مساحة استخدام السوشيال ميديا في الحرب الأوكرانية

د. أماني محمود- خبير مشارك في شئون الرقمنة والإعلام الجديد.
لم تعد منصات التواصل الاجتماعي وسيلة للتواصل بين أفراد المجتمع، وعاكسة للرأي العام فقط، ولكنها أصبحت سلاحا تستخدمه مختلف الدول في الترويج لسياساتها ووجهة نظرها، ولعل الحرب الروسية الأوكرانية أظهرت ذلك بشكل جلي، فقد تحولت صفحات التواصل الاجتماعي لأداة مهمة في تلك الحرب، ربما لا تقل عن الأدوات العسكرية، إن لم تزيد.
وفي هذا الإطار يحاول التحليل التالي الإجابة على تساؤل مفاده: أي دور يمكن لشبكات التواصل الاجتماعي القيام به في الحروب الحديثة؟.
التقنية ودخول حلبة الصراع:
بعد أن أصبح الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي تسيطر على الحياة اليومية بكل تفاصيلها، اتجهت العديد من الدول إلى توظيف تلك الوسائل لتحقيق أهدافها، باعتبارها أدوات وأسلحة يمكن استخدامها في التأثير بالاتجاه الذي تريد، مع ما توفره من معلومات، وما تحظى به من متتابعات كثيفة من الملايين من المتابعين من كافة أنحاء العالم.
وفي الحرب الروسية الأوكرانية التي تدور رحاها الآن، ظهر بوضوح كيف استغلت أطراف الحرب، مواقع التواصل الاجتماعي كأداة مهمة ضمن أدوات الصراع، وبالطبع لم تكن الحرب في أوكرانيا؛ الأولى التي استخدمت فيها السوشيال ميديا، فقد سبق واستخدمتها روسيا؛ كاستراتيجية لإرباك الخصوم، عندما قامت بنشر معلومات وأخبار كاذبة عبر مواقع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي؛ عندما استولت على شبه جزيرة القرم عام 2014، وفي الوقت الحالي، والذي تواصل فيه الحرب شهرها الثاني، تدور حرب أخرى بين روسيا والغرب عبر الفضاء السيبراني والعالم الرقمي، في مسارين: حرب سيبرانية بهجمات الكترونية وعمليات قرصنة، وحرب خدماتية تقنية، تشارك فيها وتوقد لها شركات تقنية عملاقة باتت تحرك وتتحكم في الاقتصاد الرقمي اليوم، ولهذا توالت التحذيرات الدولية من نشوب حرب إلكترونية بين روسيا من جهة، والولايات المتحدة وأوروبا من جهة أخرى.
هجوم متوازي:
ظهرت فعالية استخدام شبكات التواصل الاجتماعي في التمهيد الروسي لغزو أوكرانيا، بعد أن رُصدت مجموعة كبيرة من التحركات الروسية على الحدود الأوكرانية، فقد شهد النشاط الرقمي عبر الانترنت “زيادة غير مسبوقة للمحتوى المناهض لأوكرانيا” من قبل المجموعات التابعة للحكومة الروسية، خصوصاً في الأيام التي سبقت الغزو مباشرة على منصات مثل تويتر وفيسبوك، وفي بداية الحرب؛ انهارت بعض المواقع الحكومية الرسمية الروسية بعد سلسلة من الهجمات الإلكترونية المزعومة، منها موقع الكرملين ووزارة الدفاع في البلاد؛ حيث قالت العديد من حسابات “تويتر” التي تدعي الانتماء إلى مجموعة “Anonymous” أن مجموعة القرصنة الدولية تقف وراء الهجمات، كما أكدت السلطات الأوكرانية تعرض المواقع الإلكترونية الخاصة بالحكومة والبرلمان والمصارف الكبيرة في البلاد لهجوم سيبراني واسع النطاق.
ومن ناحية أخرى صرح “نيد برايس” المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية لوكالة فرانس برس أن الولايات المتحدة لديها تقارير تشير إلى أن روسيا نشرت تقارير كاذبة حول استسلام القوات الأوكراني، كما أظهرت مقاطع أخرى انتشرت على نطاق واسع استسلام جنوداً أوكرانيين على الجبهات، إضافة لضربات روسية صاروخية ودبابات تسير عبر الجليد؛ كما استخدمت روسيا المعلومات المضللة لإضعاف معنويات الشعب في أوكرانيا، منها ما قالته موسكو”أنها استأنفت القتال يوم السبت بعد توقفه لإجراء محادثات محتملة مع أوكرانيا،لكن عدد من مراسلي وكالة أسوشيتدبرس الموجودين في مناطق مختلفة من أوكرانيا شهدوا أن الهجوم الروسي لم يتوقف أبدًا.
