غابت الفصائل الفلسطينية عن الطاولة، مكتفية برسائل غير مباشرة ووفود رمزية. ومع ذلك، كانت الهواتف مشتعلة، واللقاءات الجانبية تجري في الغرف المغلقة على هامش القمة، في محاولة لتقريب المواقف وتمهيد الطريق لتطبيق المرحلة الأولى من الاتفاق الميداني.

خارطة طريق على الورق:

خرجت القمة بمجموعة من القرارات المرحلية التي رآها المراقبون «أقرب إلى بيان نوايا دولي»، لكنها، رغم رمزيتها، أرست حجر الأساس لخارطة طريق جديدة:

1. تثبيت وقف إطلاق النار وتأكيد المجتمع الدولي التزام الأطراف كافة بتنفيذ بنود المرحلة الأولى من الاتفاق.

2. إتمام صفقة تبادل إنساني: إطلاق دفعات أخيرة من الرهائن مقابل سجناء فلسطينيين، بما يمنح الملف بعدًا إنسانيًا يتجاوز الحسابات السياسية.

3. إطلاق خطة إعمار أولية تقدر احتياجاتها بما بين خمسين وستين مليار دولار، تشمل البنية التحتية، الطاقة، والإسكان.

4. اقتراح إدارة انتقالية لقطاع غزة تتألف من شخصيات تقنية محلية ودولية، بإشراف إقليمي من مصر والأردن، لتكون بمثابة هيئة مؤقتة غير حزبية.

5. مناقشة تشكيل قوة مراقبة دولية تخضع لمجلس الأمن، تضمن استقرار الأوضاع وتسهّل إعادة الإعمار.

لكن كما يدرك الجميع، فإن القرارات التي تصاغ في القاعات المكيفة قد تذوب في حرارة الميدان. التنفيذ الفعلي مرهون بمدى استعداد القوى الفاعلة على الأرض، وبالقدرة على تجاوز الحسابات الفصائلية والمصالح المتشابكة.

القاهرة ودورها الطبيعي:

اختيار مصر ليس صدفة، بل نتيجة تراكم طويل من الخبرة والدور التاريخ: أولاً: الجغرافيا جعلت منها اللاعب الأقرب ميدانيًا إلى غزة، بخط حدودي حساس يشهد حركة المدنيين والمساعدات والسلع، وهو ما يمنحها نفوذًا عمليًا لا تملكه أي دولة أخرى. ثانيًا: شبكة العلاقات الواسعة التي نسجتها القاهرة مع كل الأطراف: إسرائيل، السلطة الفلسطينية، الفصائل، العواصم العربية، والغرب. جعلتها مقبولة في أذن الجميع، حتى حين تختلف معهم في التفاصيل.ثالثًا: القدرة اللوجستية والتنظيمية. فمصر التي نظمت مؤتمرات المناخ والقمم العربية والإفريقية، تملك خبرة في إدارة حدث بهذا الحجم، بما في ذلك تأمين الوفود وتنظيم الجلسات والبث الدولي.رابعًا: رصيدها التاريخي كوسيط موثوق. فمن تبادل الأسرى إلى الهدن السابقة، كان اسم القاهرة حاضرًا في كل وقف نار تقريبًا بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية .خامسًا: الحاجة الدولية إلى «مركز ثقل» إقليمي. العالم، المرهق من الحروب الصغيرة والفراغات السياسية، وجد في مصر الطرف القادر على جمع المتنافرين في غرفة واحدة، وفي حضور مشترك للرئيس الأمريكي ما أضفى شرعية مضاعفة على الجهد المصري.

من يضحك أخيراً..

ليست مصر في هذا الدور مجرد وسيط يبحث عن وسام دبلوماسي؛ بل هي دولة تنظر إلى المشهد من منظور استراتيجي مركّب:

1. تعزيز الريادة الإقليمية: فكل وساطة ناجحة تعيد تثبيت موقع مصر كقلب للعالم العربي وركيزة للاستقرار.

2. تحقيق الأمن القومي: استقرار غزة يخفّف من الضغوط على سيناء، ويحد من تمدد الأزمات الأمنية والإنسانية عبر الحدود.

3. فرص اقتصادية ودبلوماسية:المشاركة في مشاريع الإعمار تعني عقودًا واستثمارات ضخمة لشركات مصرية، وتفتح أبواب تفاهمات جديدة مع القوى الكبرى.

4. قناة تواصل دولية:بوساطتها بين واشنطن والفاعلين الإقليميين، تعزز القاهرة موقعها كجسر بين الشرق والغرب، وكصوتٍ يمكن أن يستمع إليه في ملفات أخرى تخصها.

الرهان الصعب:

الاختبار الحقيقي لهذه القمة لن يكون في عناوين الصحف ولا في خطابات القادة، بل في الأيام التالية لها:هل ستسير قوافل الإغاثة بسلاسة عبر المعابر؟ هل ستنشأ الهيئة المؤقتة لإدارة القطاع دون نزاعات داخلية؟هل ستبدأ مشاريع الإعمار فعليًا؟

إن أي تأخير أو إخلال ببنود الاتفاق سيعيد المنطقة إلى الدائرة ذاتها من العنف والدمار. فالمعركة هذه المرة ليست عسكرية بل سياسية وإدارية؛ معركة ثقة في النوايا، وقدرة على تحويل الحبر إلى واقع. لهذا فإن المرحلة المقبلة ستكون أخطر من سابقتها. تنفيذ القرارات يحتاج إلى تنسيق ثلاثي: فلسطيني–إسرائيلي–دولي، وتوازن دقيق بين احتياجات السكان ومخاوف الأمن.كما أن تشكيل الهيئة المؤقتة سيواجه تجاذبات بين القوى السياسية، وربما اعتراضات داخلية من سكان القطاع الذين سئموا تجارب الإدارات الانتقالية.

ومع كل ذلك، يبقى لمصر أن تمارس دورها المزدوج: تيسير الحوار من جهة، والضغط من جهة أخرى، لضمان ألا تتحول الهدنة إلى مجرد «استراحة محاربين». فنجاحها سيعني استعادة نفوذها الإقليمي، وفشلها قد يفتح أبوابًا جديدة من الفوضى.

عيون العالم على شرم الشيخ:

تتجه الأنظار إلى المدينة المصرية الصغيرة وكأنها غرفة عمليات للعالم. في أروقة القصر الزجاجي المطل على البحر، يتحرك الدبلوماسيون بين الملفات والأوراق، والعيون ترقب البيان الختامي الذي سيعلن ما إن كانت شرم الشيخ محطة سلام أم مجرد فاصل في مسلسل الحروب.

الصور التي بثتها القنوات العالمية، لأعلامٍ تتجاور فوق منصة واحدة، ولزعماء يبتسمون بحذر بدت وكأنها تلخص مأساة المنطقة: أمل متردد يطل من بين الركام. وبينما كانت العدسات تلتقط المصافحات، كانت الأسئلة الكبرى تهمس في الخلفية: هل يمكن للسياسة أن تعيد بناء ما هدمته المدافع؟ وهل تكفي الإرادة الدولية وحدها لإيقاف دوّامة الخراب؟

قمة شرم الشيخ سوف تكون امتحانا يقيس مدي جدية دول العالم في تحويل الشعارات إلى سلام فعلي. فإذا ما نجحت مصر، بشراكتها مع القوى الكبرى، في تنفيذ خارطة الطريق، فإن التاريخ سيذكر أن من على شواطئ البحر الأحمر انطلقت موجة جديدة من السلام بقيادة مصر. أما إن أخفقت الجهود، فستبقى شرم الشيخ شاهدة على فرصة ضاعت، وستبقي مصر كظهير قوي للمنطقة كلها مهما تكاثرت همومها واشتدت عواصفها.

لقد لبّت القاهرة نداء اللحظة، واستعادت دورها كحارس للتوازن الإقليمي. لكنها تعلم أن الطريق إلى السلام أطول من الطريق إلى القمة، وأن معركة البناء لا تقل قسوة عن معركة السلاح.

وحتى ذلك الحين، تبقى المدينة التي جمعت العالم على مائدة واحدة، رمزًا لامتحان مفتوح بين إرادة الحياة وموروث الصراع، وبين حلم قديم بأن يعود الشرق الأوسط يومًا إلى الهدوء الذي يشبه نسيم البحر في مساءات شرم الشيخ.

abdelsalamfarouk@yahoo.com

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى