الاتجاه النزولى للتضخم وآليات الاستقرار

عبد الفتاح الجبالي.. خبير الاقتصاد ورئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام الأسبق 

شهد المعدل السنوي للتضخم العام فى مصر تراجعا ملحوظا مسجلا 12.5% فى فبراير وفقا للرقم القياسي لأسعار المستهلكين، وهو أدنى مستوى له منذ مارس 2022، وبالمثل سجل التضخم الأساسي، وفقا للبنك المركزي نحو 10% مقابل 22.6% فى يناير الماضي. ومع تسليمنا الكامل بأن جزءا كبيرا من هذا التراجع يعود لسنة الأساس، التي كانت مرتفعة للغاية بفعل أزمة العملة والضغوط الاقتصادية آنذاك، الا ان هناك العديد من العوامل التي أدت إلى استقرار الضغوط التضخمية خلال هذه الفترة، منها السياسة النقدية. وهذا لا يعنى بالضرورة ان الأسعار قد انخفضت، بل يشير الى ان الزيادات باتت أبطأ، لذلك فمازالت هناك مخاوف من عودة الاتجاه الصعودى من جديد، خاصة فى ظل التوترات الجيوسياسية الحالية والظروف غير المؤاتية على الصعيدين الإقليمي والعالمي. ناهيك عما أعلنته الحكومة عن عزمها على تحرير أسعار الطاقة ورفع الدعم عن الكثير من المنتجات البترولية والوصول بها الى الأسعار الحقيقية، ماعدا السولار واسطوانة البوتاجاز. وكذلك تسعير بعض الخدمات العامة، وهو ما يسهم فى سيادة التوقعات بشأن التضخم والتي تقوم بدور رئيسى فى دفع عجلة التضخم، نظرا لأن تلك الآراء تؤثر على القرارات المتعلقة بالاستهلاك والاستثمار والتي قد تؤثر بدورها على الأسعار فى الوقت الحالي. وأصبح التوصل للطريقة المثلى لتوفير ركيزة معلومات أفضل لآراء الناس عن التضخم اعتبارا ذا أهمية أكبر فى ظل المخاوف التي أثارتها طفرة الأسعار من احتمال عودة التضخم. وتمثل هذه التوقعات المحرك الرئيسي لديناميكية التضخم فى أي اقتصاد، وقد ازدادت أهمية التوقعات فى الآونة الحالية، مما يعنى أن الناس ربما يكونون أكثر اعتمادا على التوقعات فى اكتساب المعلومات المكونة لرؤيتهم. وقد يرجع ذلك جزئيا إلى ازدياد الخبرات المتعلقة بالتضخم وزيادة تقلباتها تاريخيا.

ومما يخفف من وطأة هذه المسألة العديد من المؤشرات الإيجابية التي ظهرت فى الاقتصاد المصري، خاصة تراجع عجز الموازنة العامة للدولة والذي كان أحد الأسباب الجوهرية للتضخم، حيث انخفض العجز الكلى من 4.66% خلال الفترة (يوليو – نوفمبر 2023/2024) إلى 3.28% خلال نفس الفترة من العام المالي 2024/2025، ناهيك عن ارتفاع معدل النمو فى الناتج المحلى الإجمالي إلى 3.5% خلال الربع الأول من العام 2024/2025 مقارنة بنحو 2.7% خلال الربع الأول من العام المالي 2023/2024.

ولهذا فان التعامل الجدي مع هذه المسألة يتطلب استراتيجية شاملة وكاملة للعلاج عن طريق تفعيل دور الدولة لتعويض أوجه النقص فى عمل نظام السوق وزيادة الشفافية. ولن يتأتى ذلك إلا من خلال وجود رقابة فعالة على الأسواق. فمع تسليمنا الكامل بأهمية آلية السوق فإننا نرى وكما ذكر أحد تقارير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة وبحق» إن كان هناك انتصار للرأسمالية فليس هناك ما يستدعى الجشع الشخصي» وهو ما أكده العالم الاقتصادي الفرنسي ميشيل بو قائلا «بقدر متكون السوق الية اقتصادية لا تعوض، بقدر ما يكون اللجوء اليها فى كل الأحوال امرا من قبيل الجنون القاتل» وقد جاءت هذه التصريحات وغيرها بعد اتضاح الآثار السلبية التي نجمت من الاعتماد على الرأسمالية المنفلتة وسيادة الاحتكارات.

وبالتالي فان نظام السوق له مقومات أساسية ورئيسية لابد من استيفائها حتى يحقق الغرض منه، فى مقدمتها وضع المؤسسات المناسبة لتحقيق الانضباط والأطر التي تحمى حقوق كل الأطراف. ولن يتأتى ذلك إلا من خلال وجود أجهزة رقابية قوية تستطيع مواجهة الأفعال الضارة بالسوق والتي تعوق قدرة الأطراف على اتخاذ قراراتهم وفقا للاعتبارات الاقتصادية وحدها، وكذلك لمواجهة الآثار السلبية الناشئة عن الأفعال التي تهدف إلى الإضرار بالمستهلك او الكيانات العاملة بالسوق. فيما اصطلح على تسميته بالوظيفة التنظيمية للدولة والتي تشمل منع الممارسات الاحتكارية والسيطرة عليها وحماية المستهلك. وينبغي عدم النظر لهذه الرقابة على أنها تدخل فى عمل الأسواق بالمعنى الذي يفقدها حرية المبادرة، وإنما الرقابة هدفها مواجهة الأفعال والتصرفات الضارة بالسوق. خاصة ان المستهلك يمثل أضعف حلقات التعامل، وبالتالي يصبح من الضروري العمل على حمايته من هذه الممارسات. مع تأكيد ضرورة ألا ننظر إلى الرقابة على الأسواق على أنها تدخل فى عمل الأسواق بالمعنى الذي يفقدها حرية المبادرة والتكييف مع المعطيات الاقتصادية المحيطة بها، وإنما الرقابة هدفها مواجهة الأفعال والتصرفات الضارة بالسوق ذاتها والماسة بقدرة العاملين فيها على اتخاذ قراراتهم الاقتصادية على ضوء الاعتبارات التجارية وحدها، وكذلك لمواجهة الآثار السلبية الناشئة عن أفعال تهدف إلى الإضرار بالمستهلك وبالوحدات العاملة بالسوق. وكذلك هناك إمكانيات كبيرة لمساهمة القطاع الخاص فى تهدئة الضغوط التضخمية.

من هذا المنطلق هناك العديد من الآليات التي يمكن اتباعها لضبط الأسواق، كمطلب دستوري أشارت اليه المادة 37 منه. ولن يتأتى ذلك إلا من خلال وجود رقابة فعالة على الأسواق. لمواجهة الأفعال والتصرفات الضارة بالسوق وكذلك لمواجهة الآثار السلبية الناشئة عن أفعال تهدف إلى الإضرار بالمستهلك. مع العمل على إصلاح قانونى جهازي حماية المستهلك وحماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية بغية اعطائهما المزيد من الصلاحيات وإعادة النظر فى الوضع الحالي لمجالس ادارتهما.

فى ضوء ما سبق أصبح من الضروري العمل على تنظيم الأسواق ومواجهة السلوك الاحتكاري وتفعيل دور الدولة لتعويض اوجه النقص. وذلك عن طريق التدخل الواعي والذكي وضبط عملية السوق بما يجعلها قادرة على العمل بكفاءة وفعالية وتضمن توافر الظروف التي تجعل تفاعل العرض والطلب يتم فى إطار حقيقي غير مصطنع، نابع من الإرادة الحقيقية للمتعاملين. مع ضمان التخطيط الاستثماري السليم عن طريق توفير البيانات والمعلومات الأساسية عن القطاعات الاقتصادية بالمجتمع، وذلك بالشكل الذي يمكن الجميع من إجراء دراسات الجدوى السليمة والصحيحة. وكذلك توفير المناخ الاستثماري الجيد. وهذا يعنى ببساطة إيجاد بيئة تنافسية تدفع للمزيد من الكفاءة فى الإنتاج مع ضمان عدالة التوزيع لثمار النمو.

نقلا عن صحيفة الأهرام.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى