نحو نظام تجارى عالمى جديد

عبدالفتاح الجبالي- الخبير الافتصادي ورئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام الأسبق.
هل أطلق الرئيس الأمريكى دونالد ترامب رصاصة الرحمة على النظام التجارى العالمى الحالي؟ هذا هو التساؤل المطروح الآن عقب السياسة الجمركية الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية، والقاضية بفرض تعريفات جمركية تتراوح بين 10% كحد أدنى على جميع السلع ومن جميع البلدان باستثناءات قليلة، ورسوم أخرى ستفرض على نحو 60 دولة بنسب متفاوتة تصل إلى 49% فى حالة ليسوتو و34% على الصين و20% على الاتحاد الأوروبي. وذلك وفقا لمعادلة حسابية تقوم على قسمة الفائض التجارى للدولة مع الولايات المتحدة على إجمالى صادراتها لها، بناء على بيانات الإحصاء الأمريكى عن عام 2024 ثم يقسم ناتج المعادلة على 2 لنحصل على المعدل لاحتساب الرسوم الجمركية المتبادلة.
الأمر الذى أعاد إلى الأذهان قانون «سموت – هاولي» الذى صدر عام1930 والذى أفضى إلى الكساد الكبير آنذاك واستحضر إلى الأذهان السياسة الجمركية الأمريكية خلال الرئيس ويليام ماكينلي(1897- 1901) والتى رفعت الرسوم الجمركية إلى نحو 50%، وهى السياسة التى يعتبرها ترامب بمثابة العصر الذهبى الأمريكي.
ويهدف الرئيس الأمريكى من وراء هذه السياسة إلى جعل أمريكا عظيمة مجددا من خلال رفع تكلفة استيراد السلع الأجنبية،مما يقلل الطلب عليها ويحد من العجز التجارى الضخم الذى تعانيه البلاد مع بقية دول العالم (البالغ نحو1.1 تريليون دولار معظمها مع الصين بنحو 295 مليار دولار، و236 مليارا مع الاتحاد الأوروبي، و123 مليارا مع فيتنام)، كما يريد إجبار الشركات الأجنبية على الاستثمار والتصنيع داخل الولايات المتحدة بدلاً من التصدير إليها، وكلها أمور سوف تصب فى مصلحة الاقتصادالأمريكى – وفقاً لوجهة النظر هذه -عبر زيادة الدخول والتوظيف وتوفير موارد جديدة للخزانة العامة. وتعد هذه السياسة بمثابة الإعلان الرسمى عن نهاية النظام التجارى القائم حاليا، والمعتمد أساسا على ضمان تدفق التجارة الدولية دون اللجوء إلى ممارسات تمييزية فى التجارة أو أسعار الصرف تحاشيا للعودة إلى فترة الكساد الكبير «1929 – 1932» والتى اصطلح على تسميتها سياسة «إفقار الجار» عبر التخفيض التنافسى للعملات الوطنية مع ما أثارته من ردود أفعال انتقامية عنيفة من جانب البلدان الشريكة فى التجارة وأدت إلى إصابة الاقتصاد العالمى بالوهن والضعف وأدت الى الكساد الكبير.
وقد سار هذا النظام سيرا حسنا حتى بدايات القرن الحالي،فى إطار منظمة التجارة العالمية التى كانت بمثابة التدشين الرسمى لدورة أوروجواى فى إطار الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة « الجات».
وهنا تجدر الإشارة إلى أن تأسيس هذه المنظمة لم يكن سهلا ، حيث كان قد تقرر تشكيلها فى عام 1947 خلال مؤتمر «هافانا» إلا أن الكونجرس الأمريكى رفض توقيع الاتفاقية آنذاك انطلاقا من رغبته فى الحفاظ على السيادة الوطنية للدولة، حيث تخوف الأعضاء من أن يؤدى إنشاء المنظمة إلى التخلى عن القوانين المحلية، التى تسمح بفرض عقوبات تجارية على شركائها التجاريين، ولم يتم التصديق على الاتفاقية إلا بعد أن تأكد الأعضاء من أنها لا تغير الوضع القائم لأى دولة من الدول الأعضاء، وبمعنى آخر فلن تتنازل دولة عن سيادتها لمصلحة المنظمة.