من جانب أخر ظهرت مجموعة من الصور يدعي ناشروها أنها تظهر الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي”، وقد ارتدى الزيّ العسكريّ ليواكب التطوّرات الميدانيّة بعد أن شنّت القوات الروسيّة هجومها على أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير2022، إلا أنّ الصورة المنشورة كانت في الحقيقة ملتقطة عام 2021، وتظهر الرئيس الأوكراني في زيارة ميدانيّة لإقليم دونباس، كما نشر فيديو قيل إنه يُظهر الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” يمضي وقتاً هادئاً في مقهى فيما قوّاته تشنّ حرباً واسعة النطاق وتُعلن تدمير عشرات المنشآت العسكريّة الأوكرانيّة، مع أن هذا الفيديو عمره أكثر من 15 عاماً.
كما وظفت روسيا الفكاهة في مقاطع مصورة تنشر بشكل دوري على منصة تيك توك، وأبرزها (الرئيس المضحك) “فاني برزيدنت”، وفيديو يحتوي على كلبين (الولايات المتحدة وأوكرانيا وقطة تمثل روسيا تهجم القطة بشراسة على أحد الكلاب)، وتمت مشاهدة الفيديو حوالي 776 ألف مرة، وتتميز مثل هذه المقاطع المتداولة بأنها ذات مؤيد لروسيا والرئيس الروسي “بوتين”.
التقنية ومحاولة تغيير مسارات الحرب:
لقد بدا من الواضح أن الهجوم العسكري يوازيه هجوم تقني، سواء سيبراني كما سبق الإشارة إليه، أو عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي لم تتأخر في الدخول كطرف في الصراع، فعلى سبيل المثال، ازداد عدد المنشورات المعادية لأوكرانيا التي نشرت في 14 فبراير، عبر منصة توتير بنسبة 100%، وقد صرح متحدث باسم تويتر بأن الموقع أوقف ما يزيد على عشرة حسابات وحظر مشاركة عدد من الروابط لانتهاكها قواعدها التي ترفض التلاعب بالمنصة والرسائل العشوائية، وقالت تويتر إن تحقيقاتها الجارية تشير إلى أنه جرى إنشاء هذه الحسابات في روسيا وأن الغرض منها تعطيل المحادثات العامة حول الصراع في أوكرانيا، كما أعلن تويتر أيضا أن “حساب أوكرانيا الرسمي بدأ قبول التبرعات بعملتي البتكوين والإيثيريوم، في إعلان رسمي عن دخول أوكرانيا لسوق العملات الرقمية”.
من جانبها صرحت شركة ميتا “فيسبوك” أنها منعت محاولات تسلل الإلكتروني من مجموعة تعرف باسم (جوسترايتر)؛ نجحت في الوصول إلى حسابات بعض الشخصيات الهامة في أوكرانيا، والتي استخدمت موقع فيسبوك لاستهداف هذه الشخصيات العامة، وقد ضمت المجموعة المستهدفة مسئولين عسكريين وساسة وصحفيين بارزين، وقال فريق ميتا الأمني إنه اتخذ خطوات لتأمين حسابات مستهدفة وحظر نطاقات التصيد الإلكتروني التي يستخدمها المتسللون، وقد أحجمت شركة ميتا عن الكشف عن أسماء أي من الشخصيات المستهدفة، لكنها قالت إنها نبهت المستخدمين، وأضافت أن المتسللين حاولوا أيضا نشر مقاطع فيديو على موقع يوتيوب من حسابات تصور القوات الأوكرانية على أنها ضعيفة، أحدها مقطع زعم أنه يظهر جنوداً أوكرانيين يخرجون من غابة ويرفعون علم الاستسلام الأبيض، في الوقت الذي يستمر فيه الغزو الروسي لأوكرانيا، كل ذلك يعكس مساعي أطراف الأزمة لاستخدام هذه التقنيات في سبيل تغيير مسارات الحرب.
ضغوط متزايدة:
واجهت شركات التقنية والتواصل الاجتماعي الكبرى ضغوطاً متزايدة مع استمرار العدوان الروسي على أوكرانيا،لاستخدام نفوذها في العالم الرقم، واتخاذ إجراءات ضد روسيا، مما يضع “حيادية” هذه الشركات على المحك، ويقحمها في دور سياسي له عواقب خطيرة على سمعتها، ومن تلك الضغوط التي تعرضت لها شركات التقنية الكبرى، ما بعث به وزير التحول الرقمي الأوكراني “ميخايل وفيدوروف”، من رسالة إلى “تيم كوك” الرئيس التنفيذي لشركة “آبل”، طالبه فيها بضرورة التوقف عن توفير المنتجات والخدمات -بما في ذلك متجر التطبيقات آب ستور- لروسيا، كما اتصل بشركات “ميتا” -“فيسبوك”- و”جوجل” و”نتفليكس”، مطالبا إياها بتعليق الخدمات في روسيا، إضافة إلى مطالبة موقع “يوتيوب” بحجب القنوات الروسية الدعائية، وناشد “إيلون ماسك” بتزويد أوكرانيا بالإنترنت عن طريق خدمة الأقمار الصناعية (ستارلينك) بعد قطع الإنترنت من قبل روسيا؛ حيث تجاوب “إيلون ماسك” مع الطلب خلال ساعات، وأعلن عن توفير الخدمة لأوكرانيا.
أيضاً قامت شركة “ميتا”، بمنع وسائل الإعلام الرسمية الروسية من نشر إعلانات أو ممارسة أنشطة تدرّ عائدات على منصتها في أي مكان في العالم،وأوقف موقع تويتر الإعلانات في روسيا وأوكرانيا في ظل الهجوم الروسي على الأراضي الأوكرانية، وهي خطوة اتخذها أيضا يوتيوب، كما قامت منصة تويتر بحذف العديد من الحسابات الخاصة لقيادات سياسية بأوكرانيا.
على الجانب الآخر اتّهمت روسيا إدارة ميتا“فيسبوك”، بتقييد الحسابات الرسمية لكل من قناة “زفيزدا” الروسية المرتبطة بوزارة الدفاع ووكالة الأنباء العامة “ريا نوفوستي”، وموقعي “لينتا وغازيتا” الروسيين الإخباريين، وقد طلبت من إدارة ميتا رفع القيود التي فرضها فيسبوك على وسائل الإعلام الروسية وشرح سبب فرضها، لكنّ مالكي الشبكة تجاهلوا هذه الطلبات”، مما دفع روسيا إلى حجب مواقع “فيسبوك” و”تويتر” و”يوتيوب”جزئيا، وفي تصعيد جديد قررت شركة ميتا السماح لمستخدمي فيسبوك وانستجرام، في بعض البلدان، بنشر منشورات تدعو إلى العنف ضد الجنود الروس، في سياق الغزو على أوكرانيا.
ومنذ أكتوبر 2020 فرض فيسبوك 23 “حالة رقابة” على وسائل إعلام ومحتويات روسية على الإنترنت، وأعلنت شركة “جوجل”، تعليق بعض أدوات خرائط جوجل التي توفر معلومات مباشرة حول ظروف حركة المرور ومدى ازدحام الأماكن المختلفة، “كما حجبت خدمة استخدام بطاقاتهم الإلكترونية عبر“Google Pay“أو Apple Pay”“ عن بعض العملاء في البنوك الروسية، كما أن يوتيوب منعت الصفحات الروسية من الإعلان، ومن كسب الأموال عبر منصتها، وانضم تطبيق “تيك توك” إلى الصراع الدائر، ومنع وصول عدد من وسائل الإعلام الحكومية الروسية إلى الاتحاد الأوروبي،ومنع منظمي مؤتمر “Mobile World Congress” في برشلونة بعض الشركات الروسية من المشاركة.
بالنهاية، نجد أن الدور السياسي لوسائل التواصل الاجتماعي يتعاظم يوماً بعد يوم، مما يجعلها عرضة للانتقاد، وربما لخسائر فادحة؛ إذا ما انحازت لأطراف ضد أخرى، الأمر الذي يفقدها المزيد من المتابعين لها؛ إضافة إلى فقدان الثقة والمصداقية، فضلاً عن محاولات اختراق حسابات المستخدمين، والتي تعرض خصوصياتهم للخطر، ومن ذلك ما عبر عنه “موكسي مارلونسبايك”، مؤسس خدمة “سيجنال” للتراسل المشفر، الذي طالب مستخدمي خدمة “تليجرام” في أوكرانيا، بعدم الثقة في الخدمة لأنها غير مشفرة طرفياً، كما تدعي الخدمة، ما قد يعرض خصوصيتهم للانتهاك، وحياتهم للخطر في ظل الغزو الروسي لبلادهم.