لواء أحمد زغلول يكتب: محطات في حياتي.. المحطة الثامنة

حينما امتحن الله الصبر فانتصر الإيمان وظهرت معادن الرجال

حين تتوقف الأنفاس ويبدأ الامتحان

كان عام ٢٠٢١ عامًا مفصليًا في حياتي، بل يمكنني القول إنه العام الذي أعاد تشكيل روحي ونظرتي إلى الدنيا، فبين ليلةٍ وضحاها وجدت نفسي في مواجهة عدوٍّ خفيٍّ لا يُرى بالعين، لكنه يُسقط الأمم ويرهق الأجساد. إنه فيروس كورونا المستجد الذي اجتاح العالم كله.

بدأت الأعراض بخمولٍ وضيقٍ في التنفس، ثم توالت العواصف: نزيفٌ مستمر لأربعة أشهر، وفقدان الشم والتذوق، وأرقٌ لا يُطاق، وسعالٌ متواصل، وفقدانٌ قاسٍ في الوزن تجاوز ٢٥ كيلوجرامًا.

كانت حالتي تتدهور بسرعة، ومع كل يوم كنت أقترب خطوةً نحو المجهول. دخلت المستشفى وخضعت لقسطرةٍ قلبية، تبيّن بعدها أن الأمر ليس قلبيًا بل إصابةٌ حادة بفيروس كورونا. في تلك اللحظة أدركت أنني أمام امتحانٍ إلهي لا ينجو منه إلا من صبر واحتسب.

العائلة كلها في العاصفة

لم أكن وحدي في هذا الابتلاء، بل اجتاح المرض بيتي بأكمله: زوجتي وثلاث بناتي. كبرى بناتي “منة الله” طبيبة امتياز في ريعان شبابها (٢٣ عامًا)، وتليها أختها ذات التسعة عشر عامًا، ثم الصغيرة ذات السابعة عشرة عامًا.

أُصيب الجميع بالفيروس بدرجاتٍ متفاوتة، لكن حالتي كانت الأشد خطورة. وبينما كانت زوجتي تقاوم المرض وهي تساند الجميع، كان أمامنا خياران: العزل في المستشفى أو العزل المنزلي. اخترت المنزل لأن العدوى قد طالت الأسرة كلها، فبدأنا معًا رحلة علاجٍ طويلة امتدت تسعة أشهر كاملة، من ١١ يناير حتى سبتمبر ٢٠٢١، تسعة أشهر من الصبر والمكابدة والرجاء في رحمة الله.

وائل حسن عصر.. رجلٌ من معدن الوفاء

في تلك الأيام القاسية، حينما كانت زيارة المريض محرّمة والخوف سيد الموقف، تجلت أمامي صورةٌ نادرة من الوفاء والرجولة: صديقي الغالي المهندس وائل حسن عصر، رئيس مجلس إدارة شركة “بترو مصر” للخدمات البترولية.

يقيم في مدينة طنطا، ومع ذلك كان يأتي يوميًا إلى القاهرة في أوج الأزمة، وقت الحظر والعزل، فقط ليسأل عني. لم يكن يدخل البيت خوفًا على سلامة الجميع، لكنه كان يقف أمام باب الشقة، يترك الدواء والطعام ويغادر بعد أن يسمع صوتي من بعيد مطمئنًا أنني ما زلت أتنفس.

كان يبحث بنفسه عن أدوية سمع أنها قد تفيد، يجري الاتصالات داخل مصر وخارجها، بل فكّر جديًا في السفر إلى ألمانيا لجلب علاجٍ جديد ظهر هناك، لولا أن الجائحة أغلقت كل الأبواب.

لقد كان حضوره اليومي طاقة حياة بالنسبة لي، وشعاع أملٍ وسط ظلام المرض. رجلٌ بهذه الشهامة والإنسانية لا يُنسى. وائل حسن عصر اسمٌ يُكتب على صفحات الوفاء بأحرفٍ من ذهب.

سامح يسري.. الفنان الذي غنّى للإنسانية

لم يكن الصديق العزيز، الفنان الكبير سامح يسري، بعيدًا عني في تلك الأيام العصيبة. كان صوته يأتيني كل يوم يحمل طمأنينةً نادرة وكلمة صدقٍ تُعيد للقلب نبضه. لم يتردد في زيارتي أكثر من مرة رغم علمه بخطورة العدوى. كان دائم الدعاء والسؤال، كأنه جزء من الأسرة.

لقد أثبت لي أن الفن ليس صوتًا على خشبة المسرح، بل قلبٌ يعرف معنى الوفاء. وكان دائمًا يقول لي: “من يبتليه الله يرفعه يا صديقي، هذا اختبار وليس عقابًا.”

كلماته كانت بلسماً على جراح الروح، وكنت أشعر أن الله يرسل لي من خلاله رسالة رجاءٍ وصبرٍ كل يوم.

الأستاذ علي الشرباني.. صديق المواقف الصامتة

ومن بين من وقفوا بجانبي في تلك المحنة لا يمكن أن أنسى الصديق العزيز الأستاذ علي الشرباني، رئيس مجلس إدارة إحدى كبرى شركات التطوير العقاري (T.B.K)، والذي كنت أتشرف بالعمل معه مستشارًا لمجلس الإدارة.

