لماذا تحجم الصين عن الانخراط في وساطة فعالة لوقف الحرب؟
على الرغم من وجود الكثير من المحفزات التي تدفع بكين نحو قيادة مساع دبلوماسية فاعلة والتوسط لوقف الحرب الدائرة في أوكرانيا؛ إلا أنها لم تقدم على هذه الخطوة، مفضلة العمل مع دول أخرى لمعالجة هذه الأزمة، حيث دعا الرئيس الصيني “شي جين بينغ” إلى دعم مشترك من باريس وبرلين لمحادثات سلام بشأن أوكرانيا، فما هي الأسباب التي تدفع بكين إلى اتخاذ هذا الموقف؟، وكيف يمكن للصين مجانبة الانحياز في تلك الأزمة؟، هذا ما يحاول هذا التحليل الإجابة عنه.
قراءة أولية:
منذ بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير2022، سعت الصين إلى اتباع نهجاً حيادياً في التعامل مع تلك الأزمة، حيث أكدت وزارة الخارجية الصينية أن “بكين تعتقد أنه يجب احترام سيادة ووحدة أراضي جميع الدول” وهو مبدأ “ينطبق بالتساوي على أوكرانيا”، في الوقت ذاته أكدت على أن المطالب الأمنية المشروعة لروسيا بشأن توسع الناتو “يجب أن تؤخذ على محمل الجد ومعالجة مناسبة”.
وتعكس تصريحات بكين وسلوكها التصويتي في مجلس الأمن؛ حين امتنعت عن التصويت على قرار ينتقد الغزو الروسي لأوكرانيا، خلال الاجتماع الطارئ لمجلس الأمن الدولي الجمعة 25 فبراير، وقول المندوب الصيني: “لقد وصل “الصراع” الآن إلى مرحلة لا نرغب في رؤيتها”، وأن بلاده “نؤمن أنه يجب احترام سيادة ووحدة أراضي جميع الدول”، يعكس مدى الحرص الصيني على أن تبدو متوازنة تجاه أطراف الأزمة.
وفي الوقت الذي أظهرت فيه الصين تفهمًا واضحًا للمخاوف الروسية الأمنية، ودعمت الموقف المعارض لتوسع حلف الناتو شرقًا، أبدت دعمها وتشجيعها لجميع الجهود الدبلوماسية للتوصل إلى حل سلمي للأزمة الأوكرانية، ورحبت بالحوار والمفاوضات المباشرة بين روسيا وأوكرانيا. ويتوفر للوساطة الصينية في الأزمة الأوكرانية، العديد من المحفزات للقيام بها، أهمها:
(&) أن الحرب الروسية الأوكرانية تمثل فرصة حقيقية للصين لتعزيز مكانتها على الساحة الدولية، وإظهار نفسها كقوة عالمية قادرة على القيادة بمسؤولية، خاصة إذا أمكنها النجاح في معالجة الأزمة الأوكرانية باعتبارها أزمة دولية كبرى.
(&) يعد نجاح بكين وإخفاق واشنطن في التعامل مع الحرب الأوكرانية، بمثابة تأكيد لصعود الدور الصيني عالمياً، مقابل انحدار الدور الأمريكي، الذي أظهرت الأزمة الروسية الأوكرانية تراجعه بشكل ملموس؛ إضافة إلى ما مني به من انتكاسات في الفترة الأخيرة، خاصة بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان الصيف الماضي، والذي وصف “بالمهين”.
(&) أن وقف الحرب في أوكرانيا وعودة الاستقرارإلى أوروبا، يساعد في تعزبز المصالح الصينية، سواء في أوربا أو في العالم ككل، لاسيما وأن النمو الاقتصادي الصيني يعتمد على الاستقرار العالمي.
(&) أيضًا قد يكون من غير المستبعد اتخاذ الصين تدابير غير مباشرة لدعم روسيا، على غرار ما جرى بعد العقوبات الغربية ضد موسكو عقب ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، فمع زيادة حدة تأثيرات العقوبات الغربية بعد غزو أوكرانيا، والتي يمكن أن تؤدي إلى عزل روسيا عن جزء كبير من الاقتصاد العالمي، مما سيعزز اعتماد موسكو على الصين بشكل أكبر، يدفع الأخيرة لاتباع إجراءات مفيدة لمصالحها، تدعم روسيا ولا تستفز الغرب.
