فرص “ماكرون” في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية
فاز الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون بالجولة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية التي عقدت في العاشر من أبريل الجاري، لينتقل بعدها إلى الجولة الثانية التي ستعقد في الرابع والعشرين من الشهر ذاته، رفقة مارين لوبان مرشحة اليمين، والتي حلت في المرتبة الثانية بعد ماكرون، في انتخابات شهدت تقاربا واضحا في النتائج بين المرشحين، وتقدم غير متوقع لمرشحين على حساب آخرين والعكس.
وعليه، يلقي هذا التحليل الضوء على نتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية ٢٠٢٢ بالمقارنة بالانتخابات السابقة في ٢٠١٧، والمرشح الأوفر حظا في الجولة الثانية، ومواقف أبرز المرشحين بعد إعلان نتيجة الجولة الأولى، وأثر هذه المواقف على النتيجة النهائية لانتخابات الإليزيه.
نتائج متقاربة:
أسفرت نتائج الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية عن تقدم إيمانويل ماكرون، الذي حصل على نسبة 27,8% من الأصوات، مقابل ٢٣,١٪ لصالح مارين لوبان مرشحة اليمين المتطرف، والتي حلت بذلك في المرتبة الثانية خلف ماكرون، ليتواجها معا في الجولة الثانية في ٢٤ أبريل، في حين حل جون ميلونشون مرشح اليسار في المرتبة الثالثة بعدما حصل على ٢٢ ٪ من الأصوات، ثم تلاه مرشح أقصى اليمين إريك زمور بعد حصوله على ٧,١ ٪ من مجمل أصوات الناخبين، وحلت رابعة فاليري بيكريس مرشحة حزب الجمهوريين التي حصلت على ٤,٨ ٪ من الأصوات بعدما استكملت حملتها الانتخابية عن بعد إصابتها بفيروس كورنا قبيل الانتخابات، وهذه هي نتائج أبرز المرشحين، مقابل نسب ضعيفة لبقية المرشحين الـ ١٢.
واستنادا إلى ذلك، يتوقع عدد من المحللين الفرنسيين والمؤسسات التي تختص بإجراء استطلاعات للرأي بخصوص نتائج الجولة الثانية والنهائية من انتخابات الرئاسة تقاربا في النتائج بين ماكرون ولوبان، وعلى رأسها معهد IFOP، والذي رجح حصول ماكرون على ٥١٪ من أصوات الناخبين، مقابل ٤٩٪ لصالح لوبان، وهي نسب متقاربة إلى حد كبير مقارنة بنتائج الجولة الثانية من انتخابات ٢٠١٧، والتي خاضها ماكرون ولوبان أيضا، وفيها تمكن ماكرون من الحصول على نسبة ٦٦٪ تقريبا من الأصوات، رغم تقارب النتائج في الجولة الأولى التي حصل فيها ماكرون على ٢٤,١ ٪، بينما حصلت مارين لوبان على ٢١,٣ ٪ .
وقد تعكس الزيادة في نسب الجولة الأولى لكلا المرشحين، أن ماكرون وحزبه ” الجمهورية إلى الأمام ” في الانتخابات السابقة كانا جديدان على الساحة، وفي المقابل كانت مارين لوبان تابعة لحزب أبيها المعروف بتصريحاته العنصرية والمتطرفة والتي أدت إلى العزوف عن التصويت لها في انتخابات ٢٠١٧، ومن بعدها انشقت عن أبيها وأزاحته من رئاسة الحزب، لذا جاء تقدم ماكرون على حساب لوبان بعدما مثل متنفسا من الأحزاب اليمينية التي تملأ المجتمع الفرنسي.
وقد ترجع زيادة مارين لوبان في هذه الانتخابات مقارنة بالسابقة، إلى الاضطرابات التي شهدتها الولاية الأولى لماكرون من احتجاجات بسبب غلاء الأسعار، والتعامل الخاطئ في البداية مع أزمة كورونا وأزمة الغواصات، والتي استغلتها لوبان لجذب عدد من الناخبين إليها، ولكن السبب هو نفسه ما عاد ورجح كفة ماكرون مرة أخرى بعد القدرة على التعامل مع الفيروس والتعافي من تبعاته الاقتصادية وتحقيق معدلات نمو عالية.
