هل يتغير موقف إسرائيل من أطراف الأزمة الأوكرانية؟
اتخذت إسرائيل منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير2022، موقفاً حرصت على أن يبدو محايداً إلى حد ما تجاه طرفي الأزمة، رغبة في الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا، التي يجمعهما معاً علاقات وملفات بالغة الحساسية، وكذلك مع أوكرانيا التي تربطها بإسرائيل روابط ثقافية ومصالح أكثر مما يقال عنها ذات أهمية- وعلى ما سبق، يبقى السؤال، وهو: ما هي العوامل والأسباب التي دفعت إسرائيل إلى اتخاذ هكذا موقف على الرغم من الاستقطاب الحاد الذي تشهده الحرب الأوكرانية؟، وهل يمكن أن يتغير مع تطورات الحرب في أوكرانيا؟
محاولة للتوازن:
على الرغم من أن إسرائيل محسوبة على المعسكر الغربي منذ إنشائها عام 1948، إلا أن رؤيتها فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، بدتوكأنها مختلفة نوعاً ما عن الغربـــ الداعم لأوكرانيا والمعارض لموسكوـــ حيث حاولت تل أبيب تجنب الانحياز لأي من أطراف الأزمة؛ تلافياً لأية ارتدادات عكسية يمكنها التأثير سلبياً على مصالحها الاستراتيجية، سواء مع روسيا التي تعتبرها تل أبيب جارة شمالية، أو مع أوكرانيا التي بينهما علاقات وطيدة، فضلاً عن أنها تحظى بالدعم الغربي؛ خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية.
ويمكن الاستدلال على موقف إسرائيل المتوازن، والذي يدفعها إلى عدم الانحياز العلني إلى أي منطرفي الأزمة الأوكرانية، من خلال عدد من المؤشرات، أهمها:
(*) جاءت ردود الفعل الإسرائيلية الرسمية منذ بداية الأزمة، خالية من التصريحات المنحازة، متجنبة التماهي المبالغ مع الغرب وحريصة على عدم استفزاز موسكو، فقد استخدم رئيس الوزراء الإسرائيلي “نفتالي بينيت”، لغة أكثر توازناً، وتجنب إدانة موسكو بشكل مباشر، ودعا إلى الوصول لحل سلمي للأزمة، وخاطب الإسرائيليين واليهود في أوكرانيا بقوله: “كل يهودي يعرف أننا ننتظره هنا”، وأن “باب دولة إسرائيل مفتوح دائما”.
كما وصف كلاً من وزير الخارجية الإسرائيلي “يائير لابيد”، ورئيس الكنيست “ميكي ليفي” الهجوم الروسي بأنه “انتهاك خطير للنظام الدولي، ويجب بذل كل شيء لتحقيق وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن”، غير أن “لابيد” برر موقف إسرائيل الحيادي بأن “إسرائيل لديها حدود أمنية مع روسيا، أهم قوة عسكرية في سوريا، وآلية تعاوننا تساعد في معركتنا الحازمة ضد الترسيخ الإيراني على حدودنا الشمالية”، واتخذ كلاً من وزير المالية “أفيجدور ليبرمان”، والرئيس الإسرائيلي “يتسحاق هرتسوج”، نفس الخط، ولم يدين الهجوم الروسي مباشرة، وقال: “مثل الكثيرين في جميع أنحاء العالم، أصلي من أجل عودة السلام بين روسيا وأوكرانيا”.
(*) رفض إسرائيل تزويد أوكرانيا بأنظمة دفاعية وصواريخ مضادة للدبابات والطائرات، برغم مساعي كييف بعد حرب غزة 2021، إقناع واشنطن بتسهيل الحصول على نظام “القبة الحديدية”، باعتباره مشروع مشترك بين إسرائيل والولايات المتحدة، لذلك لا يمكن بيعها إلى دولة واحدة دون موافقة كليهما؛ إلا أن إسرائيل رفضت نقل بطاريات القبة الحديدية إلى أوكرانيا، كما سبق ورفضت إسرائيل طلب أوكرانيا شراء برنامج التجسس الإسرائيلي “بيجاسوس”، والذي حاولت كييف الحصول عليه منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، وذلك وفقا لصحيفة نيويورك تايمز.
بالمقابل كثفت إسرائيل من تقديم المساعدات الإنسانية والطبية إلى أوكرانيا، وأعلنت أنها استقبلت نحو 2000 يهودي أوكراني، وقالت وزيرة الداخلية الإسرائيلية “أييليت شاكيد” إن هناك 200 ألف أوكراني مؤهلين للهجرة إلى إسرائيل بموجب “قانون العودة” الإسرائيلي لليهود في جميع أنحاء العالم، لكنها قالت في الوقت نفسه،”إسرائيل لا تريد استقبال المواطنين الأوكرانيين لأن أوروبا مفتوحة أمامهم وأن إسرائيل ستواجه صعوبة في استقبال ملايين الأوكرانيين الفارين من الحرب.
(*) الامتناع عن التصويت على قرار ينتقد الغزو الروسي لأوكرانيا، خلال الاجتماع الطارئ لمجلس الأمن الدولي الجمعة 25 فبراير2022، وفي محاولة للحفاظ على توازن موقفها تجاه أطراف الأزمة، وعدم إثارة غضب الولايات المتحدة صوتت لصالح قرار غير ملزم يدين روسيا على الغزو في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة التي انعقدت في الثاني من مارس 2022.
(*) أطلقت إسرائيل جهود وساطة بين روسيا وأوكرانيا، ولم تكتفي إسرائيل بتقديم نفسها كطرف محايد تجاه أطراف الأزمة؛ بل حاولت التوسط بين موسكو وكييف لإيجاد حل لوقف الحرب، حيث أجرى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بينيت” مكالمات هاتفية مع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي”، بل وسافر إلى موسكو، في 5 مارس 2022، للقاء الرئيس “بوتين”، في زيارة وصفت بالسرية، وكان أول رئيس أجنبي يتحدث إلى الرئيس”بوتين” شخصيًا، فيما يتعلق بالغزو الروسي لأوكرانيا، ثم زيارته إلى برلين، في محاولة “المساعدة في الحوار القائم بين كافة الأطراف”، وذلك بحسب تصريحات “بينيت”، عقب عودته من تلك الرحلة.
وطرح رئيس الوزراء الإسرائيلي”بينيت” في 16 مارس2022، “خطة للسلام”، اقترح تخلي أوكرانيا عن الانضمام إلى حلف الناتو، مع عدم وجود قواعد للحلف على أراضيها، مقابل ضمان حمايتها من قبل حلفاء مثل الولايات المتحدة أو بريطانيا أو تركيا، لكن من الواضح أن الخطة لم تعالج العديد من المسائل ذات الأهمية، مثل وضعية الأراضي الأوكرانية التي ضمتها موسكو.
(*) عدم امتثال إسرائيل لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة والقرارات الغربية فيما يتعلق بالعقوبات التي تم فرضها ضد روسيا، الأمر الذي رأته واشنطن لا يتسق مع التوجهات الغربية، وإن تفهمت تردد “إسرائيل في الانحياز إلى أحد الجانبين في الأزمة الأوكرانية”، إلا أن واشنطن بدت غير راضية عن غموض موقف إسرائيل من الأزمة، ورأت أن “امتثال إسرائيل للعقوبات الدولية هو أكثر أهمية من محاولات رئيس وزرائها للوساطة”، في حين عبر “بينيت” عن قلقه من إقحام إسرائيل في صراع لا فوز فيه، وقال “إن الحرب ليست من شأن البلاد”.
دوافع الحياد الإسرائيلي:
لعل هناك العديد من الأسباب المتداخلة التي دفعت إسرائيل إلى اتخاذ هكذا موقف تجاه الأزمة الأوكرانية، والذي يستند إلى عدد من الاعتبارات والدوافع الجيوسياسية، وتأتي على النحو التالي:
(&) الرغبة في مقايضة روسيا، خاصة في الملف السوري، حيث تقوم إسرائيل بشن هجمات وضربات صاروخية على مواقع داخل الأراضي السورية، ضد أهداف إيرانية والميليشيات المدعومة منها، بما في ذلك حزب الله اللبناني، وبدون التنسيق الذي يتم وفق “آلية تعاون”، خاصة وأن روسيا تسيطر على المجال الجوي السوري، كما رفضت السماح للجيش السوري باستخدام صواريخ S-300 ضد إسرائيل، وبدون ذلك، لم تكن إسرائيل قادرة على القيام بذلك، وترى تل أبيب أنه من المهم أن تغض روسيا الطرف عما تقوم به في سوريا، “وإن أولوية إسرائيل هي عدم القيام بأي شيء لجعل روسيا تغير موقفها تجاه ما تقوم به هناك، فضلاً عن أن روسيا طرف في مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني التي تجري في فيينا، وهو الاتفاق الذي تعارضه تل أبيب، وتخشى أن تدفع الأزمة الأوكرانية إلى العودة لذلك الاتفاق، بصيغة تعزز نفوذ إيران في المنطقة وتعرض أمن إسرائيل للخطر.
(&) محاولة إسرائيل لعب دور الوسيط غير المنحاز في الأزمات الدولية؛ حيث تريد تل أبيب أن تترك لنفسها مجالا كافيا للعمل كوسيط في ذلك الصراع، من خلال ترك الخطوط المؤدية إلى موسكو وكييف مفتوحة، في الوقت ذاته لدىرئيس الوزراء الإسرائيلي “بينيت” دوافع شخصية لتعزيز شعبيته في الداخل، من خلال الوساطة في مثل الأزمة الأوكرانية، باعتبارها أزمة دولية كبرى، برغم حالة عدم اليقين التي تسود تجاه الوساطة الإسرائيلية.
(&) محاولة الحفاظ على سلامة الجاليات اليهودية، سواء في روسيا أو أوكرانيا، حيث تشعر إسرائيل بالقلق تجاه ما يمكن أن يعرض اليهود هناك للخطر، خاصة وهناك ما لا يقل عن ربع مليون يهودي في أوكرانيا، إضافة إلى حوالي مائة وخمسة وسبعين ألف يهودي متبقين في روسيا أيضا، وقد صرح وزير شؤون الشتات “نحمان شاي” لراديو 103FM؛ بأن “المواطنين الإسرائيليين الذين ما زالوا على الأراضي الأوكرانية، وكذلك على المجتمعات اليهودية في روسيا، إذا اتخذت إسرائيل موقفا من هذا الجانب أو ذاك، فسيكون لذلك تأثير فوري على حياة اليهود هناك، أي قرار نتخذه كدولة له تأثير مضاعف على حياة اليهود في جميع أنحاء العالم”.
(&) محاولة جذب المزيد من اليهود، في إطار مساعي تعزيز فكرة “الوطن القومي”، حيث قال متحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية لمجلة نيوزويك، “سنكون سعداء باستقبال أي يهودي يريد الهجرة من أوكرانيا”، ويمكن أن يحقق استقبال مئات الآلاف من اليهود من أوكرانيا، ميزة ديموغرافية لليهود على حساب الفلسطينيين، فضلا عن مساعي اجتذاب المزيد من رجال الأعمال وأصحاب الثروات اليهود، والذي من بينهم مليارديرات “الأوليجارشيين”، المقربين من الرئيس “بوتين”، والذين يحتفظون باستثمارات كبيرة في إسرائيل.
(&) محاولة الحفاظ على استقرار الوضع الداخلي، خاصة وأن هناك إسرائيليين من أصول روسية وآخرين من أصول أوكرانية، فهناك ما يقرب من 2.1 مليون متحدث باللغة الروسية يمثلون 12% من الإسرائيليين، والذين جاءوا من الاتحاد السوفيتي السابق، ونفس العدد تقريبا جاءوا من أوكرانيا، الأمر الذي يجعل أي انحياز لطرف دون آخر،من شأنه تهديد الأمن الداخلي، مع احتمالية لجوء هؤلاء الحشد والحشد المضاد.
استنادا إلى ما سبق، يتبين أن إسرائيل تشعر بمحدودية مساحة المناورة في هذه الأزمة، الأمر الذي يدفعها إلى عدم المخاطرة بالانحياز لأي من أطرافها، والذي يهدد مصالحها الأمنية والاستراتيجية إلى حد كبير، على الرغم من مطالبة الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” (اليهودي بالأساس)، خلال خطابه أمام الكنيست عبر تقنية الفيدو كونفرانس، الأحد 20 مارس 2022، بأن تتخذ إسرائيل خيارها وتدعم أوكرانيا في مواجهة روسيا؛ إلا أن قادة إسرائيل تمسكوا بموقفهم غير المنحاز إلى أي من الجانبين، بل هناك مسؤولين إسرائيليين وجهوا انتقادات للرئيس “زيلينسكي”، بعدما شبه الحرب في أوكرانيا، بالمحرقة اليهودية.
كما أن رفض إسرائيل نقل نظام “القبة الحديدية” إلى أوكرانيا، على الرغم من أنه يأتي في إطار عدم الإضرار بالعلاقات مع روسيا، إلا أنه من المحتمل عدم فعالية هذا النظام للعمل في أوكرانيا، في ضوء مساحتها الجغرافية الكبيرة، والتي تتطلب أعداد أكبر من الرادارات والصواريخ الاعتراضية، كما أن روسيا تستخدم صواريخ باليستية أسرع من الصوت، قد لا تتمكن “القبة الحديدية” من اعتراضها، مما يعرض سمعة هذا النظام للخطر، وهو ما لا تريده إسرائيل بطبيعة الحال.
بالنهاية، يبدو من الواضح أن الحرب في أوكرانيا دفعت إسرائيل إلى تأكيد الحياد، ومحاولة إحداث توازن دقيق بين أطراف الأزمة، حفاظاً على مصالحها الاستراتيجية، خاصة وأن تلك الحرب لا تسمح لها برهانات خاسرة، ومن المرجح أن يكون لها تداعيات واسعة النطاق على المستوى الدولي،ولهذا تتحسب إسرائيل لمواقفها تجاه أطراف الأزمة.
ولا شك أن الحرب الأوكرانية لن تجبر إسرائيل على إعادة رسم خريطة تحالفاتها، فليس بمقدور تل أبيب محاولة التفكير في التضحية بالعلاقات الوثيقة مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة، الداعم الأكبر والأهم لها، وكذلك من الصعب اتخاذ موقف يضعها في الجهة المقابلة لموسكو، وأيا كانت التطورات التي يمكن أن تشهدها الأزمة الأوكرانية، والتي قد تدفع دول أخرى إلى تغيير مواقفها، إلا أنه من الصعب أن تكون إسرائيل من بينهم، فليس بمقدورها إحداث تحولات استراتيجية في علاقاتها، سواء بموسكو أو واشنطن!.