لواء أحمد زغلول يكتب.. محطات فى حياتى •• المحطّة العاشرة

ثلاث ساعات هزّت عام 1987 •• حين نادى الحاجب باسمي فاهتزّت حلوان
قصة حقيقية تُقرأ وكأنها مشهد سينمائي •• بدأت بابتسامة وانتهت بعِبرة لا تُنسى
أولاً: بداية هادئة •• وزيارة لا تنذر بالعاصفة
في عام 1987، في زمنٍ لم يعرف الهاتف المحمول ولا سرعة تبادل الأخبار، قررنا أنا وأصدقائي زيارة صديقنا الأكبر سنًّا القاضي عبدالقادر جلال بعد تولّيه رئاسة محكمة حلوان. دخلنا إلى القاعة الواسعة للمحكمة، وكانت ملامحه فوق منصة القضاء تحمل من الوقار ما يجعل المشهد كله لوحة فخر. ابتسم لنا حين رأى وجوهنا، وابتسمنا نحن أيضًا اعتزازًا بصديق طالما كان كبيرًا في نفوسنا قبل أن يكبر في منصبه. كان المشهد في أوله هادئًا ودافئًا لا يحمل أي نبوءة بما سيأتي بعد دقائق قليلة.
ثانيًا: النداء الذي شقّ الصمت وغيّر اتجاه اليوم كله
وقف حاجب المحكمة ونادى بصوته الجهوري: (القضية رقم ١١٣ •• المتهم: أحمد زغلول أحمد).
كانت تلك اللحظة كصفعة على وجوهنا جميعًا. نظرت إلى أصدقائي فوجدت الذهول. نظر القاضي إلينا وقد انطفأت ابتسامته، وتحول وجهه إلى انزعاج صديق يخشى على صديق عمره. أما أنا فقد توقفت أنفاسي؛ هل يُعقل أن أُتّهم بشيء لم أسمع عنه يومًا؟! لم أعرف نوع التهمة، لم أعلم شيئًا، كان الاسم فقط هو الذي دقّ كناقوس. تشابه أسماء؟ خطأ؟ قدر؟ لا أحد يعرف. كل شيء تحوّل فجأة من زيارة تهنئة إلى يوم يشبه بداية فيلم مشوّق لم نقرأ له سيناريو من قبل.
ثالثًا: بحث يائس عن الحقيقة •• والأبواب جميعها مغلقة
خرجنا من القاعة نحاول فهم ما حدث. توجهنا إلى مكاتب الموظفين نسأل عن أي ورقة، أي سطر، أي إشارة تكشف سرّ القضية، لكن الوقت كان قد تجاوز الثالثة والنصف عصرًا، وانتهى توقيت العمل الرسمي وغادر الموظفون. لم نجد أحدًا؛ لا ورقة، ولا موظف، ولا رد. كان الغموض أكبر من كل شيء، وكان الانتظار هو الخيار الوحيد.
رابعًا: في زمن بلا هواتف •• المحكمة تكتظ بالناس
رغم غياب الهواتف المحمولة، انتشر الخبر بطريقة لا يمكن تفسيرها إلا برابطة الحي والعائلة المصرية الأصيلة. امتلأت المحكمة خلال نصف ساعة بما يزيد على ثمانين شخصًا: الأصدقاء، والأقارب، والجيران، وزملاء الدراسة، وفي مقدمتهم والدي – رحمه الله – بوجهه القَلِق الهادئ ودون انفعال، لكنّه يحمل كل خوف الدنيا على ابنه. كانت الوجوه متوتّرة، والعيون متسعة بالأسئلة. لم يكن أحد يعرف الحقيقة… ولا أنا.
من الثالثة والنصف إلى الخامسة والنصف •• كل دقيقة سنة كاملة
كانت تلك الساعات الثلاث اختبارًا عصيبًا. الوقت يزحف ببطء، والهمس يختلط بالتوقعات، والقلق يملأ القلوب.
هل هو تشابه أسماء؟ هل هناك خطأ جسيم؟ هل يمكن أن تغيّر الصدفة يومًا أو حياة؟
لم نملك إلا الانتظار… والانتظار أقسى من أي تهمة.
خامسًا: لحظة الحقيقة •• وعودة النفس إلى الصدر
عند الخامسة والنصف انتهت جلسات القاضي عبدالقادر. طلبتُ مقابلته فأذن فورًا. دخلت مكتبه فرأيته ما يزال متأثرًا، وقال لي مباشرة: (يا أحمد يا زغلول… أنت بتكتب شيك بدون رصيد على نفسك ليه؟!)
كانت هذه أول مرة في اليوم كله أعرف نوع التهمة. قلت له بثقة: (لم أكتب شيكًا في حياتي ولا أعلم شيئًا عن القضية.)
حينها كانت المفاجأة لي أنني تذكرت أنني ضابط بالقوات المسلحة، والذي يحاكمني هو القضاء العسكري لا المدني.
هزّ رأسه وقال: فعلاً… إيه اللي بيحصل ده؟ إزاي قضيتك تيجي محكمة مدنية؟
طلب ملف القضية، وفتح الأوراق، ودقق النظر، ثم رفع رأسه قائلاً الجملة التي أعادت الحياة إلى صدري:
المتهم الحقيقي: أحمد زغلول أحمد السيد •• مبلّط محارة •• تشابه أسماء لا أكثر، وليس لك أي علاقة بالقضية.
انتهت العاصفة، وانتهى قلق الساعات الثلاث، وخرج القاضي بنفسه ليطمئن الجميع ويشرح الحقيقة.
العبرة •• كيف يمكن للحظة أن تكتب درسًا لعمر كامل؟
هذه الحادثة – رغم قصرها – تركت أثرًا لا يمحوه الوقت. لقد أكدت لي أن:
١- تشابه الأسماء قد يصنع عاصفة، لكن الحقيقة لا تضيع.
٢- العائلة وقت الشدة تتحول إلى سور من الحماية أقوى من أي جدار.
٣- القلق يكشف معدن الرجال ويُظهر من يقف إلى جوارك دون انتظار.
٤- العدل حين يكون بيد قاضٍ نزيه لا يضل طريقه مهما تشابهت التفاصيل.
٥- أن القدر قد يختبرك فجأة، لكنه لا يتركك دون لطف خفي.
التوصيات •• ما الذي يتعلمه المجتمع من قصة كهذه؟
١- ضرورة تحديث نظم التحقق من الهوية لتجنب تشابه الأسماء المؤذي.
٢- أهمية الوعي القانوني لدى المواطنين لمعرفة حقوقهم وكيفية التصرف عند المفاجآت.
٣- تعزيز ثقافة الهدوء والتثبّت قبل الحكم، سواء على النفس أو على الآخرين.
٤- العمل على رقمنة سجلات المحاكم لتسهيل البحث الفوري ومنع الأخطاء.
٥- تعليم الأجيال معنى التماسك العائلي ودور العائلة وقت الأزمات.
في نهاية محطتي العاشرة •• لقد كان يومًا كاملًا يُقرأ كفيلم، لكن أحداثه كانت حقيقية بآلامها ومؤثرة بامتناننا لها. بدأ بابتسامة على منصة القضاء وانتهى بابتسامة أكبر في قلوبنا جميعًا. ثلاث ساعات فقط، لكنها كانت كفيلة بأن تترك محطة لا تُنسى في حياتي.