جيل أميركي جديد يعيد رسم ملامح الوعي.. فلسطين تكسر الصمت في الضمير الأميركي

تحوّل في الوعي لا في السياسة بعد… لكنه قادم
تشير دراسة أميركية حديثة إلى تغيّر لافت في مواقف الفئة العمرية بين 18 و35 عامًا تجاه قضايا السياسة الخارجية، وعلى رأسها الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي. فبعد عقودٍ من الدعم الشعبي شبه المطلق لإسرائيل، بدأت قناعات جديدة تتشكّل في أوساط الشباب الأميركي، تُعيد النظر في الثوابت القديمة التي حكمت السياسة الأميركية لعقود.
وقد أظهرت الدراسة، التي شملت عينات من الجامعات ومراكز البحث، أن أكثر من نصف المشاركين يرون أن الموقف الأميركي من فلسطين غير عادل، وأن الدعم المطلق لإسرائيل يتناقض مع قيم العدالة وحقوق الإنسان التي يدّعيها النظام السياسي الأميركي.
يأتي هذا التحوّل في وقت تتراجع فيه ثقة الجيل الجديد بوسائل الإعلام التقليدية، مقابل تصاعد تأثير المنصات الرقمية المستقلة التي باتت تكشف الوجه الآخر للأحداث.
7 أكتوبر •• لحظة الانكشاف الكبرى
لم تغيّر أحداث السابع من أكتوبر مجرى الصراع في الشرق الأوسط فحسب، بل هزّت صورة أميركا في مرآة ضميرها الداخلي. فبينما واصلت واشنطن تقديم دعمٍ مطلقٍ لإسرائيل، شاهد الأميركيون عبر شاشاتهم قصفًا متواصلًا على غزة وسقوط ضحايا مدنيين بلا تمييز.
هنا انكشف التناقض بين الخطاب الأميركي حول حقوق الإنسان وبين الممارسة الفعلية على الأرض.
جيل الجامعات ومنصّات التواصل لم يعد يكتفي بالبيانات الرسمية، بل بدأ يرى ويسأل ويقارن.
فالمشهد الذي حاولت الحكومات الأميركية تبريره على مدى عقود أصبح اليوم قضية إنسانية مكشوفة أمام الرأي العام، وأدى ذلك إلى بداية مراجعة فكرية وأخلاقية واسعة.
من التأييد الأعمى إلى المراجعة الواعية
هذه المراجعة لم تولد فجأة، بل هي نتاج تراكمات:
تراجع الثقة في المؤسسات السياسية والإعلامية التي فقدت مصداقيتها أمام ازدواجية المعايير المتكرّرة.
تنامي الوعي الحقوقي لدى الشباب الأميركي الذي يرى نفسه جزءًا من عالمٍ متصل لا من عزلة قومية.
اتساع التيارات التقدمية داخل الحزب الديمقراطي، التي بدأت تتحدث بوضوح عن العدالة الاجتماعية وحقوق الشعوب المقهورة.
وأخيرًا، تأثير وسائل الإعلام الرقمية التي كسرت احتكار الرواية الإسرائيلية وهيمنتها لعقود.
بهذه العوامل مجتمعة بدأ الرأي العام الشبابي الأميركي يتحرر من أسر الروايات القديمة، ويدخل مرحلة “المراجعة الأخلاقية” لسياسات بلاده في الشرق الأوسط.
زهران ممداني •• وجه الجيل الجديد وصوت المراجعة الأخلاقية
من أبرز مخرجات هذا التحوّل يبرز اسم زهران ممداني، النائب الشاب في برلمان ولاية نيويورك، الذي أصبح أحد الأصوات الصاعدة المطالِبة بإعادة النظر في الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل.
ممداني ذو الأصول الآسيوية يمثّل نموذجًا حيًّا للجيل الجديد الذي يعبّر عن أميركا متعددة الهوية والضمير، ويدافع عن العدالة الإنسانية كقيمة عالمية لا تخضع للانتقائية السياسية.
خطابه الجريء داخل المؤسسات التشريعية يعكس التحوّل القيمي في بنية المجتمع الأميركي الشاب، الذي يرى أن الدفاع عن فلسطين ليس موقفًا أيديولوجيًا، بل اختبارًا لمصداقية القيم الأميركية نفسها.
وقد أصبح اليوم عمدةً لمدينة نيويورك، في إشارةٍ رمزية إلى صعود هذا الوعي الجديد، وصعود أمثال ممداني إلى مواقع صنع القرار المحلي ليس إلا المقدمة الأولى لتحولاتٍ أعمق ستظهر في الأعوام القادمة مع اتساع حضور هذا الوعي في الجامعات والإعلام والمنظمات الحقوقية.
ترامب •• وحالة التعرّي السياسي
إن فترة الرئيس دونالد ترامب، رغم انحيازها الكامل لإسرائيل، أسهمت بطريقةٍ غير مباشرة في تعرية السياسة الأميركية أمام شعبها.
فسياسات “أميركا أولًا” كشفت أن المصالح، لا القيم، هي ما يحكم القرار، وأن الحديث عن الحرية وحقوق الإنسان ليس إلا غطاءً سياسياً.
هذا الانكشاف جعل الشباب الأميركي أكثر وعيًا، وأكثر ميلًا إلى مساءلة الرواية الرسمية التي طالما قُدّمت لهم بوصفها حقيقة مطلقة.
موقف إسرائيل من هذه الدراسة •• قلق مكتوم وتوجّس استراتيجي
تتابع إسرائيل هذا التحوّل في الوعي الأميركي باهتمامٍ وقلقٍ بالغين، إذ تدرك أن قوتها السياسية في واشنطن لا تقوم فقط على التحالفات الحكومية، بل على عمق التأييد الشعبي الأميركي الذي وفّر لها غطاءً أخلاقيًا لعقود.
ومن ثم فإن أي تآكل في هذا التأييد، خصوصًا داخل الفئة الشبابية، يعني تهديدًا استراتيجيًا طويل المدى لعلاقاتها الخاصة بالولايات المتحدة.
الدوائر الإسرائيلية المقرّبة من مراكز صنع القرار تنظر إلى هذه الدراسات بوصفها مؤشرات خطر، وتشير تقاريرها الداخلية إلى ضرورة تكثيف الجهود الإعلامية والدبلوماسية داخل الجامعات الأميركية والمؤسسات البحثية لإعادة ترميم الصورة.
وقد بدأت بالفعل مبادرات إسرائيلية جديدة في أوساط الإعلام الأميركي الموجّه واللوبيات التقليدية لمواجهة الخطاب المتصاعد الذي يربط بين الاحتلال وسياسات الفصل العنصري.
لكن المعضلة الكبرى لإسرائيل أن الجيل الأميركي الجديد لم يعد يتلقى معلوماته من القنوات التي تسيطر عليها، بل من شبكاتٍ تفاعلية يصعب ضبطها.
لذلك يُتوقّع أن يزداد القلق الإسرائيلي في السنوات المقبلة، كلما تراجع تأثير دعايتها التقليدية وبرز جيل أميركي أكثر نقدًا وأقل استعدادًا لتبرير العنف ضد الفلسطينيين.
المستقبل وعيُ اليوم وسياسةُ الغد
صحيح أن هذا الجيل لم يصل بعد إلى البيت الأبيض أو الكونغرس، لكنه بدأ بالفعل يتسلل إلى مراكز التأثير في الجامعات ووسائل الإعلام والمؤسسات الحقوقية.
ومع مرور الزمن، سيجد هذا الوعي طريقه إلى صناعة القرار، وقد ظهرت بوادره في نيويورك.
عندها قد لا نشهد انقطاعًا جذريًا في التحالف الأميركي–الإسرائيلي، لكننا سنرى تغييرًا في طريقة التفكير، وفي درجة النقد، وفي مساحة العدالة داخل الخطاب السياسي الأميركي.
كيف يمكن للعرب والفلسطينيين استثمار التحوّل؟
1. إعادة صياغة الخطاب الفلسطيني بلغةٍ أميركية: لغة الحقوق والعدالة لا لغة الشعارات السياسية.
2. التركيز على التواصل مع الأجيال الشابة في أميركا عبر الإعلام الجديد وبرامج التبادل الأكاديمي والثقافي.
3. إنتاج محتوى إعلامي إنساني وموثوق يوازي صدقية الصورة التي تصل إلى الجمهور الأميركي.
4. العمل مع التيارات التقدمية في واشنطن لبناء تحالفات فكرية وقيمية طويلة المدى.
الوعي الذي لا يمكن إيقافه
التحوّل الجاري في الوعي الأميركي ليس موجةً عاطفية عابرة، بل عملية تراكمية تتجذّر بهدوء.
الجيل الذي يرى فلسطين اليوم بعين العدالة هو نفسه الذي سيقود غدًا الإعلام والسياسة وصناعة الرأي.
وكل “زهران ممداني” يظهر في المشهد السياسي هو إشارة إلى أن ما كان يُعدّ يومًا “مستحيلًا” بدأ يتحقق فعلًا.
إنها بداية مرحلة جديدة لا يُعاد فيها تعريف الموقف من فلسطين فحسب، بل يُعاد فيها تعريف الضمير الأميركي ذاته.
وحين يصل هذا الوعي إلى السلطة، ستكون أميركا أمام امتحانها الحقيقي: هل تنحاز إلى قيمها المعلنة أم تبقى أسيرة ماضيها؟ الجواب ما زال في الطريق، لكن المؤشرات تقول إن القادم مختلف… وقريب.