حسابات مختلفة: كيف تعاملت “أوروبا” مع الهجرة بعد الحرب الأوكرانية؟
يسرا محمد مسعود- باحث مساعد بالمركز
في ظل الأحداث المتلاحقة التي تشهدها القارة الأوروبية، لا سيما بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي أجبرت عدد كبير من الأوكرانيين على اللجوء إلى الدول المجاورة، وتحديدا بولندا ومولدافيا، ظهرت موجة كبيرة من التضامن الأوروبي مع اللاجئين الأوكران، إذ أبدت العواصم الأوربية استعدادها لاستقبال عدد كبير منهم، وقدمت لهم المزيد من المساعدات، في حين انتهجت سياسيات مغايرة تماماً مع المهاجرين من خارج أوروبا، خاصة من أفريقيا والشرق الوسط، فلماذا تغير التعامل الأوربي مع المهاجرين، وما هي السياسات التي اتخذتها فرنسا وبريطانيا تجاه المهاجرين الأفارقة؟.
الحرب وتداعيات الهجرة:
تسببت الحرب الروسية الأوكرانية في انطلاق أسرع هجرة جماعية في أوروبا منذ ما لا يقل عن ثلاثة عقود، أعادت إلى الأذهان حروب البلقان في التسعينيات وحركة النزوح السكاني الكبيرة التي تلت الحرب العالمية الثانية، فحتى نهاية مارس 2022، وصل عدد الذين غادروا أوكرانيا منذ بداية الحرب على بلادهم حوالي 3 ملايين لاجئ، ما يعني أن عدد الأوكرانيين الذين دخلوا دول الاتحاد الأوروبي 10 أضعاف الرقم القياسي لأسبوع واحد للمهاجرين الذين دخلوا أوروبا خلال أزمة الهجرة عام 2015، وضعف عدد اللاجئين الذي سجلته الأمم المتحدة خلال أول 11 يومًا من حرب كوسوفو في عام 1999.
وقد قررت دول الاتحاد الأوروبي وفي وقت قياسي -بعد أسبوع من بدء الهجوم الروسي- منح الأوكرانيين نظام حماية مؤقت، وتقاسم المسؤوليات بين دول الاتحاد فيما يتعلق بأزمة المهاجرين الأوكرانيين، كما أبدى عدد من الدول الأوربية، استعدادها لاستقبال لاجئين أوكرانيين بدون تأشيرات، وذلك في ضوء القرب الجغرافي لأوكرانيا للدول الأوروبية، وما يرتبط بتأثير الحرب في أوكرانيا على أمن أوروبا؛ حيث تمتد التأثيرات السلبية للحرب لكل دول الاتحاد.
وفي الوقت الذي أبدت فيه الدول الأوربية تضامناً واسعاً مع المهاجرين الأوكرانيين، أظهرت بعضها تعصباً واضحاً وأحكاماً مسبقة إزاء اللاجئين وطالبي اللجوء غير الأوربيين،مما كشف عن ازدواجية غربية وتمييز فج في التعامل مع المهاجرين واللاجئين الأوكرانيين والآخرين من خارج أوروبا، اتضح ذلك بشدة من خلال السياسيات التي اتبعتها بعض الدول الأوربية
وفي إطار مواقف وردود أفعال الدول الأوربية ضمن محاولات السيطرة على تدفق اللاجئين غير الشرعيين، يتبين أن كلاً من بريطانيا وفرنسا كان لهما سياسات مغايرة عما اتبعته من قبل فيما يتعلق بقضايا الهجرة، والتي يمكن بيانه على النحو التالي.
سياسات بريطانيا بشأن المهاجرين:
في ضوء أزمة المهاجرين الأخيرة اتجهت الحكومة البريطانية إلى تشريع قوانين جديدة، بموجب مشروع قانون الجنسية والحدود لتسهيل إرسال المملكة المتحدة للاجئين إلى دولة أخرى إلى أن يتم البت في طلبات اللجوء الخاصة بهم، وذلك على الرغم من توقيع المملكة المتحدة على معاهدات دولية لضمان حقوق اللاجئين، مثل: اتفاقية الأمم المتحدة لللاجئين، التي تمنع إرسال أشخاص إلى بلد يواجهون فيه مخاطر على الحياة أو قيوداً على حريتهم، والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان التي تنص على أنه لا يجوز إخضاع أي شخص للتعذيب أو المعاملة السيئة أو العقوبة اللاإنسانية أو المهينة.
إلا أن لندن اتجهت إلى اتباع خطة تجريبية لنقل الأشخاص الذين اعتبرتهم دخلوا المملكة المتحدة بصورة غير شرعية إلى دول أخرى،حيث صرح رئيس الوزراء البريطاني ” جونسون”، عند طرح خطته بهذا الشأن، بإن “ردع الدخول غير الشرعي سيؤدي إلى توفير كبير” وإن عدم إمكانية تحديد التوفير بدقة يجب أن لا يحول دون اتخاذ الإجراء، وتعتقد وزارة الداخلية البريطانية أن قانون اللجوء الحالي سيكون كافياً لتنفيذ الخطة البريطانية لإرسال اللاجئين إلى رواندا.
ووفق الخطة البريطانية سيتم نقل اللاجئين من بريطانيا إلى رواندا، والذي سيسمح لهم من هناك بالتقدم بطلبات للحصول على حق الإقامة في رواندا، وقد أعلنت الأخيرة منتصف أبريل/ نيسان 2022، أنها وقعت على صفقة بملايين الدولارات مع بريطانيا لاستضافة طالبي اللجوء والمهاجرين إلى المملكة المتحدة، في إطار محاولة الحكومة البريطانية للقضاء على الهجرة غير القانونية في البلاد.
غير أن هذه الخطة تعرضت لانتقادات واسعة، فقد اعتبرتها الأمم المتحدة انتهاكاً للقانون الدولي، ووصفت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين محاولة “نقل المسؤولية” عن المطالبات بوضعية اللاجئ أمر “غير مقبول”، وقال مجلس اللاجئين إن الاقتراح لن ينجح ووصفت منظمة العفو الدولية في المملكة المتحدة الخطة بأنها “فكرة سيئة بشكل صادم”.
كما انتقدت المنظمات المعنية بشؤون اللاجئين، خطة جونسون ووصفتها قاسية، وشككت في تكلفتها ومدى فعاليتها، عدا عن مخاوفها إزاء سجل رواندا في مجال حقوق الإنسان، وطالبت أكثر من 160 منظمة خيرية وجماعة من جماعات الناشطين في هذا المجال الحكومة بإلغاء الخطة، بينما انتقدت أحزاب المعارضة وبعض الأعضاء في حزب المحافظين الحاكم تلك السياسة، ووصفتها المنظمات المعنية بشؤون اللاجئين، خطة رئيس الوزراء البريطاني”جونسون بالقاسية، وشككت في تكلفتها ومدى فعاليتها،كما وصفها بعض المعارضين للخطة بأنها “مروعة للغاية”.
سياسات فرنسا بشأن المهاجرين:
احتلت قضية الهجرة واللجوء مكاناً بارزاً لدى مرشحي الرئاسة الفرنسية التي تجرى انتخاباتها في الفترة الحالية، لا سيما بين المرشحين اللذين سيخوضان جولة الإعادة، وهما: الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته”إيمانويل ماكرون”، ومرشحة حزب “التجمع الوطني”اليميني المتطرف “مارين لوبان”، وكان من الواضح هناك تبايناً في رؤية كلاً مهما فيما يتعلق بالسياسيات التي يجب اتباعتها بشأن قضية المهاجرين، وهو ما يمكن الإشارة إليه كما يلي:
(*) سياسة ماكرون: شدد “إيمانويل ماكرون” مؤسس حزب “الجمهورية إلى الأمام” في برنامجه على بضعة نقاط مقتضبة في ملف الهجرة، والتي اعتبرها حازمة في مواجهة قضية الهجرة،فقد طرح برنامج ماكرون الانتخابي فيما يتعلق بالهجرة،وتحت عنوان “جمهورية الحقوق والواجبات”، أن من الأهمية “التحكّم” بالهجرة بشكل أفضل، لافتا إلى أن “العيش في فرنسا يعني أن نعيش جميعا في أمّة، بغض النظر عن الأصل أو الدين أو التوجه الجنسي أو المظهر، فنحن متساوون في القانون”.
لكن “ماكرون” شدد في الوقت نفسه، على أن منح تصريح الإقامة طويل الأمد سيكون مشروطاً بامتحان يحدد مستوى تحدث الشخص باللغة الفرنسية، إضافة إلى انخراطه في سوق العمل،ويرى ماكرون أن تطبيق ذلك سيكون عبر إجراء “اختبار” لكل شركة يبلغ عدد موظفيها أكثر من خمسة آلاف شخص، لمعرفة نسبة المهاجرين بين موظفيها، وسيجعل نتائج هذا الفحص علنية ومتاحة للجميع، كما تطرّق إلى موضوع السكن الذي يشكل إحدى أكبر التحديات التي يواجهها المهاجرون أثناء بحثهم عمّن يؤجرهم منزلاً، وقدم وعوداً بتوفير مساعدات مالية للمستأجرين؛ كما يريد ماكرون تعزيز حماية الحدود الأوروبية، ويرغب بإنشاء “قوة حدودية” لتعزيز المراقبة على الحدود الفرنسية، وإصلاح نظام “شنغن” الذي يتيح للأوروبيين والمقيمين في الدول الـ26 التنقل بحرية.
وتعكس هذه السياسات اتجاه ماكرون إلى إدماج المهاجرين في المجتمع الفرنسي مع الحفاظ على هويتهم، ففي كلمته المختصرة أمام مجمعه الانتخابي في باريس، قال:”إن فرنسا تستوعب الجميع وتحترم عاداتهم في الطعام، وخصّ بالذكر اليهود والمسلمين”، في محاولة رآها البعض لاستمالة مرشحي أقصى اليسار.
(*) سياسة لوبان: خصصت مرشحة حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف “مارين لوبان” في برنامجها الانتخابي، مؤلفاً من حوالي 40 صفحة تحت عنوان “السيطرة على الهجرة”، انتقدت فيه سياسات الهجرة ووضعت مقترحات من شأنها “الدفاع عن هوية وتراث فرنسا”، منها سن قانونيجرم دخول المهاجرين إلى الأراضي الفرنسية بطريقة غير شرعية وعدم تسوية أوضاع “المهاجرين غير الشرعيين”، وطرد الأجانب المخالفين للقانون الفرنسي مع تشديد العقوبات الجنائية عل كل المتواطئين مع “المهاجرين غير الشرعيين”.
كما تخطط “لوبان” حال فوزها بانتخابات فرنسا؛ لإلغاء تصاريح الإقامة للأجانب الذين لم يعملوا في غضون 12 شهرا، إضافة إلى تشديد شروط منح الجنسية الفرنسية، وإلغاء حق اكتساب الجنسية الفرنسية على أساس الولادة يتيح للطفل المولود في فرنسا (ويكون أحد الأبوين فرنسي) الحصول بشكل تلقائي على الجنسية الفرنسية عند بلوغ سن الرشد؛ إضافة إلى تقليص المساعدات المادية للمهاجرين وإلى إلغاء الرعاية الطبية المخصصة للمهاجرين وتريد “لوبان” وضع شروط تقيد وصول المهاجرين إلى المساعدات المادية الشهرية.كما ستعطي الأولوية للفرنسيين في سوق العمل والحصول على سكن اجتماعي.
ومن الواضح أن المرشحة الرئاسية ” مارين لوبان” تحمل نظرة عدائية تجاه العديد من الملفات التي تخص الدول الأفريقية، من بينها مكافحة الإرهاب والهجرة، حيث ترى أن القوانين الحالية يجب أن تصبح أكثر تشددا تجاه المهاجرين في فرنسا، مطالبة باتخاذ سياسات أكثر صرامة تجاه هؤلاء المهاجرين وقفل باب الهجرة أمامهم لحماية الهوية الفرنسية، وفي وقت سابق، وعلى إثر خلافات بين فرنسا والجزائر شنت “لوبان” هجوماً عنيفاً ضد الأخيرة، مطالبة بحرمان الجزائريين من تأشيرات الدخول ووقف تحويلاتهم البنكية.
ويبدو أن هناك اختلافاً واضحاً بين “ماكرون”و”لوبان” فيما يتعلق بقضية الهجرة، فرغم أن الأول طرح بضعة نقاط مقتضبة حول هذه القضية؛إلا أنه اعتبرها، إجراءات حازمة في مواجهة ملف الهجرة، لكنها تبقى أقل حدة،وعلى عكس ما طرحته مرشحة اليمين المتطرف، “لوبان”، حيث يحتل موضوع الهجرة في برنامجها الانتخابي جزءا أساسيا، وتحدثت فيه عن إجبار المهاجرين على التخلّي عن عاداتهم المرتبطة بهويتهم الأم.
ما يمكن استنتاجه مما سبق، هو أن الحرب في أوكرانيا أجبرت دول الاتحاد الأوربي على تغيير سياساتها بشأن التعامل مع المهاجرين من غير أوروبا، ففي الوقت الذي تضافرت الجهود الأوربية لاحتواء أزمة المهاجرين الأوكرانيين، اتبعت سياسات أكثر تشدداً تجاه المهاجرين من خارج أوروبا، ما يعكس ازدواجية واضحة تجاه التعامل مع هذه القضية، التي تربط بالأساس بالأزمات الإنسانية وزيادة معدلات الفقر والمعاناة لا سمنا في الدول الأفريقية، وهو الأمر المرشح للتفاقم تأثراً بالحرب في أوكرانيا.