حظوظ ماكرون:
رغم التقارب الواضح في النتائج، وقوة منافسة مارين لوبان، وصعوبة التكهن بنتيجة أو نسبة نهائية للجولة القادمة من الانتخابات، إلا أنه لا يزال الرئيس الفرنسي الحالي المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون، هو الأوفر حظا حتى هذه اللحظة، وهو ما أعلنته استطلاعات الرأي قبل الانتخابات، وأيدته نتائج الجولة الأولى، رغم وجود تنافسية كبيرة في الانتخابات وتنوع في الانتماءات السياسة والأيديولوجية للمرشحين، من اليمين والوسط واليسار. تأسيسا على ما سبق، يمكن التأكيد على أن هناك مجموعة من العوامل تؤشر إلى فوز ماكرون في الجولة الثانية من الانتخابات، لعل أهمها:
(*) مواقف الخصوم: قابل تأييد إيريك زمور لمارين لوبان في الجولة الثانية ودعوته لمناصريه بالتصويت لصالح لوبان في الجولة القادمة، تأييد غالبية المرشحين الآخرين لإيمانويل ماكرون، حيث أبدى البعض منهم دعمهم الصريح لإيمانويل ماكرون، مثل فاليري بيكريس التي حثت مرشحيها على التصويت لماكرون فور إعلان نتائج الجولة الأولى، وتصرفت على غرارها الاشتراكية أنا هيدالغو، ومرشح حزب الخضر يانيك جادو، والحزب الشيوعي فابيان روسيل. والبعض الآخر دعا أنصاره إلى عدم التصويت إلى لوبان، وهو في حد ذاته دعم ضمني لماكرون، مثل اليساري جون ميلونشون، كما اتخذ نفس الموقف فيليب بوتو، من أجل حجب الأصوات عن لوبان، وهذا الموقف قد يكون مرده إلى أن ماكرون هو الأقل حدة في الأفكار، والأكثر براغماتية في التعامل مع القضايا الداخلية والخارجية، وهو ما ينحو بأن تتجه التوقعات لصالح إيمانويل ماكرون في الجولة الثانية إلى حد كبير، بالإضافة إلى أنه يحظى بدعم كبير من قطاع من الفرنسيين الذين يرفضون الأفكار المتطرفة للأحزاب اليمينية، وهو ما تجلى في الجولة الأولى.
ومن المرجح أن تذهب هذه الأصوات في الجولة الثانية إلى ماكرون بعد دعوة ميلونشون لمناصريه بعدم التصويت للوبان، وفي حالة إعلان ميلونشون دعمه الصريح لماكرون خلال الأيام القادمة، وبعدما أعلن ماكرون عزمه زيارة مدينتي مولوز وستراسبورغ بعدما صوت أكثر من ثلث ناخبيها لجان لوك ميلنشون.
(*) البرامج الانتخابية: حيث لاقى البرنامج الانتخابي لمارين لوبان انتقادات واسعة في الداخل الفرنسي، وتظهر استطلاعات الرأي أن أكثر من نصف الفرنسيين مهتمون بدرجة أكبر بالمواضيع الخاصة بالقدرة الشرائية والأجور وأسعار الطاقة، خاصة بعدما رفض فرض عقوبات على قطاع الطاقة الروسي رفقة واشنطن، خلافا لموضوعات التعليم والهجرة والرعاية الصحية التي تأتي في مرتبة متأخرة بعض الشئ، وهي النقاط ركزت عليها لوبان في برنامجها الانتخابي.
(*) الجاليات الفرنسية: حيث صوتت الدول المغاربية كالمغرب لصالح ميلونشون بنسبة 40,24 ٪، وبـ ٣٧,٨٧٪ لصالح ماكرون، الأمر نفسه تقريبا بالنسبة للجزائر، بعدما صوتت الجاليات الفرنسية بشكل أكبر لصالح ميلونشون الذي حصد ما يقارب ٥٥,٤٪، مقابل ٣٧٪ لصالح ماكرون. في حين تصدر ماكرون لنتائج التصويت في تونس، تلاه ميلونشون، ثم اليمين المتطرف.
وبوجه عام، جاءت الأصوات في شمال أفريقيا لصالح ميلونشون ثم ماكرون. أما عن أفريقيا جنوب الصحراء، مثل السنغال وساحل العاج، فلم يختلف الأمر فيها كثيرا، حيث توزعت الأصوات بين ماكرون ميلنشون، وحلت لوبان في المرتبة الثالثة. ورغم عدم وجود استطلاعات عن رأي هذه الجاليات في الجولة الثانية من الانتخابات، إلا أنه من المرجح أن تذهب أغلبية الأصوات لصالح ماكرون، أو على أقل تقدير ألا تذهب إلى لوبان، وهو في حد ذاته مصلحة لماكرون. لذا فالتحدي الأهم بالنسبة لماكرون، هو العمل على استقطاب الفئة التي امتنعت عن التصويت، والتي صوتت لميلونشون ( اليسار ) من خلال التخلي مثلا عن الإصلاحات التي يطالب بها في قانون التقاعد، وفي الوقت نفسه الحفاظ على الشريحة التي صوتت له منذ البداية من أجل البقاء في الإليزيه.
(*) المهاجرون والمسلمون: حيث توزعت أصوات هذه الفئة أيضا بين ميلونشون وماكرون، رغم الإساءات التي وجهت للدين الإسلامي خلال ولاية ماكرون الأولى، مثل واقعة الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وإغلاق بعض المساجد، لذا جاءت الأصوات الأكثر لصالح ميلونشون في الجولة الأولى، أما في الجولة الثانية، ستكون الخيارات محصورة لهذه الفئة بين ماكرون ولوبان، وكلاهما ليسا مثاليان في التعامل مع المسلمين وقضاياهم، وبالتالي قد يكون اختيارهم قائما على المرشح الأقل سوءا في التعامل معهم، وهو إيمانويل ماكرون، لأن فوز لوبان سيمثل تقييدا كبيرا للمسلمين والمهاجرين، بعدما أكدت مؤخرا عزمها حظر الحجاب في الأماكن العامة، وفرض قيود على الهجرة حال وصولها لقصر الإليزيه، وهي نقطة سيستغلها ماكرون بكل تأكيد في حملته الانتخابية، من أجل استقطاب هذه الأصوات لصالحه، ففرنسا مثلا يوجد بها حوالي ٦ مليون مسلم على الأقل.
(*) الحرب الأوكرانية: والتي أظهرت ماكرون كرجل دولة قادر على إضفاء مكانة مهمة لدولته على الساحة الدولية وفي القرارات الحاسمة _ بغض النظر عن نتائج الدور الفرنسي في الحرب _ ، فضلا عن رئاسته للاتحاد الأوروبي التي تزامنت مع الحرب الأوكرانية، وتوقيع الاتحاد لعقوبات اقتصادية على روسيا، إلا أنه في نفس الوقت، وفي ظل احتدام الأزمة لم يغفل ماكرون الأزمة الداخلية ( غلاء أسعار الوقود ) التي ستتولد بكل تأكيد حال اشترك في العقوبات الأمريكية على صادرات الطاقة الروسية.
(*) أيديولوجية لوبان: والتي لا تخرج عن كونها أيديولوجية الأحزاب اليمينية عامة، والمعادية للمسلمين والمهاجرين والأقليات بشكل عام، وعلاقتها بروسيا بعدما رفضت العقوبات على الطاقة الروسية، ومطالبتها لماكرون بالبقاء على الحياد، لدرجة أن البعض أشار في واشنطن إلى احتمالية وجود تدخل روسي في الانتخابات لصالح لوبان، وتعهداتها بالخروج من الناتو حال فوزها، كما أن هناك تحذيرات من نواياها بشأن إضعاف الاتحاد الأوروبي والدور الفرنسي فيه وإلغاء التبادل الحر، وهو ما لن يصب في مصلحتها، لأن قطاع كبير من الناخبين لا يؤيدون هذه المواقف، وإن حاولت أن تظهر الاعتدال نوعا ما مؤخرا في مواقفها، كما فعلت ونفت مؤخرا نواياها بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي، وانشقاقها عن أبيها جان ناري لوبان اليميني المتطرف، بالإضافة إلى التراجع عن تصريحاتها السابقة بضرورة ترك فرنسا لليورو، كما استغلت الحرب الأوكرانية لتعلن أن علاقتها بالرئيس بوتين قد تغيرت.
حقيقة، ماكرون كرئيس لفرنسا طوال السنوات الخمس الماضية واجه العديد من الأزمات التي لم يواجهها سابقيه، تمثلت في العديد من الاحتجاجات الداخلية العنيفة والمؤثرة، وأزمة فيروس كورونا العالمية وتداعياتها الاقتصادية، ناهيك عن الحرب الأوكرانية، إلا أنه استطاع الوفاء بجزء كبير من وعوده الانتخابية _ ليس كلها ولكن جزء كبير _، كما عملت حكومته على معالجة البداية الخاطئة في التعامل مع فيروس كورونا والتي أدت إلى تزايد أعداد الإصابات حتى تراجعت الأعداد بشكل كبير، فضلا عن ارتفاع معدل النمو الاقتصادي الفرنسي إلى مستويات قياسية لم يبلغها منذ نصف قرن وفقا لكثير من المختصين، وهذا كله سيصب في مصلحة ماكرون في الأخير.
وأخيرا يمكن القول، إن كل ما سبق ذكره من ترجيحات لماكرون، قائمة هذا مجرد اجتهادات على مؤشرات ودلالات أكدتها نتائج الجولة الأولى المتقاربة، لذا وإن كانت فرص ماكرون هي الأكبر، إلا أن ذلك لا ينفي حدوث مفاجأة بأن تقلب مارين لوبان الطاولة، بإعلان فوزها بانتخابات الرئاسة إذا نجحت في مهمتها الصعبة باستقطاب أصوات ليسار،بالتزامن مع شيطنة وتشويه برنامج ماكرون الانتخابي، أو زعزعة الثقة به في المناظرة التي ستعقد قريبا بينهما.