على محمد الشرفاء يكتب.. وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلًا

الأمانة في حملها على أي رسول تتمثل في توصيل الرسالة إلى المرسل إليه، ولا يملك الرسول حقّ تغيير محتواها، لأن ذلك يُعدّ في حكم القانون والعرف خيانةً للأمانة.
فكيف إذا كان الرسول مكلفًا من الله بحمل الخطاب الإلهي إلى الناس، ينطق به بلسانه ليبلغهم آياته، ويبيّن لهم حكمته ومقاصد كتابه القرآن الكريم، لما فيه صلاح أحوالهم في الدنيا، ومعرفتهم طريق الخير الذي يحقق منفعتهم وصلاحهم؟! وهو الأمين عليه السلام على رسالة الإسلام.
لقد عُرض على الناس آيات القرآن الكريم في قوله سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}، فهل من المنطقي أن يُعرض عليهم حديث غير الحديث الإلهي، مما يسبب الشك والالتباس عند الناس، ويُشغلهم عمّا نُسب إلى الرسول من روايات أطلقوا عليها “أحاديث”؟! تلك الروايات شغلت الناس عن الآيات التي كُلِّف بها الرسول ليبشّر المؤمنين بالخير والحياة الطيبة في سلام وأمن وهناء، ويُحذّر الناس من اتباع الشيطان وسلوك طريق الشر والباطل، الذي يقود إلى الشقاء والضنك في الدنيا، وإلى جهنم في الآخرة وبئس المصير.
فهل كانت نية الرسول خيانة الأمانة التي كلفه الله بها؟! حاشاه عليه السلام.
فما كُلِّف به أدّاه بالأمانة والصدق والإخلاص، يتلو على الناس آيات القرآن، ويشرح حكمتها، ويبيّن مقاصدها لمنفعة الناس جميعًا دون استثناء.
لكن ما الذي فعله مؤلفو الروايات الذين نسبوها إلى الرسول؟
لقد شوّهوا صورته، وأساءوا إليه عمدًا، وعرضوا أمانته للشك، حين نسبوا إليه أحاديث مبتدَعة غير ما كُلِّف بتبليغه من آي الذكر الحكيم. وقد جعلوا رواياتهم تُنافس القرآن، رغم أن الرسول عليه السلام أعلن في خطبة الوداع، يوم عرفة، ما أمره الله به من تبليغ استكمال الخطاب الإلهي، فقال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وقال أيضًا: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115].
فبعد أن أعلن الرسول استكمال الخطاب الإلهي وإتمام كلماته، هل يبقى بعد ذلك شيء يُضاف إلى رسالة الإسلام أو يُنقَص منها؟!
هل مَن حَمَل الأمانة من خالق السماوات والأرض لينقذ الإنسانية من شرور الشيطان يُتَّهم بأنه يُنقص أو يزيد؟! وهو الذي دعا الناس إلى الرحمة والعدل والإحسان والتعاون، ونشر السلام والحياة الطيبة في طمأنينة وأمان، وحثّهم على العيش الكريم، ونهاهم عن الفُرقة وسفك الدماء، وعن خطاب الكراهية الذي يُفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل!
لقد خلق الله الناس أحرارًا في اختيار عقيدتهم ودينهم، وجعل العلاقة بينهم وبينه مباشرة، فهو وحده المختص بمحاسبتهم يوم القيامة، كما قال سبحانه مخاطبًا رسوله عليه السلام: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 21–26].
وقال تعالى أيضًا بصيغة الاستنكار: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 6]. وكأن الرسول يشكو إلى ربه قائلًا: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]. فكيف يُفتَرى على رسول الله وهو المكلَّف بقوله تعالى: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 2].
لقد حدّد الله لرسوله مهمته بوضوح لا لبس فيه، فقال سبحانه: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45]. فلم يأمره الله بتبليغ الناس روايات من تأليفه أو بنات أفكاره، وإنما أمره بإيصال خطابه – القرآن – وشرح آياته وتبيان حكمته فيها لما ينفع الإنسان في دنياه، ويؤهله لنيل جنات النعيم في الآخرة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67].
إن المسلم يعلم ما الذي أنزله الله على رسوله الأمين، أليس هو القرآن الكريم؟ ذلك الكتاب الذي تشعّ منه أنوار الله لتضيء العقول، وتهدي إلى سواء السبيل، كما قال سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].
ألم يحن الوقت للمسلمين أن يعودوا إلى كتاب الله، وما فيه من مواعظ وتشريع ومنهج رباني للسلوك الإنساني، فيرتقوا باتباع الأخلاق السامية والقيم النبيلة التي مارسها رسول الله سيرةً وسلوكًا؟
فقد كان عليه السلام قرآنًا يمشي على الأرض، يحمل مشاعل النور الإلهي، ويُترجم رسالة الإسلام سلوكًا وعملاً وطاعةً خالصة لله، كما قال تعالى داعيًا المؤمنين إلى التأسي بالرسول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
لقد كان الرسول رؤوفًا رحيمًا بأمته، متسامحًا عفوًا، حريصًا على أن لا يقع المسلمون في المعاصي، وأن لا تزل أقدامهم إلى النار، وأن لا يتنازعوا أو يتفرّقوا أو يتكالبوا على الدنيا. قال الله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء: 53].
وقال أيضًا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]. وأمر الله رسوله أن يُنذر الناس بالقرآن فقال: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} [الأنبياء: 45].
فالقرآن هو الوحي الذي أوحاه الله إلى رسوله، كما قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3–4]. وقال أيضًا: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58].
ليكون القرآن هدايةً للمسلمين في الدنيا، فلا يندمون يوم القيامة كما قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12]. فيردّ الله عليهم: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 14].
ذلك تحذيرٌ إلهي استباقي للناس جميعًا، فمن آمن بكتاب الله واتّبع شرعه ومنهاجه كان من الذين قال فيهم سبحانه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15].
أما من هجر كتاب الله واتبع روايات البشر، فقد ضل الطريق، واستعلى على آيات الله، كما وصفهم سبحانه: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45].
ولكل إنسانٍ حريةُ الاختيار: فمن أراد طريق الحق، فليتبع القرآن ويُخلص لله في طاعته، ومن أراد طريق الباطل، فليتحمل مسؤولية اختياره يوم القيامة، حيث لا ينفع الندم.