من الدفاع إلى الحرب •• قراءة استراتيجية في القرار الأمريكي وتحول العقيدة العسكرية وتأثيراته على العالم العربي ومصر

في سابقة تاريخية تحمل أبعادًا رمزية وعملية عميقة، أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا يقضي بإعادة تسمية “وزارة الدفاع الأمريكية” لتُعرف رسميًا باسم “وزارة الحرب”، مع توجيه المؤسسات الفيدرالية إلى اعتماد هذا المسمى، ومطالبة الكونجرس باتخاذ الإجراءات اللازمة لتثبيت الاسم قانونيًا.

ورغم أن البعض قد ينظر إلى هذه الخطوة كإجراء رمزي أو دعائي، فإن القراءة المتأنية لطبيعتها وتوقيتها وتصريحات الرئيس ووزير الدفاع الأمريكي تكشف عن تحول جوهري في العقيدة العسكرية والسياسية للولايات المتحدة، يُعيد تشكيل الطريقة التي ترى بها أمريكا دورها في العالم، ويضع علامات استفهام كبرى حول مستقبل الأمن والاستقرار في مناطق النزاع، وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط.

القرار في سياقه التاريخي والرمزي:

منذ تأسيسها عام 1789 وحتى 1949، كانت تُعرف وزارة الدفاع الأمريكية باسم “وزارة الحرب”، وكانت تمثل التعبير الصريح عن التوجه العسكري للولايات المتحدة، خاصة في مراحل التوسع الإمبريالي وخوض الحروب الكبرى (الحرب الأهلية، الحرب العالمية الأولى، الثانية).

لكن بعد الحرب العالمية الثانية، وفي ظل تأسيس نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة، جاء تغيير الاسم إلى “وزارة الدفاع” ليعكس رغبة واشنطن في تقديم نفسها كـ”قوة مسؤولة” تحارب للدفاع عن الأمن والسلام العالمي، وليس لتحقيق الهيمنة العسكرية فقط.

اليوم، تأتي عودة الاسم القديم في سياقٍ يُبرز تحولًا في هذا المنظور، حيث يعلو صوت القوة الخشنة مجددًا، ويُستبدل منطق “الدفاع” بمنطق “الهجوم الاستباقي”، وهو ما أكده ترامب في خطابه المصاحب للقرار حين قال:

“أمريكا كانت تربح الحروب عندما كانت تُعرف بوزارة الحرب. نحن لا ندافع فحسب، نحن نهاجم أعداءنا قبل أن يصلوا إلينا”.

دلالات القرار الاستراتيجية والعسكرية:

1. إعادة تعريف العقيدة العسكرية الأمريكية: يتجاوز القرار الجانب الشكلي إلى إعادة صياغة فلسفة استخدام القوة داخل البنتاجون. التحول من “الدفاع” إلى “الحرب” يعكس تبني نهج هجومي دائم، يبرر التحرك العسكري الأمريكي خارج إطار التهديد المباشر، ويرفع الحرج السياسي والأخلاقي عن التدخلات الخارجية.

2. إعادة هيكلة أولويات المؤسسة العسكرية: من المتوقع أن ينعكس هذا القرار على موازنات التسليح، برامج التدريب، وأولويات البحث العسكري داخل الولايات المتحدة، لصالح بناء قدرات الهجوم السريع، والتوسع في أنظمة الأسلحة الاستباقية، وزيادة جاهزية القوات للتدخل المباشر.

3. إرسال رسالة ردع واضحة إلى الخصوم: مثل الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، حيث يظهر أن الولايات المتحدة تُعيد تواجدها على الساحة الدولية كقوة هجومية لا تتردد في استخدام القوة العسكرية لفرض إرادتها.

التأثيرات الإقليمية – العالم العربي والأمة الإسلامية:

العالم العربي والإسلامي، الذي كان ولا يزال من أكثر الساحات تأثرًا بالسياسات العسكرية الأمريكية، يقف أمام هذا القرار في موقف حرج وحساس. المنطقة شهدت حروبًا وتدخلات عسكرية أمريكية متعددة، كان يُسوّق لها دائمًا بوصفها “عمليات دفاعية لحماية الأمن القومي الأمريكي أو حماية الحلفاء”. الآن، ومع اعتماد “وزارة الحرب”، تُصبح الرسالة أكثر صراحة وعدوانية.

أبرز المخاطر الإقليمية: تبرير التدخلات المستقبلية في دول عربية تحت مسميات “الضربات الوقائية” أو “تأمين المصالح الأمريكية” دون احترام للسيادة الوطنية.

التصعيد في الملف الإيراني، بما قد يؤدي إلى نشوب حرب في الخليج تؤثر مباشرة على الأمن العربي، وعلى استقرار دول المنطقة.

دفع دول عربية إلى سباق تسلح استجابةً للتهديد المتصاعد، مما يستنزف الموارد الاقتصادية ويُضعف خطط التنمية.

تحفيز قوى التطرف العنيف التي ستُفسر القرار على أنه إعلان حرب صريح على العالم الإسلامي، مما يزيد احتمالية التصعيد في المواجهات الأيديولوجية والعسكرية.

التأثير المباشر على مصر:

مصر، الدولة المحورية ذات الثقل الاستراتيجي والسياسي والعسكري في العالم العربي، تُعد من أقرب الحلفاء التاريخيين للولايات المتحدة في المنطقة، خاصة في المجال العسكري. لكن القرار الأمريكي الجديد يفرض على القاهرة مراجعة دقيقة للآتي:

1. مستقبل التعاون العسكري: التحول في العقيدة الأمريكية قد يؤدي إلى فرض أجندات جديدة على الحلفاء، بما في ذلك مصر، وهو ما يستوجب إعادة تقييم التوازنات في الشراكة مع واشنطن.

2. السيادة الوطنية واستقلال القرار: تبنّي مصر لاستراتيجية مستقلة يقتضي تجنب الانجرار إلى صراعات ليست في مصلحتها الوطنية، خاصة إذا فُرضت ضغوط للمشاركة في عمليات عسكرية أمريكية.

3. أمن البحر الأحمر وليبيا وسد النهضة: هذه ملفات أمن قومي بامتياز، وأي تحولات في الموقف الأمريكي أو تراجع في التزامه بالدعم الاستراتيجي لمصر قد يتسبب في تهديد مباشر لمصالحها.

التوصيات الاستراتيجية:

في ضوء ما سبق، يرى مركز رع للدراسات الاستراتيجية ضرورة التحرك العاجل وفق الخطوات التالية:

1. التحرك السياسي والدبلوماسي متعدد الأطراف: فتح قنوات تواصل نشطة مع واشنطن ومع العواصم المؤثرة في أوروبا وآسيا، للتعبير عن القلق من القرار الأمريكي، والتأكيد على أهمية الالتزام بالقانون الدولي ومبادئ الأمن الجماعي.

2. بناء محور عربي مستقل: عبر تحالف سياسي-أمني بين الدول العربية الكبرى (مصر – السعودية – الجزائر – الإمارات) لتشكيل جبهة توازن إقليمي قادرة على حماية المصالح العربية دون الانحياز لأي قوة خارجية.

3. تنويع مصادر التعاون العسكري: من خلال تعزيز التعاون مع روسيا والصين، وفتح قنوات شراكة جديدة في مجالات التدريب، التسليح، وتبادل المعلومات، لضمان عدم الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة.

4. تفعيل القوة الناعمة المصرية: عبر المؤسسات الثقافية والدينية والإعلامية لتوضيح مخاطر القرار الأمريكي على الأمن العالمي، وتفنيد الخطاب القائم المؤثر على العلاقات الدولية.

5. التأهب الاستراتيجي للأزمات الإقليمية: برفع مستوى الجاهزية العسكرية في الملفات الساخنة مثل الحدود الغربية، أمن البحر الأحمر، والتهديدات المائية، مع الحفاظ على سياسة الردع المحسوب.

في النهاية، إن إعادة تسمية وزارة الدفاع الأمريكية بـ”وزارة الحرب” هو أكثر من مجرد تغيير لغوي. إنه تحول استراتيجي يفرض واقعًا جديدًا في العلاقات الدولية، ويشكل تهديدًا محتملاً لتوازن القوى ولأمن المنطقة العربية والإسلامية. وتقف مصر، بما لها من مكانة وقدرات، أمام مسؤولية كبيرة في صياغة الرد العربي العقلاني والسريع، حمايةً لمصالحها القومية، وصونًا لحق الشعوب في العيش بأمان واستقلال. ولن يتحقق ذلك إلا عبر فهم عميق للتحولات الدولية، واستعداد عملي لمواجهة ما قد يحمله المستقبل من تحديات.

لواء أحمد زغلول

اللواء أحمد زغلول مهران، عضو الهيئة الاستشارية العليا لمركز رع للدراسات الاستراتيجية، وهو نائب رئيس حزب المؤتمر رئيس الهيئه العليا للحزب. كما أنه خبير متخصص في الشؤون العسكرية والأمنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى