غموض وتوازن: الموقف الهندي تجاه الحرب الأوكرانية

تبنت الهند في الصراع بين روسيا وأوكرانيا استراتيجية الغموض بدلاً من مبدأ الحياد بالمعنى العام، فبعد بدء الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا، كان رد الهند الأولي مقيدًا وغامضًا، وركز بشكل أساسي على سلامة الشعب الهندي في أوكرانيا، ففي اتصال هاتفي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، دعا رئيس الوزراء الهندي مودي من جهة إلى “وقف العنف فورًا”، كما دعا من جهة أخرى إلى “حوار صادق بين روسيا والناتو”.

ترتيبات الموقف الهندي تشير إلى أن “نيودلهي” تتخذ في موقفها اتجاهين مختلفين، هما: أن الهند  تحرص على السيادة الأوكرانية؛ وفي الوقت نفسه تحابي روسيا في القضايا الجيوستراتيجية، ومن خلال هذين المستويين، يمكن التأكيد على أن الهند تبنت استراتيجية الغموض في سياستها الخارجية من خلال التوازن والغموض الذي بدت عليه منذ بداية الأزمة حتى تاريخه.

 موقف متباعد:

قراءة وتحليل الصحف الهندية والتصريحات الرسمية، يشير إلى أن الهند لا توضح موقفها بسهولة تجاه الأزمة، ويرجع ذلك أساسًا إلى عدة أسباب، هم كالتالي:

(*) عمق الشراكة الاستراتيجية مع واشنطن وموسكو: حيث أقامت الهند شراكة استراتيجية مع كل من الولايات المتحدة وروسيا، ولا تريد اختيار جانب بين الغرب وروسيا، فهي لديها “شراكة استراتيجية عالمية شاملة” مع الولايات المتحدة و”شراكة استراتيجية” مع روسيا، وكلاهما مهم لها. فتاريخيًا، كان عدم الانحياز في الصراع بين روسيا والغرب، هو الاستراتيجية التقليدية للهند، بينما استخدمت الاتحاد السوفيتي السابق كمثال للاشتراكية وكتحويط قوي ضد النفوذ الأمريكي العدائي في جنوب آسيا.

(*) اتباع سياسة تعزيز المصادر: حيث تحرص الهند على تعزيز مصادرها التقليدية للأسلحة والحفاظ على قوتها العسكرية تحت سيطرة أنظمة الأسلحة الروسية، فعلى الرغم من تنوع مصادر الأسلحة الهندية، فإن روسيا هي أكبر مورد لها، حيث يأتي أكثر من ٨٠٪ من أسلحة الهند من روسيا، ومعدات الجيش هي في الأساس معدات من الطراز السوفياتي الروسي.

وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، شكلت منتجات الأسلحة من روسيا ما يقرب من نصف إجمالي واردات الهند من الأسلحة بين عامي ٢٠١٦ و ٢٠٢٠، ففي ديسمبر ٢٠٢١، وقع مودي وبوتين سلسلة من صفقات التجارة والأسلحة، هذا إلى جانب دخول الهند في شراكة مع روسيا لتصنيع صاروخ كروز الأسرع من الصوت BrahMos واشترت نظام صواريخ الدفاع الجوي S-400 الرئيسي من موسكو كرادع استراتيجي لباكستان والصين. بالإضافة إلى التعاون الدفاعي، تقوم الشركات الروسية المملوكة للدولة ببناء أكبر محطة للطاقة النووية في الهند.

(*) عقلية ركوب الجدار لحماية النفس: حيث تعتبر الهند دولة غير راغبة في فقدان حريتها الاستراتيجية بسبب التصريحات المتسارعة عندما يكون الوضع غير واضح، وهو ما يعد نوعاً من عقلية ركوب الجدار لحماية النفس. فبعد أن أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا يدين روسيا، لم يعد الحياد ممكنًا في القانون الدولي. وقد أثارت سياسات الهند الغامضة والتي تنبنى نهج “المستقل والمتوازن” انتقادات من الغرب، ولاسيما بعد أن امتنعت الهند عن التصويت في جميع الأصوات الثلاثة في مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة الخاصة، فعلى سبيل المثال، انتقدها نائب وزير الخارجية الأمريكي السابق ستيفن بيجون، قائلاً  “أولئك الذين يديرون السياسة الخارجية للهند يجب أن يفهموا أن هذا كفاح للدفاع عن الديمقراطية من الاستبداد”، كما أكد، أنه “لا يزال هناك وقت للعالم ليسمع الصوت الحقيقي لهند ديمقراطية”.

(*) التحفظ تجاه الغرب: الواضح أن الهند لديها تحفظات على الخطاب الروسي في الغرب. فكما ذكرت، واجهت الهند وضعا مماثلا لروسيا عندما غادرت الإمبراطورية البريطانية شبه القارة الهندية، كان هناك أيضًا صراع عنيف بين الهند وباكستان حول القضايا الإقليمية. وتعتقد الهند أن هذا مشابه للوضع الحالي في روسيا. بالإضافة إلى ذلك، يرى الغرب أن الصراع الروسي الأوكراني، هو حرب “طغيان وحرية”، لكن الهند لا تعترف بذلك، ففي نظر الغرب، النظام السياسي الحالي في الهند، هو “ديمقراطية أقل ليبرالية” ذات عناصر دينية وقومية قوية، وغالباً ما تتعرض الهند لانتقادات بسبب ذلك. الهند غير راضية عن الغرب بشأن هذه القضية، وتنظر إلى الصراع الروسي الأوكراني بشكل أساسي من منظور استراتيجي وليس على النمط الغربي ، ولا تتعامل معه بجدية مثل الغرب.

(*) الحرص على دور الوسيط: تحاول الهند أن تلعب دورًا معينًا كوسيط وجسر، فمخاوف الهند الأمنية في أوروبا محدودة، وأهميتها في الصراع الروسي الأوكراني منخفضة نسبيًا، لكنها في الوقت نفسه تحافظ على علاقات جيدة مع جميع الأطراف ويمكنها التواصل بشكل فعال بين الغرب وروسيا في نفس الوقت. فبعد اندلاع الصراع الروسي الأوكراني، تحدث مودي مع بوتين والرئيس الأوكراني زيلينسكي على التوالي، وعقد قمم فيديو مع الولايات المتحدة واليابان وأستراليا ودول أخرى، وهذا يفتح المجال أمام الهند للعب دور الجسر والوسيط. في ظل هذه الظروف، من المهم جدًا أن تلعب الهند دورًا فريدًا من خلال عدم التعبير عن موقفها بوضوح والحفاظ على قنوات الاتصال مع جميع الأطراف لنفسها.

انعكاسات التاريخ على الموقف:

كانت روسيا من أشد المؤيدين للهند على الساحة الدولية، خاصة فيما يتعلق بالنزاع الإقليمي لكشمير بين الهند وباكستان، على سبيل المثال، في عام ١٩٧١ خلال الحرب الهندية الباكستانية، أرسل الاتحاد السوفيتي أسطوله البحري إلى المحيط الهندي لطرد السفن الحربية التي أرسلها نيكسون لإرهاب الهند. لقد جعل هذا التاريخ روسيا ليس فقط حليفًا مثبتًا للحكومة الهندية، ولكن أيضًا دولة شريكة يمكن الاعتماد عليها في نظر الجمهور الهندي.

ما سبق ذكره، يظهر حاليا في الموقف الهندي تجاه الحرب الأوكرانية، حيث نرى داخليا صعوبة عملية القرار على اليمين الهندوسي المتطرف (الداعم الأساسي للحكومة الحالية). وعلى الرغم من محنة الطلاب الهنود الذين تقطعت بهم السبل في أوكرانيا، فلم يطلب أي حزب معارض من “مودي” الانضمام إلى الغرب في هذه الحرب.

وليست هذه هي المرة الأولى التي ترفض فيها الهند الانضمام إلى الإدانة العالمية لموسكو، ففي ظل الحكومات السابقة، عارضت الهند أيضًا قرار الأمم المتحدة الذي يدين الغزو السوفيتي لأفغانستان عام ١٩٨٠، كما اختارت أيضًا التغيب عن موجة الإدانة الغربية لضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام ٢٠١٤، مستشهدة بمصالح روسيا المشروعة في أوكرانيا.

فبعد نهاية الحرب الباردة ، على الرغم من أن الهند زادت وارداتها من الأسلحة من دول أخرى، إلا أن التكلفة العالية للأداء من الأسلحة الروسية والتوافق العالي مع أنظمة الأسلحة الحالية لا يزالان يجتذبان الهند، على سبيل المثال، شروط روسيا لنقل تكنولوجيا الغواصات النووية وتكنولوجيا الفضاء إلى الهند هي أيضًا أكثر تكلفة بكثير من تلك الخاصة بالولايات المتحدة. ومن الناحية الاقتصادية، تعتمد الهند المتعطشة للطاقة، وثالث أكبر مستورد للنفط بعد الصين والولايات المتحدة، على واردات النفط والغاز الروسيين لتعزيز اقتصادها. ففي صفقات الطاقة التي تم إطلاقها هذا العام، وقعت الهند عقود نفط تصل إلى مليوني طن مع شركات النفط الروسية وستستثمر في حقول النفط الروسية ومشاريع الغاز الطبيعي المسال. بالإضافة إلى ذلك ، تقوم الشركات الهندية بتعدين فحم الكوك في الشرق الأقصى الروسي، ومن المتوقع أن تتضاعف التجارة السنوية بين البلدين ثلاث مرات بحلول عام ٢٠٢٥.

لكن ما سبق، لا ينفي أو يقلل من التعاون الأمريكي- الهندي، فكلاهما بحاجة إلى بعضهم البعض لمواجهة الصين الصاعدة، فروسيا ليس لديها الطموح ولا القدرة على خوض مثل هذا التحدي، كما أن إدانة الهند لروسيا ليس له التأثير الكبير على عزل روسيا دوليا، ولكن قيمة الهند في احتواء الصين، هي مسألة أخرى، ولهذا السبب أصبحت الهند ، إلى جانب أستراليا واليابان، ركيزة مهمة للحوار الأمني ​​الرباعي الذي تقوده الولايات المتحدة بهدف تحقيق التوازن مع الصين. فالحرب الأوكرانية جزء من “لعبة كبيرة” مع الصين في جوهرها،وعندما يعود التركيز إلى بكين، تصبح الهند جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية الولايات المتحدة.

توازن مدروس:

مما يبق يمكن التأكيد على أن الهند ستستمر في سياستها الخارجية على التوازن بين جميع الأطراف في الأزمة الأوكرانية، ويُعد أسهل طريقة للسيطرة على العواقب. فمن خلال التوازن بين روسيا والغرب، تسمح لنفسها باكتساب المزيد من النفوذ وتحقيق هدف تعظيم المصالح الوطنية. بينما الهند تسعى دائما لتوازن مع روسيا بجانب الولايات المتحدة، حيث تعتبر الأخيرة الهند حليف مهمة إلا أن صداقتها والتزاماتها ليست مجانية، لذا من خلال الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا، يمكن للهند تحسين وضع لعبتها مع الولايات المتحدة.

ومن زاوية الصين، تعتبر الهند روسيا ورقة استراتيجية كبيرة ومهمة أكثر من الولايات المتحدة في مواجهة الصين، لأن روسيا قد توفر جسور دبلوماسية تساعد الهند على تحسين مرونة سياستها تجاه الصين لتهدئة العلاقات الصينية الهندية، وتوفير معدات عسكرية فعالة من حيث التكلفة لتلبية احتياجات الهند الأمنية ضد الصين. فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تعتبر الهند ركيزة “منطقة المحيطين الهندي والهادئ”، إلا أنها بحاجة إلى أن تتحمل الهند تكلفة مواجهة الصين وحدها. من هذا المنطق، من الصعب أن تحل الولايات المتحدة محل نفوذ روسيا في الهند. وبالإضافة إلى ذلك، يجب على الهند منع روسيا من تفضيل الصين عن الهند، فإذا لم تطور علاقاتها مع روسيا ، فإن موسكو ستزيد من صداقتها مع الصين.

وفي قمة “الآلية الرباعية”، مارست الولايات المتحدة واليابان وأستراليا درجة معينة من الضغط على الهند لانتقاد روسيا علانية. في ظل هذه الظروف، لا يزال الموقف الهندي ثابت، والسبب الأساسي ليس الحياد أو التوازن، بقدر ما هو عدم وجود تأكيدات من جانبها تجاه درجة وتطور الصراع بين روسيا وأوكرانيا، فهي قلقة من أن تكون في الجانب الخطأ. تخشى الهند أيضا من أن تقريع روسيا سيجعل موقف الهند سلبي للغاية إذا هيمنت روسيا، وفي نهاية المطاف يتنازل الغرب مع روسيا. إذا تطور الصراع بين روسيا وأوكرانيا في اتجاه غير موات للغاية لروسيا ، فلن يكون الوقت قد فات على الهند للتكيف. فالهند ليست الطرف الرئيسي المتورط في المشكلة ، وضغط الغرب على الهند ليس بهذه الضخامة في الواقع. لذلك ، طالما أن نتيجة الصراع بين روسيا وأوكرانيا غير واضحة ، فإن موقف الهند لن يكون واضحًا.

باختصار، يختبر الصراع الروسي الأوكراني السياسة الخارجية للهند، لا سيما استراتيجيتها الحالية للتحالف متعدد الاتجاهات، حيث كانت تعتقد الهند، أنه يمكنها الحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا، في نفس الوقت وتعظيم فوائدها من هذا الترتيب المعين، فهذا كان ممكنًا عندما لم يكن الصراع بين روسيا والغرب شديدًا، أما الآن بعد أن فتحت روسيا والغرب المواجهة، تتزايد سريعا صعوبة أن تكون الهند صديقة لكلا الجانبين في نفس الوقت، واستراتيجيتها الغامضة تتعرض لضغوط متزايدة. ومع التغيرات في وضع الصراع بين روسيا وأوكرانيا، قد تحدث أيضًا تعديلات في السياسة الخارجية للهند، ويمكن القول، إن الهند ليس لديها اتجاه وهدف محدد، فكل شيء يعتمد على تطور الصراع بين روسيا وأوكرانيا.

د. هند المحلى سلطان

كبير باحثي المركز، رئيس برنامج الدراسات الآسيوية، باحثة زائرة بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة فودان وجامعة شنغهاي للدراسات الدولية. حاصلة على درجتي الماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية تخصص شؤون صينية من جامعة شنغهاي للدراسات الدولية وجامعة شاندونغ. ترجمت العديد من الكتب والتقارير الرسمية للحكومة الصينية من اللغة الصينية إلى اللغة العربية في مجال السياسة والاقتصاد، ونشرت بعض الأبحاث الأكاديمية المتعلقة بالسياسة الخارجية للصين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى