أفول الهيمنة الأميركية

عبد السلام فاروق- كاتب ومفكر مصري
قمة شانغهاي الأخيرة ليست حدثًا دبلوماسيًا عابرًا، إنها إعلان صريح عن ولادة عالم جديد يتشكل بعيدًا عن الهيمنة الأميركية التي تعالت فى القرن العشرين. حضور قادة الصين وروسيا والهند وكوريا الشمالية، وما رافقه من استعراض عسكري صيني مبهر، كشف عن حقيقة لم يعد بالإمكان إنكارها: ميزان القوى الدولي آخذ في التحول جذريًا. فالصين، بقوتها الاقتصادية التي تجاوزت في بعض المؤشرات نظيرتها الأميركية، وبترسانة عسكرية متطورة توازي في حداثة تجهيزاتها ما ينفقه البنتاجون من مئات المليارات سنويًا، باتت تقدم نفسها كقطب قادر على منافسة واشنطن بل وتجاوزها.
العرض العسكري في بكين ليس مجرد استعراض للعضلات، بل رسالة استراتيجية للعالم بأسره: المستقبل يتجه شرقًا، وأن الزمن الذي كانت فيه أميركا اللاعب الأوحد في مسرح القوة الدولية يقترب من نهايته. وإذا كان التفوق الأميركي قد تأسس على الاقتصاد الأقوى والجيش الأضخم، فإن المعادلة اليوم تبدو مختلفة؛ فالتكنولوجيا المتقدمة، الذكاء الاصطناعي، والقدرة على الحشد ضمن تحالفات ناشئة، باتت أوراقًا ترجح كفة الصين. في هذا السياق، تبدو الولايات المتحدة، رغم ما تملكه من أدوات، وكأنها تسير بخطى متثاقلة نحو موقع “القوة الثانية”، تراقب من بعيد بزوغ عصر لم تعد قواعده تُكتب في واشنطن!
اختفاء ترامب الغامض:
غياب الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن الساحة الإعلامية، كان علامة كاشفة على أزمة أعمق تعيشها المؤسسة السياسية الأميركية. فمنذ عقود، تعود العالم على متابعة كل إيماءة أو تصريح يصدر من البيت الأبيض، لكن أن يغيب رئيس الولايات المتحدة لأيام طويلة دون تفسير رسمي فهذا يعكس اهتزازًا في صورة الدولة الأكثر تأثيرًا في الإعلام العالمي.
اختفاء ترامب فجر سيلًا من الشائعات، بعضها ذهب إلى مرض خطير، وبعضها الآخر تحدث عن تدهور حالته العقلية أو حتى وفاته. لكن ما هو أهم من هذه التكهنات هو تعامل الإعلام الأميركي مع القضية؛ فقد بدت كبرى الصحف والقنوات وكأنها تختار الصمت أو التلميح الغامض، وكأن هناك اتفاقًا غير معلن على حجب الحقيقة. وعندما ظهر ترامب ليكذب الأخبار بصورة قديمة على ملعب جولف، بدا المشهد ساخرًا ومربكًا أكثر منه مطمئنًا.
هذا الفراغ الإعلامي يشير إلى أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة حتى على إدارة صورتها أمام الداخل والخارج. فالدولة التي طالما قدمت نفسها كمنارة للشفافية والديمقراطية تعجز اليوم عن تقديم رواية مقنعة عن رئيسها، وهو ما يفتح الباب أمام التشكيك في مصداقية نظامها السياسي بأكمله ومكانته.
اقتصاد يتراجع بصمت:
منذ الحرب العالمية الثانية، كان الاقتصاد الأميركي المحرك الأساسي للقوة الناعمة والصلبة في آن واحد. الدولار صار العملة العالمية، وول ستريت باتت بوصلة الأسواق، وصناعات التكنولوجيا والفضاء غذت أسطورة “الحلم الأميركي”. لكن هذه الصورة الذهبية لم تعد تعكس الواقع.
فالصين صعدت كقوة صناعية وتكنولوجية هائلة، وأصبحت شريكًا تجاريًا رئيسيًا لأكثر من 120 دولة حول العالم، بينما تحولت الولايات المتحدة إلى اقتصاد استهلاكي يعتمد على الاستيراد أكثر من الإنتاج. تقارير دولية تشير إلى أن الدين القومي الأميركي تجاوز 34 تريليون دولار في 2025، وهو رقم يهدد استقرار اقتصاد أمريكا الآن وغداً.
إلى جانب ذلك، تتآكل الطبقة الوسطى التي شكلت تاريخيًا العمود الفقري للنظام الأميركي. ملايين الوظائف في قطاع التصنيع هاجرت إلى آسيا وأمريكا اللاتينية حيث العمالة الأرخص. أما الداخل الأميركي، فيرزح تحت تضخم أسعار السكن والرعاية الصحية والتعليم. هذا الوضع يخلق إحباطًا جماعيًا، ويجعل من “الحلم الأميركي” وعدًا كاذباً أكثر منه حقيقة ملموسة.
الأخطر أن هذه التحديات ليست نتاج أزمة عابرة، بل نتيجة تراكم عقود من السياسات الاقتصادية الخاطئة، وتفضيل المضاربة المالية على الاستثمار الإنتاجي، وهو ما يجعل الولايات المتحدة في موقف اقتصادي دفاعي أمام قوة الصين الاقتصادية المخيفة.
تحالفات تتداعى:
قوة أميركا لم تكن يومًا في اقتصادها فقط، بل في شبكة تحالفاتها التي صاغت النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية. حلف الناتو، العلاقات الخاصة مع أوروبا، القيادة في المؤسسات الدولية، كلها كانت أدوات واشنطن للحفاظ على هيمنتها. لكن هذه الشبكة بدأت تتصدع.
الحلف الأطلسي يشهد اليوم أزمات ثقة متتالية. بعض دول أوروبا الشرقية تشكك في جدية التزام واشنطن بالدفاع عنها إذا تعرضت لتهديد مباشر، فيما تسعى فرنسا وألمانيا لتعزيز استقلاليتهما الدفاعية عبر مشاريع أوروبية خالصة. في آسيا، باتت اليابان وكوريا الجنوبية تتجه أكثر نحو الحوار مع الصين وروسيا لتأمين مصالحها، بدلاً من الاتكال الأعمى على واشنطن.
حتى الشرق الأوسط، الذي كان تقليديًا ساحة نفوذ أميركية، يشهد تحولات جذرية؛ فالسعودية وإيران جلستا سابقاً إلى طاولة واحدة برعاية صينية، والإمارات بدأت تتوسع في شراكات مع روسيا والهند، فيما لم تعد واشنطن اللاعب الوحيد الذي يملي قواعد اللعبة. إن تراجع الثقة بالحليف الأميركي ليس أمراً طارئاً مرتبطاً بترامب، بل تغير عميق ناتج عن إدراك دولي أن الولايات المتحدة لم تعد تملك القدرة للقيام بدور الشرطي العالمي كما كان في السابق.
انقسامات الداخل:
ربما يكون ما يحدث في الداخل الأميركي أخطر من كل التحديات الخارجية. فالمجتمع الذي طالما افتخر بكونه بوتقة تنصهر فيها الأعراق والثقافات، يعيش اليوم حالة استقطاب غير مسبوقة. الانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين لم يعد مجرد خلاف حزبي، بل صار شرخًا أيديولوجيًا يمس هوية الدولة نفسها.
اليمين الشعبوي، ممثلًا في تيارات ترامب، يرى أن “أميركا الحقيقية” يتم انتزاعها لصالح نخب ليبرالية وعالمية. في المقابل، يرى اليسار التقدمي أن خصومه يسعون لإعادة البلاد إلى ماض عنصري وقمعي. هذا الانقسام يظهر في كل تفاصيل الحياة: من النقاش حول التعليم والجندر، إلى قضية الهجرة والسلاح.
الأمر لا يقف عند حدود السياسة، بل يتغلغل في المجتمع والإعلام. الأميركيون اليوم يعيشون في فقاعات إعلامية متناقضة: قناة فوكس نيوز تصنع واقعًا مغايرًا تمامًا لما تبثه CNN أو نيويورك تايمز. هكذا لم يعد هناك “رأي عام” واحد، بل مجتمعات متجاورة لا تتحدث اللغة نفسها.
هذا الانقسام يجعل من الصعب التوصل إلى إجماع وطني حول أية قضية كبرى، من إصلاح الرعاية الصحية إلى السياسة الخارجية. دولة منقسمة بهذا الشكل تجد نفسها عاجزة عن اتخاذ قرارات استراتيجية طويلة المدى، وهو ما يضعف قوتها أمام المنافسين الخارجيين.
أحلام الانفصال:
من المؤشرات الأخطر على ضعف البنية الفيدرالية الأميركية تصاعد دعوات الانفصال. صحيح أن هذه الدعوات ليست جديدة، لكنها في السنوات الأخيرة أخذت بعدًا أكثر جدية. ولاية كاليفورنيا، بخطابها التقدمي وثقلها الاقتصادي، شهدت حركات تطالب بالانفصال تحت شعار”خروج كاليفورنيا”: “CalExit” أما تكساس، فقد شهدت محاولات متكررة لإحياء فكرة “جمهورية تكساس المستقلة”. حتى ألاسكا لم تخلُ من دعوات مشابهة!
هل هي مجرد نزعة عابرة أو طريقة للضغط؟ بل هو تغير جوهري له أساس اجتماعي وسياسي. استطلاعات الرأي تكشف أن نسبة معتبرة من الناخبين الجمهوريين والديمقراطيين على السواء ترى أن الانفصال قد يكون خيارًا واقعيًا إذا استمرت حالة الانقسام.
وفي عالم متعدد الأقطاب، حيث لم تعد واشنطن قادرة على فرض رؤيتها، فإن مجرد وجود مثل هذه الأفكار يكفي ليضعف صورتها كقوة متماسكة. فما قيمة القوة العسكرية الهائلة إذا كان الاتحاد الفيدرالي نفسه مهددًا بالتفكك؟
مجتمع ممزق:
إلى جانب السياسة والاقتصاد، تواجه أميركا أزمة هوية مجتمعية. التعدد الثقافي الذي شكل مصدر غنى في الماضي، صار اليوم مادة للانقسام. الصراعات حول الهجرة، حقوق الأقليات، والعلاقات العرقية تعكس أن المجتمع لم يتجاوز إرثه التاريخي من التمييز والاستغلال.
المظاهرات التي اجتاحت المدن الأميركية بعد مقتل جورج فلويد لم تكن مجرد احتجاج على عنف الشرطة، بل تعبيرًا عن غضب عميق من بنية اجتماعية يراها كثيرون ظالمة. وعلى الجانب الآخر، يشعر قطاع واسع من الأميركيين البيض أن هويتهم وثقافتهم مهددة، ما يفسر صعود تيارات قومية متشددة.
هذا التنافر الاجتماعي لا يضعف الداخل فحسب، بل يضر صورة الولايات المتحدة عالميًا. فكيف تقنع واشنطن العالم بالديمقراطية وحقوق الإنسان بينما تعجز عن حل أزماتها العرقية والسياسية في الداخل؟
أمريكا تشيخ:
قد يظن البعض أن التراجع الأميركي مؤقت، وأن واشنطن قادرة على استعادة زمام القيادة متى شاءت. لكن التاريخ يعلمنا أن الإمبراطوريات لا تنهار بين ليلة وضحاها، بل تبدأ بالتهاوي تدريجياً شيئاً فشيئاً حتي يكتمل المشهد.
الولايات المتحدة اليوم تواجه تحديات كبري: اقتصاد مثقل بالديون، تحالفات تتداعى، مجتمع ممزق، وسياسة داخلية عاجزة عن إنتاج توافق. في المقابل، يبرز حلفاء كبار: الصين، روسيا، الهند، كوريا الشمالية. بل وحتى تحالفات إقليمية ناشئة مستعدين لملء الفراغ. وليست أمريكا اللاتينية: فنزويلا والبرازيل والأرجنتين والمكسيك، عن بغض أمريكا ببعيد.
هل تظل واشنطن قوة كبرى لعقود مقبلة؟! البعض يقول بهذا، لكن في ظني أن تراجعها أسرع من المتوقع، وأن أي صدام حقيقي بينها وبين أعدائها الذين صنعتهم بيدها سيعجل بأفولها. لاسيما وأن هيمنتها التي عرفها القرن العشرون قد ولت إلى غير رجعة.
وإذا تعالت أميركا على الاعتراف بما تعانيه من ضعف داخلي وتفكك فى دائرة حلفائها، وإذا لم تنتبه أن نفوذها يتآكل، فتعيد تعريف دورها في العالم، فإن أفولها وتراجع مكانتها السريع لن يكون مجرد احتمال، بل حتمية تاريخية.