وهكذا يتيح القانون التجارى الأمريكى فرض عقوبات تجارية انتقامية على الدول التى تضع حواجز على تجارتها الأجنبية، أو تمنع الوصول العادل والمتكافئ إلى الأسواق عن أشخاص أو شركات أمريكية.
عموما، فإن السياسة الراهنة، مع ما أثارته من ردود أفعال انتقامية من جانب البلدان الأخرى الشريكة فى التجارة ستؤدى إلى انهيار الضلع الثالث الباقى من نظام « بريتون وودز « القائم على حرية التجارة وفتح الأسواق عبر تخفيض التعريفات الجمركية بحيث يصير البشر فى شتى أنحاء العالم جزءا من سوق استهلاكية عالمية موحدة.الأمر الذى حد كثيرا من إمكانات الدول فى استخدام أدواتها الاقتصادية لتحقيق أهدافها وبدء تحطيم التمييز التقليدى بين السياسات الاقتصادية لبلد ما « الداخلية والخارجية» فأصبح على الدول أن تناقش السياسات الداخلية مع شركائها التجاريين، فلا فرق بين الإجراءات على الحدود مثل «الجمارك» والتدابير الداخلية «كالدعم والإعانات» وهو ما يظهر بوضوح فى إطار المراجعات التى تتم للسياسات التجارية للبلدان الأعضاء فى منظمة التجارة العالمية. لذلك فإن استمرار فرض تعريفات جمركية جديدة من قبل الاقتصادات الكبرى يضع النظام التجارى العالمى أمام مرحلة حرجة تهدد مسارات النمو والاستثمار والتقدم التنموي، خصوصا فى الدول الأقل نموا، كما أشار الى ذلك تقرير «الاونكتاد» الذى أكد أن الاقتصاد العالمي، الذى يواجه بالفعل مستويات نمو منخفضة وديونا مرتفعة، قد يتعرض لمزيد من التباطؤ فى ظل الرسوم الجمركية المتزايدة، ما سيؤدى إلى إضعاف تدفقات التجارة والاستثمار، ويزيد من حالة عدم اليقين التى تعيق التخطيط الاقتصادى وتضر بثقة الأسواق. ويشير التقرير الى أن قواعد التجارة العالمية بحاجة إلى التطوير لمواكبة تحديات العصر، ولكن بطريقة تضمن الاستقرار وتضع التنمية وحماية الفئات الضعيفة فى صلب هذه العملية.إذ إن فقدان الولايات المتحدة مكانتها كقوة اقتصادية منفتحة، وتخليها عن دورها كضامن للنظام التجارى العالمى متعدد الأطراف، سيؤدى ذلك إلى إعادة تشكيل النظام التجارى العالمي. لذلك أصبحنا على شفا مرحلة جديدة تقوم على أسس مختلفة تماما فى ظل وجود لاعبين جدد وتقنيات جديدة وقواعد تعمل على إيجاد اقتصادعالمى مختلف.بل إن فكرة «المزايا النسبية» التى اعتمدت عليها التجارة الدولية ، فيما مضي، قد أصبحت محل شك كبير، بعد أن أدت التطورات التكنولوجية الهائلة إلى ازدياد قدرات الدول على إيجاد قدرات تكنولوجية تمكنها من تطوير طاقتها الإنتاجية وتحولت المجتمعات من « المزايا النسبية» إلى «القدرة التنافسية» وهى تقوم بالأساس، على الانتقال من النظرة الاستاتيكية إلى النظرة الديناميكية، وبالتالى لا ضرورة أن تكون الميزة الوطنية موروثة، إذ يمكن اكتسابها عبر الابتكار التكنولوجي، اى الانتقال من المدخلات المادية إلى المدخلات التكنولوجية. وهو ما أدى إلى التغييرات فى الأهمية النسبية لعوامل الإنتاج، مما يعنى الابتعاد عن التجارة ذات الكثافة فى اليد العاملة غير الماهرة إلى منتجات كثيفة المعرفة.وهكذا إعادة الاعتبار للدولة القومية والتحالفات الإقليمية بدلاً من السوق العالمية، وبدء البحث عن نظام تجارى جديد أكثر إنسانية وعدالة وأقل وحشية.
نقلا عن جريدة الأهرام المصرية.