وبالرغم من تلك المخفزات، لا ترغب الصين ردود أفعالها متأنية، وغير متعجلة، وليس لديها رغبة في تدمير أي من علاقاتها الدولية، أو تهديد مصالحها الحيوية، وتركز أولوياتها الحالية على منع خروج الوضع المتوتر في أوكرانيا عن السيطرة، وترفض أن تتأثر بالعقوبات على روسيا، فقد أكد وزير الخارجية الصيني، “وانغ يي”، على أن “الصين ليست طرفا في الأزمة، ولا تزال ترغب بألا تتأثر بالعقوبات”، وأن بلاده تواصل لعب دور بناء في دفع محادثات السلام قدما بهدف خفض التوتر ومنع حدوث أزمة إنسانية في أوكرانيا، مشددا على أن العقوبات الأحادية تؤدي فقط إلى تفاقم التناقض وزيادة التوتر، ولها تأثير سلبي على الاقتصاد العالمي.
مطالبات أوربية وتحذيرات أمريكية:
بالنظر إلى العلاقات المتشابكة بين الصين وكل من روسيا وأكرانيا، استناداً إلى الشراكة الاستراتيجية مع موسكو، والشراكة الحيوية مع كييف، وباعتبارها الشريك التجاري الأكبر لروسيا وأوكرانيا، يرى الغرب إمكانية ممارسة الصين لدور فاعل مع كلا البلدين لإيجاد حلول للأزمة الراهنة.
فقد طلب وزير الخارجية الأوكراني “دميتروكوليبا” من الصين استخدام نفوذها لوقف الغزو الروسي لبلاده، كما أشار “جوزيب بوريل”، منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، إلى أن الصين أكثر ملائمة من القوى الأخرى للعب مثل هذا الدور.
وفي محاولة أمريكية للضغط على روسيا بتهديد حلفائها، أكد وزير المالية الروسي “أنطون سيلوانوف” وجود ضغوط غربية تمارس على الصين لإجبارها على وقف المبادلات التجارية مع روسيا؛ إذ حذّر مستشار الأمن القومي الأميركي “جيك سوليفان” الأحد 13 مارس، الصين من مساندة روسيا، قائلا: “أبلغنا بكين بأننا لن نقف متفرّجين أو نسمح لأي دولة بتعويض روسيا الخسائر التي تكبدتها جرّاء العقوبات الاقتصادية”، وأكد على أن واشنطن لن تسمح بالتحايل على تلك العقوبات”، كما حذرت المتحدثة باسم البيت الأبيض، “جين ساكي” من عواقب تقديم الصين الدعم لروسيا، وحذرت الشركات الصينية من انتهاك العقوبات على روسيا، مشيرة إلى أن “هناك مجموعة من الأدوات المتوفرة لأميركا التي قد تستخدمها مع بكين”.
لكن بالرغم من المطالبات الأوربية للصين بالانخراط في وساطة حيوية لمعالجة الأزمة الأوكرانية، والتحذيرات الأمريكية لدفع بكين عن مساندة روسيا، لا ترغب الصين في قيادة هذه العملية، ويبدو من الواضح أن لديها مبرراتها.
مبررات الموقف الصيني من الأزمة الأوكرانية:
دائما ما تكون التحركات الصينية الخارجية ومواقفها الدولية تخضع لحسابات مركبة، لذلك نجد الموقف الصيني من الأزمة الأوكرانية يستند إلى عدة مرتكزات تبدو لها وجهاتها بالنسبة للمصالح الصينية أهمها:
(*) التركيز على المصالح الوطنية الصينية أولًا، فالمصالح في حالة الحرب دائمًا ما تواجه المخاطر، وهو ما تخشاه بكين، والذي يدفعها إلى عدم الانخراط في وساطة محفوفة المخاطر، وبدلا من الانخراط في الأزمة الأوكرانية، عليها أن تكون أكثر استعدادًا لما هو قادم تحسباً لتغير النظام العالمي، حيث ترى الصين أن عليها الاستعداد لما يطرأ من تغيرات عالمية، ويرى وزير الدفاع الصيني، الفريق أول “ويفنغي”، بأن على القوات المسلحة الصينية، على الرغم من تراجع الغرب وصعود الشرق، التعامل مع مواجهة “غير مسبوقة” بين القوى الكبرى في العالم،وفي رأيه، أن الأمن القومي الصيني سوف يتعرض لضغط قوي من الخارج لفترة طويلة في ظروف “مخاطر عالية”، لا سيما مع بروز عدة مؤشرات تظهر تراجع الدور الأمريكي العالمي.
