المشورة بين التاريخ والآفاق: قراءة في مسار المجالس الاستشارية المصرية

منذ فجر التاريخ، كانت المشورة تمثّل أحد أعمدة الحكم الرشيد، فهي البوصلة التي تهدي القرار نحو المصلحة العامة، والمرآة التي تعكس وعي المجتمع ومكانة الرأي في منظومة الدولة. وإذا كانت مصر، عبر تاريخها الطويل، قد عرفت أشكالًا متعددة من الحوار السياسي والإداري، فإن فكرة المجلس الاستشاري بمعناها المؤسسي جاءت ثمرةً لرحلة تطوّر طويلة انتقلت فيها المشورة من ساحة الحاكم الفرد إلى فضاء الدولة الحديثة التي تسعى لتكامل الخبرة والعلم والرأي.

هذه الدراسة لا تعيد صياغة ما كُتب سابقًا، بل تفتح أفقًا جديدًا في النظر إلى فكرة المجلس الاستشاري في مصر عبر قراءة نقدية مقارنة بين الماضي والحاضر والمستقبل المتوقع، بلغة تحترم التاريخ وتستلهم الحاضر وتستشرف الغد.

أولًا: ملامح البدايات وبذور الوعي المؤسسي

في القرن التاسع عشر، ومع انطلاق حركة الإصلاح الإداري وبناء الدولة الحديثة، بدأت تتشكل أولى ملامح المؤسسات التي تقوم على المشورة والتنظيم. كانت تلك المجالس تُعقد في ظل ظروف سياسية معقدة، لكنها فتحت بابًا جديدًا أمام فكرة العقل الجماعي في إدارة الدولة، بعد أن ظل القرار لعقود طويلة حكرًا على رأس السلطة.

ولم تكن تلك المجالس تملك صلاحيات تقريرية أو تنفيذية، لكنها مثّلت نقطة تحوّل في الثقافة السياسية المصرية، إذ أوجدت لأول مرة مساحةً للتداول المؤسسي، وربطت بين القرار والإدارة والمعرفة، فكانت بداية لتأسيس فكر إداري حديث يعتمد على الحوار المنظَّم لا على الرؤية الفردية.

ثانيًا: من التجربة الإدارية إلى الوعي المؤسسي الحديث

مع مرور الزمن، بدأت المشورة تخرج من الإطار الضيق للمكاتب السلطانية إلى رحاب الدولة الحديثة، فقد أصبحت المجالس تُشكَّل بقرارات رسمية، وتُكلَّف بدراسة قضايا التعليم والاقتصاد والتنمية المحلية ومراجعة السياسات العامة.

وفي هذه المرحلة بدأت مصر تشهد ما يمكن تسميته بالتدرّج المؤسسي للمشورة، إذ أصبحت تلك المجالس إطارًا فكريًا وإداريًا يُحتكم إليه في صياغة بعض السياسات العامة، ولو بقي القرار النهائي في يد السلطة التنفيذية.

كانت تلك التجارب، رغم محدوديتها، بمثابة المختبر الأول للحكم المؤسسي، وفتحت الطريق أمام مبدأ المشاركة المهنية في صناعة القرار، وأرست تقاليد استشارية أصبحت جزءًا من البناء الإداري للدولة المصرية الحديثة.

ثالثًا: الحاضر •• المشورة كأداة للحوكمة الرشيدة

في حاضرنا، لم تعد الاستشارة مجرد شكل من أشكال التقدير للنخب أو وسيلة تجميل سياسي للقرار، بل أصبحت عنصرًا أصيلًا من عناصر الإدارة العامة الحديثة.

والمجالس المعاصرة أصبحت أكثر تنوعًا من حيث تخصصاتها، وأكثر دقةً في منهج عملها، وأكثر تفاعلًا مع مؤسسات الدولة التنفيذية والبحثية.

ولم تعد تُدار بعقل فرد، بل بمنهج تشاركي يدمج بين المعرفة الأكاديمية والخبرة العملية.

وإن طبيعة المرحلة الراهنة، بما تحمله من تحديات في الاقتصاد والأمن والتنمية والتحول الرقمي، فرضت على الدولة أن تجعل من المشورة آلية استراتيجية لصناعة القرار؛ فالعصر لم يعد يحتمل قرارات أحادية، بل يتطلب مؤسسات تستند إلى تحليل علمي، ومراجعة موضوعية، ومتابعة مستمرة للأثر المجتمعي لكل قرار.

رابعًا: قراءة مقارنة بين الماضي والحاضر والمستقبل

إذا كان الماضي قد عرف المشورة في شكلها الرمزي المرتبط بإرادة الحاكم، فإن الحاضر يشهد تطورًا نوعيًا يجعلها ممارسة مؤسسية منظَّمة تسندها قوانين وتدعمها أجهزة بحثية وخبراء متخصصون.

أما المستقبل، فالمتوقع أن تنتقل المجالس الاستشارية إلى مرحلة جديدة من الاستشارة الذكية، حيث يصبح القرار نتاجًا لتفاعل بشري وتقني متكامل يعتمد على البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي وتحليل الاتجاهات المجتمعية في الزمن الحقيقي.

في الماضي كان صوت المجلس يُسمع بعد اتخاذ القرار، وفي الحاضر يُستمع إليه قبل اتخاذ القرار، أما في المستقبل فسيكون شريكًا في صياغة القرار ذاته من خلال منظومات رقمية تحلّل وتُقدّر وتوصي في الوقت نفسه.

بهذا المعنى يتحوّل المجلس من مجرد هيئة استشارية إلى عقل وطني جماعي يعمل بالتكامل مع مؤسسات الدولة، لا على هامشها.

خامسًا: دلالات التطور وأبعاده الاستراتيجية

يُبرز هذا المسار التاريخي أن المشورة في التجربة المصرية لم تكن طارئة أو ترفًا إداريًا، بل جزءًا من الوعي الوطني المتجدّد الذي يرى في المشاركة عقلًا إضافيًا للدولة.

ويحمل هذا التطور دلالات محورية، من أهمها:

١- أن قوة القرار لا تُقاس بصرامته، بل بعمق الحوار الذي سبقه.

٢- أن المشاركة في صناعة القرار هي ضمانة الاستقرار، وليست تهديدًا للسلطة.

٣- أن الاستشارة في العصر الرقمي ستصبح علمًا قائمًا بذاته له أدواته وقواعده ومؤسساته.

سادسًا: نحو مجلس وطني استشاري للمستقبل

إن بناء مجلس استشاري وطني فاعل للمستقبل لا يعني استنساخ تجارب الماضي، بل تطويرها. أما المجلس القادم فينبغي أن يقوم على خمس ركائز أساسية:

• المعرفة المتخصصة: بأن يكون أعضاؤه من أصحاب الخبرة العلمية والعملية في مجالاتهم.

• الشفافية: بأن تكون توصياته معلنة ومبنية على بيانات دقيقة.

• الاستقلال المهني: بحيث يمارس دوره دون ضغوط سياسية أو إدارية.

• التحول الرقمي: باستخدام نظم الذكاء الاصطناعي لدعم عملية صنع القرار.

• التفاعل المجتمعي: من خلال منصات تتيح للمواطن أن يكون طرفًا في الحوار الوطني حول القرارات المصيرية.

بهذه الأسس، يصبح المجلس الاستشاري شريكًا في صناعة المستقبل، لا مجرد مراقب له.

في النهاية، إن مسيرة المشورة في مصر هي قصة تطوّر عقل دولة انتقل من الفردية إلى المؤسسية، ومن الانغلاق إلى الشفافية، ومن الرأي المسموع إلى الفكر المتبادل.

ولعل أعظم ما يمكن أن تحقّقه المجالس الاستشارية في المستقبل هو أن تتحوّل إلى ضميرٍ معرفي للدولة يحمي القرار من التسرّع، ويصون المصلحة العامة من هوى المصالح الخاصة.

فالتاريخ يعلّمنا أن الدول التي تُحسن الإصغاء لعقولها لا تخطئ وجهتها، والمستقبل – بلا شك – سيكون لمن يُحسن إدارة الفكر قبل إدارة القرار.

لواء أحمد زغلول

اللواء أحمد زغلول مهران، مساعد مدير المخابرات الحربية الأسبق، وعضو الهيئة الاستشارية العليا لمركز رع للدراسات الاستراتيجية. كما أنه خبير متخصص في الشؤون العسكرية والأمنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى