استحقاقات مؤجلة.. أي فرص لإجراء الانتخابات الليبية؟
د. محمد عبدالقادر البصير- خبير ليبي مشارك بالمركز
يوم بعد يوم يترقب الشعب الليبي اتفاق الأطراف السياسية في ليبيا على إجراء انتخابات طال انتظارها، ويُنظر إليها على أنها مسألة حاسمة وممهدة لإنهاء الانقسامات، ويأمل منها وضع حد للأزمة الليبية المستمرة منذ أكثر من عشر سنوات، ورغم التصريحات المتكررة للمسئولين الليبيين – الحاليين والسابقين- عن مساعي إتمام الانتخابات، إلا أنه وحتى الآن، لا يزال الغموض يكتنف تلك العملية، في ظل حالة من الضبابية التي تسود المشهد السياسي الليبي. وعليه، ما هي العوامل والأسباب التي تحول دون إجراء الانتخابات؟، وخطورة عدم إتمامها على الأوضاع في ليبيا؟.
أهمية إجراء الانتخابات:
على الرغم من أن الانتخابات المنتظرة ليست وحدها “الحل المعجزة” الذي يضمن الاستقرار ومعالجة المشكلات المزمنة التي تعاني منها الدولة الليبية؛ إلا أنها تمثل خطوة بالغة الأهمية في طريق الاستقرار السياسي، إذ أن إجراء الانتخابات يمكن يضع حداً للأوضاع السلبية التي شهدتها ليبيا منذ يوم 17 فبراير عام 2011، والتي أحدثت تحولات سياسية وأمنية عميقة، أدت إلى دخول البلاد في حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، نتيجة الفراغ السياسي، والخلافات بين الأطراف الليبية حول طبيعة إدارة الدولة، وغياب التوافق حول المناصب السيادية وعدم توحيد المؤسسة العسكرية، وتوالي المراحل الانتقالية.
وقد تؤسس العملية الانتخابية حال إتمامها؛ للمصالحة الشاملة، والتي تقود بدورها إلى تحقيق السلام والاستقرار وإنهاء الصراعات السياسية، إذ أنها تقوم على تقاسم السلطة وتوزيع الأدوار السياسية، وتدعو إلى التعاون والمشاركة في الحكم، لا سيما إذا ما تم تغليب المصلحة الليبية على المصالح الفردية والجهوية.
وبالتالي، يعد إجراء الانتخابات والاحتكام لنتائجها، عامل بالغ الأهمية في بلوغ حالة الاستقرار، وغلق أبواب العنف والاقتتال، وإخماد نيران الفتنة والإقصاء والعزل السياسي، والبدء في عملية بناء الدولة، والتحول الديمقراطي المنشود، الذي يؤسس لمرحلة جديدة؛ تعلي من سيادة الدولة ووحدة مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية والعسكرية والأمنية، ويتم خلالها إخضاع كافة التشكيلات العسكرية والجماعات المسلحة لسلطة الدولة، وهو أمر ترغب أطياف الشعب الليبي برويته في القريب العاجل.
عوامل وأسباب عدم الإتمام:
لا شك أن هناك العديد من العوامل والأسباب التي حالت دون إجراء الانتخابات في ليبيا؛ رئاسية كانت أو برلمانية، ويمكن الإشارة إلى أهمها على النحو التالي:
(*) عدم تمكن لجنة صياغة الدستور من إنجاز مسوّدة دستور وطني توافقي؛ تسوفي كل متطلبات الأطراف الليبية، وتلبي تطلعات الشعب الليبي، ويمكن حدوث التوافق عليها، إذ أن مسودة الدستور المقترحة، والتي عكفت الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور على إعدادها طيلة السنوات الماضية، لم تكن شاملة ووافية وتوافقية، ولم تعرض للاستفتاء الشعبي بالأساس.
(*) غياب الثقة بين الأطراف السياسية الليبية، التي تصدرت المشهد الليبي في أعقاب يوم 17 فبراير 2011، وهو ما يعد المغذي الحقيقي لأزمة عدم التوافق، والذي يؤدي بدوره إلى تنازع الحكم في ليبيا، تارة بحكومة واحدة، وتارة بحكومتين، مما يساهم في زيادة حالة عدم الاستقرار وعدم التوافق وتصاعد الخلافات.
(*) فشل الأطراف الليبية في التوصل إلى توافق الآراء حول القواعد التي يمكن أن تتم على أساسها الانتخابات،- حيث تعمل ليبيا بوثيقة دستورية “مؤقتة” منذ 2011- والافتقار إلى إطار قانوني للعملية الانتخابية، والخلافات بشأن الصلاحيات التي ستمنح للرئيس الجديد أو للبرلمان، ومن يمكنه الترشح في التصويت، وعدم الوضوح بشأن القيادة العامة للقوات المسلحة.
(*) رفض بعض المكونات السياسية السماح بقبول عدد من المرشحين، في الوقت الذي لم تتمكن لجنة الانتخابات من الاتفاق على قائمة نهائية بالمرشحين المؤهلين، مما يثير الشك لديهم في نزاهة إجراء الانتخابات، وفي ظل مخاوف تلك المكونات السياسية من وصول مرشحين بعينهم إلى السلطة، مما يهدد مصالحهم ونفوذهم بشكل مباشر، ما يعني أن استمرار الأزمة وديمومة الصراع قد يكون أفضل لمكاسبهم.
(*) الأوضاع الأمنية الحذرة، التي يعاني منها الداخل الليبي؛ حيث تسيطر الجماعات المسلحة على الوضع الليبي، والتي يرفض عدد منها قبول بعض المرشحين، ولعل ذلك من أبرز العوامل التي أدت إلى إخفاق حكومة الوحدة الوطنية في التمهيد لعقد الانتخابات، وفشل وزارة الداخلية في تأمين صناديق ومكاتب الاقتراع.
(*) تأثير العوامل الدولية والإقليمية، والتدخلات المحتدمة بين القوى الأجنبية، متمثلة في الولايات المتحدة وروسيا، ودول الاتحاد الأوروبي، لا سيما فرنسا وإيطاليا، وكذلك تركيا وإيران، فضلاً عن بعض الدول العربية، التي تدعم تحالفات خطيرة للتأثير على تقرير مصير ليبيا حفاظا على مصالحها، مما يجعل الساحة الليبية، ساحة للصراع الدولي والإقليمي، وهو ما يعقد المشهد الليبي وتدهور الأوضاع الداخلية أكثر.
لا شك أن عدم التوافق بين الأطراف الليبية، وتصاعد الخلافات بشكل مستمر؛ يدفع المشهد الليبي بعيداً عن أفق الحل السياسي، وهو ما لا يخدم المصالح العليا للبلاد، بل يخدم بالأساس أجندات أطراف أخرى ترى في ليبيا ساحة نفوذ ومصالح!!
مستجدات الأزمة:
عقب توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين الأطراف الليبية في أكتوبر من العام 2020، والاتجاه إلى الحوار من خلال ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي عقد بمدينة جنيف السويسرية فبراير 2021، انبثق عنه تشكيل المجلس الرئاسي، برئاسة “محمد المنفي”، وحكومة الوحدة الوطنية برئاسة “عبد الحميد الدبيبة”، مما مهد الطريق لإعادة توحيد المؤسسات السياسية والعسكرية التي كانت منقسمة، وتتصارع بشكل متكرر منذ عام 2014، وبعد أن منح مجلس النواب الليبي الثقة لحكومة الوحدة الوطنيةفي 10 مارس 2021، وكذلك للمجلس الرئاسي، أدى ذلك إلى التوافق على انعقاد الانتخابات الرئاسية في 24 ديسمبر 2021، إلا أن المفوضية الوطنية العليا للانتخابات تقدمت باقتراح إلى مجلس النواب لتأجيل الانتخابات الرئاسية إلى 24 يناير 2022 بدلًا من موعدها السابق؛ لأسباب فنية وقضائية وأمنية.
وبعد مضي المدة المحددة لحكومة الوحدة الوطنية برئاسة “الدبيبة”، والتي بلغت عاما واحدا، قرر البرلمان الليبي سحب الثقة عن حكومة “الدبيبة”، وكلف وزير الداخلية الليبي السابق “فتحي باشاغا” في 10 فبراير 2022، بتشكيل حكومة جديدة، وقيادة مرحلة انتقالية أخرى في ليبيا، وصولا إلى إجراء انتخابات عامة خلال 14 شهرا، وذلك على الرغم مما أبداهرئيس الحكومة الحالي “الدبيبة”، من التمسك بمنصبه ورفضه هذا المسار الذي ذهب إليه البرلمان.
وبعد أن نالت حكومة “باشاغا” ثقة البرلمان بعد التصويت عليها في الأول من مارس2022، يسود المشهد الليبي حالة من الترقب؛ خشية العودة إلى مرحلة الصراع، ففي الوقت الذي طالب رئيس الوزراء الجديد “فتحي باشاغا” بانتخابات متزامنة رئاسية وبرلمانية معاً، يطالب رئيس الوزراء “الدبيبة”، بإجراء انتخابات برلمانية أولا ثم الرئاسية ثانياً، الأمر الذي يثير المخاوف في حال ما لم يتم التوصل إلى اتفاق بين الجانبين، لا سيما بعد دعوة “الدبيبة” إلى النزول إلى الشوارع للاحتجاج على توسيع السلطات البرلمانية والدعوة إلى إجراء الانتخابات، وإعلان ” باشاغا” عن نيته دخول طرابلس.
وإذا كانت الفصائل السياسية الليبية متفقة على إجراء الانتخابات البرلمانية، إلا أنها لا تزال منقسمة بشأن الانتخابات الرئاسية، خشية أن تأتي الأخيرة بنتائج لا تصب في مصالحها أو تقود نفوذها، الأمر الذي قد يدفع المشهد الليبي بالاتجاه نحو مزيد من الاستقطاب،لا سيما في إطار مساعي كل طرف لتعزيز مواقفه، فقد ذكرت وسائل إعلام ليبية السبت 16 ابريل 2022، أن العاصمة طرابلس شهدت تحركات عسكرية لنحو لسيارات محملة بالأسلحة الثقيلة والمتوسطة، بعد ورود أنباء عن نية رئيس الحكومة المكلف “باشاغا” دخول العاصمة، مما ينذر بتحول الأوضاع بعيداً عن الاستقرار.
مساعي تدارك الأزمة:
تكشف الأسباب المشار إليها عن مدى المأزق الذي يواجه مستقبل ليبيا، وليس فقط إجراء الانتخابات، والذي تثير المخاوف من أن يستمر التعنت بين الفرقاء السياسيين إلى تطور الخلاف وإقحام البلاد في أزمات لا تحمد عقباها، في ظل سعي البعض إلى وضع شروط مسبقة للوصول إلى الانتخابات، للانفراد بالسلطة والثروة والسلاح دون باقي فئات الشعب الليبي الذي يتطلع إلى الاستقرار، والتحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة من طرف إلى طرف أخر دون الحاجة إلى تعميق الجهوية والإيديولوجية السياسية التي تفرض نفسها في كثير من الأحيان؛ غير أن المصالح المتضاربة والخلافات السياسية ومحاولات التهميش والإقصاء وإساءة استخدام السلطات، تعيق هذه العملية بالغة الأهمية لمستقبل ليبيا والشعب الليبي.
وفي إطار المساعي الدولية لمعالجة الأزمة، تحتضن القاهرة أعمال مشاورات اللجنة المشتركة للحوار بين مجلسي النواب والدولة، منذ الأربعاء 13 ابريل2022 والتي تستمر إلى 20 من هذا الشهر،برعاية مستشارة الأمم المتحدة الخاصة بليبيا، “ستيفاني ويليامز”، والتي تقوم بالوساطة بين جميع الأطراف، بهدف تحديد قاعدة دستورية لإجراء انتخابات حرّة تتسم بالمصداقية والشفافية والشمولية.
كما تحاول اجتماعات القاهرة التمهيد لاستكمال باقي استحقاقات المرحلة الانتقالية، ومنها الاستفتاء على القاعدة الدستورية، والاحتكام للقاعدة الناخبة، والذي يشكل الخطوة الأهم في الخلاف الدستوري، وتدعيماً لذلك، أصدر أكثر من عشرين مرشحاً للانتخابات يوم الثلاثاء 12 أبريل 2022، بياناً ثمّنوا فيه رؤية المجلس الرئاسي للعملية الانتخابية وضرورتها، باعتبارها تعبيراً عن إرادة الناخبين والوسيلة الوحيدة للاستقرار وإنهاء المراحل الانتقالية، والخروج من حالة الانسداد السياسي.
ويمكن القول إن أبرز التحدّيات التي تواجه إجراء الانتخابات الليبية، هو غياب التوافق بين الفرقاء السياسيين، حول ما إذا كان ينبغي أن تكون الانتخابات البرلمانية أولاً، أو انتخاب الرئيس الدولة، فضلا عن انعدام الثقة، والخوف على المصالح الخاصة وخشية فقدان النفوذ، وإن كانت مصلحة ليبيا أقوى وأكبر وأهم من ذلك بكثير.
استناداً إلى ما تقدم، فإن فرص إجراء الانتخابات الليبية، تبدو محفوفة بالمخاطر؛ طالما استمرت الأسباب المعرقلة لها موجودة، ما يعني أن معالجة المشكلة تقضي معالجة أسبابها أولاً، وهو ما يأمله الليبيون، لا سيما وأن إجراء الانتخابات، يعد مطلباً لا تراجع عنه ولا تهاون فيه، باعتباره المنطلق نحو ليبيا الجديدة، حيث يرغب الشعب الليبي في العودة ببلاده إلى حالة السلام والاستقرار، واسترجاع حكم الدستور والقانون، وينتظر أن تقضي الانتخابات حال إجراؤها إلى نظام سياسيي عبر عن آماله وتطلعاته نحو مستقبل أفضل.
بالنهاية، يشير الواقع الليبي إلى أن مشوار الديمقراطية لا يزال طويل، ولكن الوصول إلى نتائج مرضية للجميع ليس مستحيلاً، إذا ما استعاد الليبيون الثقة في أنفسهم، وتم تغليب المصلحة الوطنية، أما الإصرار على إرجاء الانتخابات لأجل غير مسمى، من شأنه أن يزيد من حالة الاحتقان السياسي، ويعزز النزاعات وحالة الفوضى وعدم الاستقرار؛ كنتيجة حتمية لإخفاق النخب السياسية وصناع القرار والأطراف الليبية المختلفة؛ في منح الشعب الليبي حقوقه المشروعة في التعبير عن رأيه فيمن يتولى المسؤولية.