سيناريو التهجير في غزة وتجدد مشروع نتنياهو… 700 يوم من الصمود وردّ مصر القوي

مع تجاوز العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة حاجز الـ٧٠٠ يوم، تبرز مشاهد متجددة من السياسة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو، الذي يعيد طرح سيناريوهات التهجير القسري والتغيير الديموغرافي، تحت غطاء عمليات عسكرية هدفها المعلن هو “اجتثاث الإرهاب”، بينما الواقع يؤكد أنها تحمل أبعادًا استراتيجية بعيدة المدى.
في المقابل، جاء الموقف المصري متسقًا مع الثوابت القومية والالتزامات التاريخية تجاه القضية الفلسطينية، حيث رفضت القاهرة بشدة أي حديث عن تهجير سكان القطاع، وأكدت أن سيناء ليست ولن تكون بديلًا عن فلسطين. هذا المقال يُقدّم قراءة تحليلية استراتيجية لتجديد طرح سيناريو التهجير، وأسباب عودة نتنياهو بقوة إلى المشهد، ودور مصر المحوري في صد هذا المخطط، مع استعراض التحديات والتوصيات.
نتنياهو وتجديد الخطاب السياسي ـ العسكري:
منذ عودته إلى السلطة، بات واضحًا أن بنيامين نتنياهو يُدير الحرب على غزة بمنطق يهدف إلى ترسيخ نفسه كقائد، محاط بيمين قومي متطرف، يدفع نحو فرض وقائع ميدانية جديدة على الأرض. ويمكن تلخيص دوافع نتنياهو في النقاط التالية:
- إعادة تنظيم الوضع السياسي داخليًا**: يعيش الكيان الإسرائيلي حالة من الانقسام غير المسبوق، وقد استثمر نتنياهو هذا الصدع بإعادة توجيه البوصلة نحو «العدو الخارجي»، لتوحيد الجبهة الداخلية حوله، رغم تزايد أصوات الرافضين من ضباط الاحتياط والنخب العسكرية.
- تغيير قواعد الاشتباك في غزة**: يعمل على خلق واقع جديد يُخرج غزة من معادلة الصراع الكلاسيكي، عبر تقسيم جغرافي وفصل ديموغرافي، خاصة بعد شق “ممر موراج” الأمني الذي فصل جنوب القطاع عن شماله.
- فرض التهجير كحل سياسي وأمني**: ما يُسمّى بـ”الخيار السيناوي” أُعيد طرحه ضمن تصورات تسوية مدعومة من بعض الدوائر الصهيونية، كوسيلة للتخلص من العبء الديموغرافي في غزة، دون الدخول في مشروع احتلال مباشر.
- إضعاف حماس واستثمار ملف الأسرى**: يحاول نتنياهو استثمار معاناة غزة لفرض شروطه التفاوضية في ملف تبادل الأسرى والتهدئة، متجاهلًا الكارثة الإنسانية التي خلقها الحصار الممنهج والقصف العنيف.
سيناريو التهجير وخطورته الاستراتيجية:
الحديث عن التهجير من غزة ليس مجرد اجتهاد سياسي، بل هو مخطط قائم على جملة من المقدمات:
(*) اختناق إنساني متعمد: عبر منع الإمدادات وقطع الخدمات الأساسية، يتم دفع السكان إلى خيار الرحيل القسري، في انتهاك واضح لاتفاقيات جنيف ومبادئ القانون الدولي الإنساني.
(*) تصفية ديموغرافية ممنهجة: الهدف الاستراتيجي هو إنهاء الوجود الفلسطيني المقاوم في غزة، وإحلال إدارة تابعة تحت مسمى إنساني أو أمني، تمهيدًا لتصفية القضية.
(*) إعادة طرح سيناء كبديل مؤقت أو دائم: تسريب بعض الوثائق والتصريحات من الدوائر الإسرائيلية يشير إلى أن سيناء لا تزال في بعض الأجندات مطروحة كمنطقة “توطين”، رغم الرفض القاطع من القيادة المصرية.
التهجير كمرحلة ممتدة: من غزة إلى الضفة فعرب 48:
من يقرأ التوجهات الاستراتيجية للقيادة الإسرائيلية الحالية، يتيقن أن ما يجري في قطاع غزة ليس إلا المرحلة الأولى من مشروع تطهير جغرافي أكبر، يعتمد على التفتيت السكاني والقومي للفلسطينيين داخل كامل أراضي فلسطين التاريخية.
- الضفة الغربية المرحلة الثانية: بعد غزة، تتجه الأنظار نحو الضفة الغربية، حيث يُستكمل مخطط التوسع الاستيطاني المدعوم بقوانين الضم الزاحف. ما يعني عمليًا خلق كانتونات معزولة غير قابلة للحياة للفلسطينيين، تمهيدًا لدفعهم نحو الرحيل، إما طوعًا تحت الضغط، أو قسرًا عند توفر الغطاء الدولي أو الإقليمي. والعمليات المتكررة في جنين ونابلس والخليل ليست عمليات أمنية فقط، بل تطهير ممنهج للبنية الاجتماعية والسياسية الفلسطينية. ويجري تمهيد الأرض فعليًا لتفريغ الضفة من سكانها الأصليين.