رغم ثقل مسئولياته وسفره الدائم بحكم عمله، لم يمر يومٌ إلا وكان يتواصل مع زوجتي للاطمئنان على حالتي وعلى الأسرة كلها. كان دائم السؤال، رقيق المشاعر، متابعًا لكل تطورٍ في حالتي الصحية. في وقتٍ انشغل فيه الناس بأنفسهم، كان هو يرسل كلماته الدافئة من قلبٍ صادقٍ يشعر بما نعانيه.

كان من ذلك النوع من الرجال الذين لا يتحدثون كثيرًا، ولكن حضورهم الأخلاقي يسبقهم. علي الشرباني رجلٌ يعرف كيف يكون الوفاء والإنسانية بلا إعلان.

الجيران والأصدقاء.. ملحمة حب وإنسانية

في كمبوند سما القاهرة حيث أعيش، شهدت مشهدًا من أرقى صور التكافل الاجتماعي والإنساني، فقد تحوّل الجيران إلى عائلةٍ واحدة، يتبادلون الأدوار في إعداد الطعام وإيصاله إلينا يوميًا، يطمئنون عبر الهاتف، يرسلون الأدعية والرسائل المليئة بالمحبة.

كانت زوجتي تتلقى اتصالاتٍ لا تنقطع من الأصدقاء والأقارب، وكلٌّ منهم يريد أن يقدم شيئًا: وجبة، دواء، دعم نفسي، أو حتى دعاءً صادقًا.

كانت لحظاتٍ عظيمة تُعيد الإيمان بأن الخير لا يزال يسكن بين الناس، وأن الأزمات تصنع أبطالًا.

ابنتي منة الله •• بطلة الحكاية وسند العائلة

إذا كان المرض قد كشف معادن الرجال، فقد كشف أيضًا معادن الأبناء. ورغم أنني رأيت بطولاتٍ كثيرة في حياتي العسكرية والمدنية، فإن ما رأيته من ابنتي د. منة الله أحمد زغلول فاق كل تصور.

كانت مصابةً بنفس المرض، تعاني الحمى والإرهاق، لكنها لم تسمح لنفسها بالراحة. كانت تتابع أدويتي بدقة، تُنظم مواعيد العلاج، تستدعي الأطباء حين تتدهور حالتي، وتتابع الأشعة والتحاليل بنفسها.

كانت تضع الكمادات على وجهي رغم ضعفها، وتخفف عن والدتها وأخواتها، وتقاوم المرض بإيمانٍ عجيبٍ وابتسامةٍ تُشعرنا أن كل شيء سيكون بخير.

كنت أراقبها وأقول لنفسي: “هذه الصغيرة هي الجندي المجهول في هذه المعركة.” منة الله، كنتِ بطلة بيتنا وسندًا لنا جميعًا، وستظلين رمزًا للحب والوفاء إلى الأبد. أدعو لكِ بدوام الصحة والعافية والسداد والستر، ويعوضكِ الله خيرًا، اللهم آمين.

جذور الطُّهر •• أطعمتُ أسرتي حلالًا فنجّانا الله

في أشد لحظات الضعف، حينما كنت أظن أنني على مشارف الرحيل، لم يكن خوفي على نفسي بقدر ما كان تفكيري في أسرتي وفي بناتي وفي ما تركتُ لهن من إرثٍ معنوي.

كنت أقول لزوجتي وأنا أحتضن المصحف: “أحمد الله أنني طوال حياتي لم أطعمكم إلا من حلال.”

لم يدخل بيتي مالٌ حرام، ولم تمتد يدي إلى ما ليس لي، ولم تأكل بناتي لقمةً مشبوهة. لقد تعلمت منذ صغري أن الحلال بركة، وأن الله يبارك في القليل الطيب أكثر مما يضاعف في الكثير الملوّث. وعندما اشتد بي المرض، شعرت أن هذه البركة هي التي تحيط بنا وتحفظنا. كنت مؤمنًا أن الحلال لا يحمي الجسد فقط، بل يحفظ الروح والذرية.

لقاء الطبيب الجليل •• وبداية الشفاء

بعد تسعة أشهر من الألم والسعال الذي أنهك كلَّ ذرةٍ في جسدي، قادني القدر، أو بالأحرى لطف الله، إلى الطبيب الإنسان اللواء الطبيب/ سامح مهيب، استشاري الأمراض الصدرية بالقوات المسلحة، والذي دلّني عليه القائد السابق اللواء/ مدحت الشريف الذي تحدثت عنه في محطتي الرابعة.
استقبلني بابتسامة ودودة وثقةٍ هادئة، وبعد الفحص قال: “أنت تحمل بكتيريا صدرية تُسمى كنديدا، وسنقضي عليها إن شاء الله في أسبوع.”

كتب لي دواءً بسيطًا (دفلوكان)، سبعة أقراص فقط، وأوصاني بالعودة إليه بعد أسبوع، وبالفعل مع نهاية اليوم السادس توقف السعال تمامًا، وكأن معجزة حدثت.
ذهبت إليه في الموعد وشكرته من القلب، فابتسم وقال بتواضع: “الشفاء من الله، نحن مجرد أسباب.”
كانت تلك اللحظة إعلان نهاية رحلة الألم وبداية ميلادٍ جديد.

القرآن •• النور الذي أضاء العتمة

في فترة العزل الطويلة، حينما كنت عاجزًا عن النوم أو الحركة، طلبت من زوجتي أن تُحضر منضدة صغيرة أضع عليها المصحف الشريف. بدأت أقرأه بتدبرٍ وتفسيرٍ، لا كمن يقرأ الحروف بل كمن يحيا المعاني.
شعرت أن كل آيةٍ تخاطبني أنا، وأن الله يُحدثني مباشرة. تلك اللحظات كانت أشبه بولادةٍ جديدةٍ لروحي وتطهيرٍ شاملٍ لقلبي. لقد عرفت الله أكثر، وعرفت نفسي أكثر، وتيقنت أن المرض أحيانًا لم يكن نقمة، بل طريقًا إلى الصفاء.

بعد العاصفة •• دروسٌ من ذهب

خرجتُ من تلك المحنة إلى منحةٍ من الله. خرجت إنسانًا آخر؛ صحيح أن الجسد أضعفه المرض، لكن الروح ازدادت إشراقًا، والعقل صار أكثر هدوءًا.
رأيت في الناس خيرًا كثيرًا، وعرفت قيمة الأصدقاء الحقيقيين، وأيقنت أن الأخلاق الطيبة لا تضيع أبدًا. تعلمت أن ما نزرعه من حبٍّ وصدقٍ ووفاءٍ يعود إلينا وقت الشدائد، وأن المال الحلال هو أعظم ميراثٍ نتركه لأولادنا.
وعرفت أن الابتلاء ليس نهاية، بل بداية طريقٍ جديدٍ مليء بالنور.

الجانب المظلم والجانب المضيء من التجربة

الجانب المظلم:
• عزلةٌ قاسية، ونزيفٌ مستمر، وأرقٌ دائم، وخوفٌ على الأحبة.
• شعورٌ بالعجز أمام ألمٍ لا يُوصف، ووحدةٌ لا يبددها إلا الإيمان.
• أيامٌ تمر كأنها سنوات، والوقت ثقيلٌ كالصخر.

الجانب المضيء:
• ظهور معادن الرجال والنساء في أبهى صورها.
• صديقٌ وفيٌّ مثل وائل عصر، وفنانٌ مخلصٌ مثل سامح يسري، ورجلٌ صامت الفعل عظيم الأثر مثل علي الشرباني.
• جيرانٌ كالأهل، وابنةٌ بطلة تمسح الألم بابتسامة.
• يقينٌ متجدد بأن الحلال يحفظ، وأن الله لا ينسى عباده الصادقين.

التوصيات والعِبَر

١- احمدوا الله على نعمة الصحة قبل أن تفقدوها.
٢- اختاروا أصدقاءكم من أصحاب المواقف لا الكلمات.
٣- علِّموا أبناءكم أن الحلال هو السلاح الحقيقي وقت الأزمات.
٤- لا تستهينوا بقوة الدعاء وقراءة القرآن، فهما دواء القلوب قبل الأجساد.
٥- احفظوا الجميل واذكروا من وقف بجانبكم، فالوفاء تاج الكرامة الإنسانية.

نجوت لأن الله أراد لي النجاة.
اليوم، وأنا أستعيد تلك الأيام الصعبة، لا أراها مأساة بل منحةً إلهية متنكرة في صورة محنة.
خرجتُ منها ببدنٍ أضعف، لكن بروحٍ أقوى وإيمانٍ أعمق.
عرفت أن في حياتي رجالًا يستحقون الفخر، وأبناءً يستحقون الدعاء، وأصدقاءً سيظلون وسامًا على صدري ما حييت.
لقد امتحنني الله بالمرض فكشف لي عن وجوهٍ من النور في قلوب البشر، وعن رحمةٍ لا يعرفها إلا من ذاق طعم الابتلاء.
وها أنا اليوم أحمده شكرًا على نعمته، وعلى أنني كنت وما زلت أعيش على الحلال وأطعم منه أهلي، فكان لنا حفظًا وستراً من عنده.

تلك كانت محطتي الثامنة؛ محطة الألم والإيمان، ومحطة الوفاء والبطولة، ومحطة إعادة اكتشاف الحياة.
خرجتُ منها وأنا أرفع رأسي فخرًا بأنني عشت شريفًا، وعرفت معنى الصداقة، وتذوقت حلاوة النجاة.

الحمد لله الذي نجّاني وأعاد لي الحياة بقلوب من حولي.

لواء أحمد زغلول

اللواء أحمد زغلول مهران، مساعد مدير المخابرات الحربية الأسبق، وعضو الهيئة الاستشارية العليا لمركز رع للدراسات الاستراتيجية. كما أنه خبير متخصص في الشؤون العسكرية والأمنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى