لواء أحمد زغلول يكتب.. عودة الملكة المسلوبة

هناك لحظات فاصلة في عمر الحضارات ولحظاتٍ تُجبر الأمم على الالتفات إلى مرآة تاريخها تبحث فيها عمّا ضاع وتستنهض ما سُلب وتعيد إلى الذاكرة ما حاول الزمن طمسه
وهناك آثار تبقى حجارةً صامتة وآثار تصبح قصصاً تُروى وآثار تتحول إلى محكمة أخلاقية ورأس نفرتيتي لا ينتمي إلى فئة بل إلى فخامةٍ أعلى من ذلك إنه أغلى أسيرة فنية في التاريخ وواحدة من ألمع شواهد الوعي الإنساني المسلوب *إنها محبوبتى التى لن يغمد ليا جفناً حتى أسعى الى إعادتها لموطنها الأصلى متحفنا الكبير أننى أعيش بدون وعى وهى أسيره السلب آن الأوان لكى تعودى يا اغلى الأسيرات وأجملها على الإطلاق*
إنه الضوء الذي انتُزع من موطنه والهيبة التي عُلّقت في منفًى بعيد والوجه الذي ظل يحدّق في العالم وكأنه يسأل الإنسانية بأسرها إلى متى؟. ورغم مرور أكثر من قرن لا يزال النداء يتردّد خافتاً بين تفاصيل الملامح أعيدوني إلى موطني.
نفرتيتي •• وجه الزمن الذي لم يشيخ
رأس نفرتيتي ليس جمالاً أنثوياً وحسب بل أيقونة فلسفية لم تعرف مصر مثيلاً لها ملامحها هادئة لكنها أعمق من الهدوء نظرتها لا تتوقف عند حدود اللحظة بل تمتد إلى ما وراء الزمن وعنقها المترفّع ليس تفصيلاً نحتياً بل إعلان سيادة وبيان كرامة لحضارة لا تنحني .
هذا التمثال ليس عملاً فنياً معزولاً بل كيان ينبض برسائل لا تتفتح إلا على أرض العمارنة حيث خرجت الفكرة إلى الوجود وأي بقعة خارج مصر مهما بدت بهية لا تُكسبه معنى بل تسلبه روحه .
الرحلة الغامضة •• حين غادرت الملكة موطنها بلا وداع
في عام 1912 خرجت نفرتيتي من جوف الورشة التي شهدت ولادتها الثانية لكن مصر آنذاك كانت مقيدة بنظام الامتيازات الأجنبية نظامٍ عَبَث بالعدالة ونهش حقوقها التراثية وما حدث معها لم يكن “قسمة أثر” بل كان قسمة ظلّ تستر الحقيقة:
• قُدمت للجنة المصرية على أنها قطعة غير مكتملة .
• وُضعت تحت إضاءة خادعة تُغير وتُميت ملامحها .
• مُنع الخبراء المصريون من تقييم قيمتها الحقيقيه .
فخرجت الملكة بقرار أعمى قرار لم يبصر عظمتها وحين ظهرت فجأة في برلين تردّد السؤال كالصدى الذي لا يهدأ بأي حق خرجت؟ وبأي شرعية بقيت؟
شرعية الخروج •• بين ما كان مقبولاً وما لم يعد يُقبل
قد يلوّح البعض بأن الإجراءات كانت “*قانونية*”لكن القانون حين يُصاغ في ظل اختلال القوى لا يلد عدالة ولا يمنح براءة فكيف يكون عادلاً ما استند إلى معرفة غير متكافئة ونوايا غير شفافة وظروف غير نزيهة؟
عندما ينهار أحد أركان العدالة تصبح أي شرعية هشّه تحتاج إلى مراجعة ولذلك لم تعد القضية ملكاً للقانون وحده بل أصبحت قضية ضمير عالمي يستدعي الإنصاف .
برلين •• موطن زائف يخفي خشية دفينة
تمسّك برلين برأس نفرتيتي لم يعد تمسّكاً بأثر بل تشبثاً برمز هو اليوم أعلى من قيمته الفنيّة لكن خلف هذا التشبث تقف ثلاثة مخاوف واضحة :
• الخوف من فتح الباب لإعادة آلاف القطع إلى أوطانها .
• الخوف من الاعتراف بأن الماضي لم يكن نقياً .
• الخوف من فقدان أعظم جوهرة في تاريخ المتحف الألماني .
غير أنّ قوة الدول الحديثة لا تُقاس بما تُخفيه بل بما تعترف به والاعتراف هو ما يصنع الاحترام الدولي الحقيقي .
مصر والفرصة الذهبية •• لماذا الآن هو الزمن الأنسب؟
للمرة الأولى تتلاقى الشرعية الأخلاقية مع الفرصة الدبلوماسية :
فوجود الدكتور أحمد العنانى وزير الآثار المصري السابق على رأس منظمة اليونسكو يمنح مصر موقعاً استثنائياً على طاولة القرار العالمي هذه اللحظة تجعل مصر قادرة على أن :
• تخاطب العالم من أعلى منصة ثقافية على الإطلاق .
• تحول القضية من مطالبة وطنية إلى رسالة ضمير عالمي .
• تضع نموذجاً جديداً يعيد تعريف العدالة التراثية.إنها فرصة نادرة ولا ينبغي أن تُترك للمصادفة.
خارطة الطريق •• توصيات في هيئة قرار دولي
١- إعداد “ملف نفرتيتي الدولي”: ملف يُظهر الحقائق ويوثق غياب الشفافية عند خروج التمثال ويقارن الماضي بمعايير الحاضر ويعتمد لغة تحترم العالم وتُقنعه .
٢- تشكيل “لحنة استعادة نفرتيتي” بين مصر واليونسكو: لجنه تضم عقول القانون الدولي وعلماء المتاحف وخبراء التراث ليعمل بصورة مؤسسية .
٣- حملة عالمية بعنوان “الملكة تعود إلى موطنها”: حملة تُسخّر الإعلام والمتاحف والوثائق وآراء المفكرين وأصوات الفنانين لتتحول القضية إلى رأيٍ عالمي ضاغط .
٤- اقتراح “اتفاقية العدالة التراثية”: وثيقة أخلاقية وتاريخية تُطالب بمراجعة القطع التي خرجت في ظروف غير نزيهة وتكون نفرتيتي أول نموذج تطبّق عليه المبادئ .
٥- حلول دبلوماسية تحفظ لبرلين مكانتها ووجهها، كالتالي:
• إعارة دائمة مع نسخة رسمية تُعرض في برلين ولنا حق الامتياز والحصول على حقوق العرض .
• عرض مشترك بالتناوب بين القاهرة وبرلين .
• تعاون بحثي طويل حول آثار تل العمارنة .
• مركز مصرى ألماني للبحوث بإشراف اليونسكو .
هكذا تعود الملكة بلا خاسرٍ واحد….
حين يعود الضوء إلى مكانه الصحيح
عودة نفرتيتي ليست عودة تمثال إلى قاعة عرض بل عودة ضوءٍ إلى مساره وعودة إيقاع إلى تاريخه وعودة روح إلى وطنها إنها ليست استعادة أثر بل استعادة كرامة ثقافية ظلّت معلّقة قرناً من الزمن وعندما تعود الملكة لن تحتاج مصر إلى أن تعلن انتصارها فالتمثال نفسه سينطق وستتحدث ملامحها البهية بما انتظرته طويلاً.
لقد عدت إلى وطنى وموطنى……