إرباك مقصود: لماذا يتزايد التكفير في المجتمع؟
بالتوازي مع تجدد الهجمات الإرهابية في سيناء من قبل التكفيريين، والتي أسفرت أخرها عن استشهاد ضابط وأربعة من جنود القوات المسلحة البواسل- يقوم أفراد بالمجتمع، مُتمثلين في عناصر التنظيمات المتطرفة والمتعاطفين معهم، بتكفير ممنهج عبر وسائل التواصل الاجتماعي لكل من يخالف موروثاتهم ومعتقداتهم الدينية الخاطئة، ربما بهدف إرباك مجتمع مستقر ومتماسك.
تأسيساً على ما سبق، ومن منطلق استمرار محاربة أجهزة الدولة المصرية للتكفيريين الحركيين، أي التنظيمات التي ترفع السلاح وتسيل الدم، والتي كان أخرها الضربات الجوية المركزة للقوات المسلحة التي أسفرت عن مقتل تكفيريين ومحاصرة آخرين وتدمير عدد من البؤر والمعدات، وفي ظل تزايد معدل التفكير في المجتمع من قبل هؤلاء وأنصارهم- كيف يمكن معاقبة التكفيريين بالفتاوي للحد من أفكارهم الخطرة على السلام المجتمعي؟، وبالتالي قد تكون إجابة هذا السؤال تتطلب أولاً رصد وتحليل حال المجتمع المصري في الأغلب، وتفاعله مع المواقف المختلفة سواء في المجال العام أو عبر السوشيال ميديا، وما المنبع الفكري الذي أدي إلى انتشار التكفير في المجتمع؟.
واقع مكتظ:
تعرض الشارع المصري لحالات من العنف باسم الدين من قبل بعض أشخاص يدعون أنهم يدافعون عن الفضيلة، منهم على سبيل المثال؛ مؤخرا تعرضت بعض الفتيات للضرب والشتم داخل عربة مترو لعدم ارتدائهم الحجاب، وحالة أخري لسيدة تعدت على فتاه لنفس السبب داخل توك توك، كما تعرضت صيدلانية للضرب المبرح علي يد اثنين من زميلاتها في أكتوبر الماضي بسبب عدم ارتداءها الحجابـ، هذا بالإضافة إلى تعرض سيدة مسيحية للصفع علي يد صاحب صيدلية، وأيضاً ذبح قس في الإسكندرية منذ شهر علي يد آخر، مما يعكس حالة الشحن الذي يعاني منه الكثيرين لدوافع دينية وطائفية أو لفرض مفهوم ديني معين.
من جانب آخر؛ بتتبع ورصد وسائل التواصل الاجتماعي خاصة لمصريين، يتضح أن التطرف الفكري وحالة الشحن الطائفي أكثر حدة وانتشارا علي مواقع التواصل الاجتماعي، بداية من تعليقات التكفير والتفسيق واتهامات محاربة الإسلام كرد فعل علي مسلسلات رمضان التي تعرضت لواقع الإرهاب، سواء الذي عاشته مصر علي يد الإخوان متمثل في مسلسل الاختيار3 أو عرض وضع سوريا أثناء سيطرة داعش حتي عام ٢٠١٧ متمثلا في مسلسل بطلوع الروح، وصولا إلي حالة الانتفاضة التي حدثت من وقت استشهاد الصحفية الفلسطينية شيرين أبوعاقلة، وتصريح البعض من كافة الاتجاهات بعدم جواز الترحم عليها والاستغفار لها وتنصيب البعض أنفسهم حراس علي الجنة والنار، كل الشواهد السابقة تعكس حجم انتشار الفكر الوهابي المتطرف في الواقع المصري.
تفسير منضبط:
منذ استشهاد الصحفية شيرين أبو عاقلة لم تهدأ الصفحات التابعة لأشخاص ينتمون للحركة السلفية وأخري تنتمي لجماعة الإخوان، الذين يحرمون الترحم والدعاء بالمغفرة لغير المسلم دون تفريق بين أهل الكتاب أو أصحاب الديانات الأرضية كالهندوس وغيرهم، قاصدين و مصرحين عدم جواز الترحم والاستغفار للصحفية أبو عاقلة وغيرها من المسيحيين، والهدف من ذلك نشر الجهل والتطرف من جانب، والتدليس على الناس ممن يوصفون بالعوام من جانب أخر، لذا وجب التوضيح حول هذه المسألة من النصوص القرآنية والآراء الفقهية.
توضيحا لما سبق؛ يمكن التأكيد على أن منظري الفكر الوهابي يؤصلون تحريم الدعاء للمسيحي بالرحمة والمغفرة استنادا على ما يلي:
(*) الأول، وهو الأغلب: تأسيسا على رأي الشيخ ناصر الدين الألباني حيث نقل عن محيي الدين النووي، أن الإجماع على تحريم الدعاء بالمغفرة للكافر، وبما أن المسيحيين جميعا كفار وفقا لهذا الفكر الأصولي السائد، لذا وجب طرح السؤال إذا كان المسيحي كافر فمن هم أهل الكتاب الذين شرع الله للمسلم الزواج منهم في قوله تعالي:” اليوم أحل لكم… المحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن”. وحرم في المقابل الزواج من الكفار في قوله تعالي: ” ولا تمسكوا بعصم الكوافر”، إذن هناك فارق بين أهل الكتاب (المسيحين واليهود) والكفار والنصوص القرآنية التالية تؤكد هذا الفارق:
قال تعالي:” من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر”، وقال تعالي:”يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم إلا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا”، وقال تعالي:” اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم”.
من مجمل الآيات السابق ذكرها، يتضح أن النص القرآني يخاطب المسيحيين بأهل الكتاب ويصفهم بالإيمان والمحصنات وغيرها من التعبيرات التي تعكس التقدير، يرد البعض بأن الآيات تحدثت عن بعض أهل الكتاب لقوله ” من أهل الكتاب”- أي بعضهم، والجواب من يدريك أن من تكفره من المسيحيين ليس من الفئة المؤمنة، فالفكر الوهابي يكفر كثير من المسلمين أيضا كالصوفية والشيعة والأشاعرة وحتى المسلم السني العاصي كتارك الصلاة، إذن تحديد المؤمن من الكافر فيه تعدي على السلطات الإلهية، وتجاوز في حق الله والعباد.
(*) التأصيل الثاني؛ الذي يسوقه الوهابيين، قوله تعالي “ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربي”، ويسوقون أسباب نزول الآية أن الرسول (ص) قال لعمه أبي طالب لما توفي على الشرك ” والله لاستغفرن لك…”فانزل الله” ما كان للنبي والذين أمنوا أن يستغفروا للمشركين”، والقياس والاستدلال هنا خاطئ فعم النبي أبي طالب مات على الشرك بمعني الكفر الأصلي، أما المسيحي أهل كتاب بلفظ القرآن والبحث في كونه على الإيمان من عدمه مسألة قلبية لا يعلمها إلا الله.
(*) التأصيل الثالث؛ أن النبي استأذن ربه أن يستغفر لأمه فلم يأذن له سبحانه، مع أنها ماتت في الجاهلية لم تدرك الإسلام لكنها ماتت على دين قومها على عبادة الأوثان، فكيف بغير أم النبي عليه أفضل الصلاة والسلام؟، من جهة هذا الحديث ضعيف الإسناد لا يحتج به، كما أن أم النبي من أهل الفترة لم تعاصر بعثه نبي أو رسول، مع ذلك الوهابيين مولعون بالأخذ به وتكفير والدي النبي، والاحتجاج به لتكفير المسيحي مع فساد القياس والاستدلال للحجج السابق ذكرها.
مما سبق، نستنج أن وحدة المعايير في القياس غائبة في بعض الآراء الفقهية التي يستدل بها لتكفير المسيحي، علي سبيل المثال: المسيحية يجوز للمسلم أن يتزوج بها باعتبارها من أهل الكتاب ولا يجوز شهادة المسيحي علي مسلم باتفاق الفقهاء لأنه كافر استشهادا بقوله تعالي ” ولن يجعل الله للكافرين علي المؤمنين سبيلا”، كذلك يحرم الدعاء لهم بإجماع الفقهاء لنفس السبب وهو الكفر، يتضح من الآراء السابقة اختلاف معيار القياس والاستدلال والتطبيق ضاربين بمبادئ المنهج العلمي عرض الحائط، فالمسيحي أهل كتاب في الزواج وكافر في الإشهاد والدعاء له وأمور القصاص وغيره، يترتب علي ذلك انه يجوز الزواج من مسيحية ولا يجوز شهادة عمها علي الزواج مثلا، فهي أهل كتاب وهو كافر في نفس الموقف والاثنين مسيحيين أيعقل هذا، عليه دعاوي التكفير المعلبة للمسيحيين لا يتوقف عليها التحريض علي العنف فحسب، ولكن أيضا تفكيك الروابط الأسرية وإشاعة الكراهية في المجتمع مما يعجز بموجبة إمكانية تطبيق بعض الإحكام.