- فلسطيني و الداخل (عرب 48) المرحلة الأخيرة: ضمن سيناريو التهجير طويل الأمد، يُعتبر فلسطينيو الداخل – الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية – الهدف النهائي للمشروع. يتم الدفع تدريجيًا نحو زعزعة وجودهم وتصويرهم كطابور خامس في المجتمع الإسرائيلي، لإيجاد ذريعة قانونية أو أمنية لطردهم. وليس من المصادفة أن تتصاعد التحريضات ضدهم، خصوصًا في مدن مثل أم الفحم والناصرة واللد ويافا، بالتوازي مع طرح مشاريع قوانين تهدد حقوقهم المدنية والسياسية.
- استثناء الدروز تكتيك سياسي وعسكري: في المقابل، لوحظ أن المجتمع الدرزي داخل إسرائيل يُستثنى تمامًا من أي خطاب أو سياسة طرد أو تحجيم، وذلك يعود إلى:
(-) الخدمة العسكرية الإلزامية التي يؤديها الدروز في جيش الاحتلال.
(-) اعتبارهم حليفًا استراتيجيًا داخليًا ضمن تركيبة الجيش والأمن الإسرائيلي.
(-) محاولة صهيونية لتقسيم المجتمع العربي داخل إسرائيل من خلال التمييز الطائفي والمذهبي. لكن يجب التنبيه أن هذا الاستثناء ليس إنسانيًا أو أخلاقيًا، بل محسوب سياسيًا وأمنيًا، يهدف إلى تفتيت وحدة الهوية الفلسطينية الجامعة، وتحويل المجتمع العربي في الداخل إلى أقليات متنافسة أو متباعدة.
مصر: الموقف الوطني الثابت والرد الحاسم:
لم تكن مصر يومًا على هامش القضية الفلسطينية، بل كانت وستظل العمق الاستراتيجي للأرض والشعب الفلسطيني. ومع تصاعد الحديث عن التهجير، جاء الرد المصري واضحًا وصريحًا:
- رفض مبدئي وقانوني لأي تهجير: أكدت مصر، عبر وزارة الخارجية ورئاسة الجمهورية، أن أي عملية تهجير – سواء قسرية أو طوعية – مرفوضة شكلًا وموضوعًا، ولا يمكن أن تمر عبر الأراضي المصرية.
- تحرك سياسي ودبلوماسي مكثف: مارست القاهرة ضغوطًا كبيرة على الأطراف الدولية، وأبلغت واشنطن وأوروبا بأن الحديث عن سيناء كحل هو خط أحمر يهدد الأمن القومي المصري.
- دور فاعل في الوساطة والإنقاذ الإنساني: تولت مصر مسؤولية إدارة المفاوضات غير المباشرة بين حماس وإسرائيل، ونسّقت إدخال المساعدات والجرحى، رغم التحديات اللوجستية والأمنية.
- رفع الخطاب السياسي إلى أعلى درجات الحزم: أعلنت مصر على لسان وزير خارجيتها أن وصف التهجير بـ”الطوعي” هو “هراء لا يُغتفر”، مؤكدة أن ما يحدث في غزة هو تطهير عرقي وليس مجرد عملية أمنية.
التحديات على الأرض:
تواجه مصر والمنطقة تحديات مركّبة في ظل المشهد الحالي:
(-) تعنت إسرائيلي واستمرار العدوان.
(-) انقسام فلسطيني يُضعف الموقف السياسي العام.
(-) ضغوط أمريكية ودولية لمحاولة تدويل الملف على حساب الثوابت.
(-) أزمة إنسانية مرشحة للانفجار في غزة إذا استمر الحصار.
(-) حساسية الوضع في سيناء من الناحية الأمنية والعسكرية.
توصيات استراتيجية:
انطلاقًا من المعطيات الحالية، نُوصي بما يلي:
- استمرار الحزم المصري في مواجهة أي مخطط تهجير، مع تأكيد أن سيناء خط أحمر وطني واستراتيجي، لا مجال فيه للتفاوض أو المساومة.
- تحريك أدوات الردع الدبلوماسي في المحافل الدولية، من خلال توثيق الجرائم الإسرائيلية قانونيًا، ودعم رفع دعاوى أمام محكمة الجنايات الدولية.
- تفعيل مبادرات عربية بقيادة مصر لإعادة إعمار غزة دون اشتراطات سياسية أو أمنية، مع رقابة مصرية ودولية تضمن عدم استغلال المعونات.
- احتضان وحدة فلسطينية سياسية تحت مظلة عربية، ومصر مؤهلة لقيادة حوار فلسطيني ـ فلسطيني حقيقي، يصل بنا إلى شراكة سياسية تعزز الموقف التفاوضي أمام الاحتلال.
- الاستعداد لأي موجات تصعيد أو تسلل أمني، مع تعزيز تأمين الحدود الشرقية لمصر، وإجراء تدريبات مشتركة مع القوى المسلحة لمواجهة أي طارئ.
في النهاية، ما بعد ٧٠٠ يوم من الحرب على غزة يُشكّل نقطة تحول في المشهد الإقليمي. فإسرائيل تحاول إنهاء القضية الفلسطينية بوسائل جديدة، عبر فرض تهجير ناعم مدعوم بالقوة، وتصفية قطاع غزة ككيان جغرافي مقاوم. لكن الموقف المصري الثابت أجهض هذه المساعي، ورسّخ مفهوم الأمن القومي المصري كقضية مترابطة مع فلسطين لا تنفصل عنها. مستقبل الصراع سيتحدد بمدى صلابة هذا الموقف، وقدرة مصر على موازنة التحرك السياسي مع الاستعداد الأمني، دون أن تتنازل عن المبادئ أو تُفرّط في السيادة أو الهوية.