البنية العقلية للمجتمع العربي المعاصر

ابتهال عبدالوهاب- كاتبة مصرية
العقل العربي غالبا هو عقل وثوقي، أي عقل مستسلم وخاضع ومقدس للإجابات المسبقة واليقينيات الموروثة، لذا فهو يعيش في صراع طويل وعنيف مع التحولات والتغيرات العالمية لرفضه الاندماج وخوفه من التغيير. وهو ما أنتج بالتالي تناقضات وانفصامات في تعاطيه مع الأخلاق والدين والدولة والآخر المختلف ما يحدث في مجتمعاتنا اليوم هو نتاج غياب العلمانية وليس بسبب عدم تمسكنا بالدين، فنحن أكثر الشعوب في العالم تدينا لكننا اقلها في الأخلاق والعلم والحريات، مما يضعنا امام مطالبات ثقافية وتنويرية تؤسس لمفاهيم فصل الدين عن الدولة وحقوق الإنسان والمساواة وقبول الآخر المختلف من السذاجة أن تعتقد وتؤمن وتصدق بأن المكان الذي ولدت فيه هو أفضل مكان وأن اللغة التي يتكلمها والداك هي أفضل لغة وأن عقيدتك ومذهبك هي الأفضل.. كل ذلك صدفة آمنت بها بلا سؤال ولا تشكيك ولا مراجعة ولا إعادة تفكير.
العقل العربي غالبا لا يرى رأيا سوى رأيه ولا فكرا غير فكره ولا دينا ما عدا الدين الذي يدين به ، فهو يعتقد بأنه يمتلك الرأي الصائب الذي لا يوجد غيره والحقيقة المطلقة التي لا تحتمل الخطأ ، كما أنه يؤمن بإلزامية تعميم قناعاته وتطبيقها على الآخرين حتى لو استلزم ذلك الجبر أو الإكراه أكبر عائق أمام العقل هو الارتكاز على أفكار مدونة لا تقبل الشك ولا النقد ولا تسمح بطرح تساؤلات حولها ، تحيط بهذه الأفكار أسلاك شائكة و يمنع على الجميع الاقتراب منها ومحاولة تفكيكها.
لذلك مثل هذه الأفكار تحد من نشاط الشخص في إطلاق تفكيره وتساؤلاته لفضاء أوسع، خوفا من الوقوعِ في المحظور.. فيسلم بما سمع وبما نشأ وتربى عليه وأصبحت عقولنا مجرد مخازن للكتب الصفراء دون إدراك لما فيها من عوار.. وفقدت بعدها الأجيال جيلا بعد جيل ملكات النقد والتفكير والتدبر والتأمل والتحليل يكون الوطن بخير حين يبتعد الدين عن السياسة، وحين يكون الإنسان حرا دون قيود، وحين تكون الأخلاق والحريات والديمقراطية أساس التعليم يكون الوطن بخير حينما لا يستخدم الدين لأغراض سياسية ويعيش جميع ابناءه في ظله دون تمييز ديني او طائفي او عرقي او حزبي او اي تمييز عنصري ويكون القانون هو المرجع الأول والاخير الإنسان العربي هو ذلك الكائن الذي أهملنا عقلنته ووضعه في المسار الصحيح ليواجه تحديات وجوده ومستقبله، فالعالم اليوم يتميز بالتطور والأنسنة والنقد، وهذه كلها تم منعها ووضع القيود عليها، فأنتج ذلك إنسانا مقيدا و محبطا و عدوانيا منزوع الأخلاق ومستقيل العقل يعيش هاجس الموروث وخوف السؤال علينا أن نرى الاختلاف والتنوع والتعددية والاقليات في المجتمع كإثراء وغنى، وليس كانتقاص للأديان والمعتقدات علينا أن نبدأ من جديد في كل شيء، علينا أن نبني الانسان المواطن الحر، وليس الفرد التابع الخائف المتطرف، علينا أن نتناقش ونفكر دون حدود حتى نستلهم أفضل الافكار والرؤى لقيام مجتمعات علمانية.
علينا أن نفهم أولا أننا لسنا على هذا الكوكب الصغير وحدنا ولسنا مركز الكون ولسنا أفضل أمة كل منجزات العلم والفلسفة والفنون والحريات بدأت حين رفض الإنسان ما تم تلقينه، وفكر خارج العادات والتقاليد والتراث.. الأمل والسعادة والإبداع والمستقبل، للشعوب التي تفكر وتعمل وتبدع، وليس للشعوب التي تنتظر المعجزات والدعاء والسكون في الماضي المجتمع البعيد عن الحريات والعلمانية والتفكير النقدي، لا ينتج مبدعين ومواطنين، بل مرضى ومنافقين ومتخلفين.. والأوطان التي تخنق الأحلام، وتقيد الأفكار، وتحارب الحريات، وتفرض القيود، تصاب الشعوب فيها بالبلادة والجمود، بالخوف والخنوع، بالجهل والاندثار.
للأسف ثقافة مجتمعاتنا العربية، هي ثقافة دينيه طائفية، ثقافة تقوم على الهوية قبل الانسان، ثقافة تقف مع المجرم لأنه من نفس المذهب أو القبيلة، ثقافة تدعم الوصاية، و ترى المرأة عورة، و التفكير جريمة والحريات عهرا، ثقافة خافت من إصلاح ذاتها فخلقت الإرهاب والتطرف والجهل.. تواطئ الدولة مع الرغبات الدينية، لأي طرف في المجتمع، يجعلها دولة ظالمة ومخلة بالعدل، لأنها ستغدو شريكة في محاولة فرض توجه أحادي الهوية بالإكراه، بينما دور الدولة والحكومة الحقيقي، ليس في الدفاع عن أي دين وإنما في الحفاظ على السلم المجتمعي، وحماية حريات المواطنين في حق الاعتقاد مجتمعاتنا العربية، لا يزال ينتظرها أشواط من النضال والمعارك من أجل تجاوز أشكال الماضي لأن لوطن هو استمرارية وتاريخ وتطور وبناء، هو أنت وأنا. وطن لا يجمعنا داخله تعصب لأي دين، أو محاباة لأي مذهب أو عرق بل ما يجعلنا مواطنون فقط هو قيم المواطنة والمساواة والديمقراطية والاندماج الحضاري.