تفعيل القوانين:
مما سبق يتضح؛ أهمية تفعيل القوانين وتغليظ العقوبات والاحتكام للدستور علي أساس مبدأ المواطنة دون تمييز، فرغم خضوع السيدة التي تعدت علي البنات لعدم ارتدائهم الحجاب للتحقيق، إلا أنها ستخضع لعقوبة الغرامة فقط، لأن الضرب لم يسفر عن مرض أو عجز، والصيدلي الذي اعتدي بالضرب علي مسيحية انتهي الأمر بالمصالحة بين الطرفين، وهو ما يحدث في الأغلب في أي واقعة مشابهة، مما أدي إلي عدم تحقيق فلسفة القانون، وهو تحقيق الردع العام والخاص. وإذا نظرنا إلي قضية ذبح القص العقوبة هي الإعدام، وفقاً لقانون العقوبات، والتي تأتي-أي الإعدام- مخالفة للإجماع الفقهي الذي يؤكد أن لا يقتل مسلم بكافر لأن المسيحي كافر بإجماع الفقهاء.
بناء على ما تقدم؛ فإن تفعيل أحكام الدستور هو الضمان الوحيد للحفاظ على السلم الاجتماعي ومكافحة الأفكار التكفيرية التي تؤدي للإرهاب، وتفعيل قوانين مكافحة التمييز والتحريض علي الكراهية والعنف هي الرادع الوحيد، فوسائل التواصل ينتشر بها بشكل غير مسبوق مئات الصفحات السلفية والإخوانية، التي تحض علي التكفير وتنشر الكراهية بألفاظ مباشرة وغير مباشرة، ولا تخضع لسياسة حجب المحتوي المتطرف أو العنيف لأن من الصعب تمييز المحتوي المتطرف في اغلب الأحوال من غير المتخصصين. وعليه، فإنه باستمرار مثل هذه الصفحات والمواقع لن يكون هناك أمل في القضاء علي التطرف والإرهاب في مصر بالخصوص والعالم بالعموم، كما لا يخضع أغلبها لأي شكل من إشكال المسائلة القانونية لصعوبة تتبعها وتفريغها لكثرتها.
أخيرا؛ منع التصريح بالأفكار التي تحض على العنف، هو المنقذ في الوقت الراهن، صحيح لن يمنع البعض من اعتناقها وتبنيها، ولكن على الأقل منع خروجها للمجال العام، يُسهم في منع انتشارها بين الأجيال الجديدة، وانحصارها إلى حد كبير مع الوقت، في المقابل تفعيل مبادرة الرئيس” عبد الفتاح السيسي” ودعواته المتكررة لإصلاح الخطاب الديني، التي لم ترق محاولات المؤسسات في هذا الشأن إلي أي نتيجة علي ارض الواقع، فنسب الإلحاد والتطرف في تزايد مستمر، وهم الوجهين للتشبع بنفس الأفكار.
عليه؛ لا يسعني إلا الاستشهاد بالآية الكريمة قال تعالي: “ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجزي به” الآية جمعت المسلم والكتابي وخضعت لنفس الحكم الإلهي، إذن النجاة في قوله (ص):”قل أمنت بالله ثم استقم”، وقوله تعالي:” واستقم كما أمرت ومن تاب معك”، فهل استقام من يشيعون التكفير؟، لا تجعل نفسك حارس علي الجنة أو النار، فالنجاة بنفسك هي الأولي، قال تعالي” كلهم آتيه يوم القيامة فردا”، قال تعالي:” كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه”، فمن أين يأتي هؤلاء بالثقة من قبول دعوتهم من الأساس؟.