كما أن الصين تدرك أن وساطتها في الأزمة الأوكرانية، لن تغير السياسة الأمريكية تجاه بكين، بقدر ما يمكن أن تحمله هذه الوساطة من مخاطر محتملة لمصالحها الحيوية، لا سيما وأن الاستراتيجية الأمريكية تضع الصين منافسًا رئيسيًا،ومهددًا للهيمنة الأمريكية.
(*) ترى الصين في وساطتها مخاطر كبيرة، في ضوء البيئة المعقدة للصراع في أوكرانيا، مما لا يتيح مساحة للمناورة؛ خاصة وأنروسيا ليست في مواجهة مع أوكرانيا بقدر المواجهة مع الغرب، الذي يقف خلف كييف بقوة، وأي نتيجة محتملة للتفاوض يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية تؤثر على المصالح الصينية، لا سيما إذا منيتالوساطة الصينية بالفشل، وهو أمر من شأنه إضعاف مكانة الصين الدولية، ومن المحتمل أن يهدد صعود الصين العالمي.
(*) العلاقة الاستراتيجية بين موسكو وبكين، باعتبار روسيا الدولة الصديقة المساندة للصين في مواجهة القوى الغربية المعادية للصعود الصيني العالمي، وتدرك تماماً أن هزيمة روسيا في هذه الحرب، ستضع الصين في مواجهة الغرب مباشرة، وبالتالي من الأفضل الوقوف على الحياد وليس الانحياز إلى روسيا، الذي سيضعف موقف الأخيرة أكثر مما يقويه، خاصة وأن الغرب يثير الشكوك حول مصداقية الصين تجاه قيادة المفاوضات لمعالجة الأزمة، إذ يعتبرها الغرب “وسيط غير مريح”، كما أن روسيا تتفهم جيدا الضغوطات التي تمارس على حلفائها للتخلي عنها، خاصة الصين، التي تجمعهما عوامل التقاء كثيرة، ودعم متبادل، فقد سبق وأبدت الصين دعمها للمطلب الروسي المتمثل في ضرورة عدم ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، كما أكدت روسيا دعمها للموقف الصيني بشأن قضية السيادة الصينية على تايوان.
(*) يبدو أن لدى بكين قناعة بأن الحسم العسكري يسبق الحل الدبلوماسي، فالتطورات في أرض المعركة تفرض شروط التفاوض، وقد تتأخرحلول المفاوضات وتزداد تكلفة المفاوضات، التفوق العسكري الروسي أمام الجيش الأوكراني، خاصة وأن الدعم العسكري الغربي للأخير في الوقت الحالي غير كافٍ لإحداث توازن كاف مع القوات الروسية، التي باتت على مقربة من كييف.
استناداً إلى ما سبق، يتبن أن الصين تدرك الكثير من الحقائق على الأرض، أهمها، أن روسيا لا يمكنها التراجع أو الانسحاب من هذه الحرب إلا بتحقيق أهدافها، لا سيما مع دخول الحرب لأسبوعها الرابع، وما تحرزه القوات الروسية من تقدم بأمام العقوبات الغربية التي وصفت بأنها قاسية وغير مسبوقة، لم يعد أمام روسيا مجال للتراجع.
في الوقت ذاته لا ترغب الصين في الانضمام إلى العقوبات الاقتصادية الغربية لروسيا، التي تراها بعيدة عن تحقيق أهدافها، في ضوء الخبرة الروسية في التعامل مع العقوبات، والاستعدادات المسبقة لتحملها، وتدرك أن الحديث عن توقيع عقوبات على بكين أمر محفوف بالمخاطر، وسينتج عنه عواقب وخيمة، سواء للمصالح الصينية أو المصالح الغربية على السواء، كما أنالولايات المتحدة ليس لديها القدرة على تفكيك التحالف الاستراتيجي بين بكين وموسكو، لافتقارها إلى الموارد اللازمة لذلك.
لكن بالرغم من المناوشات الإعلامية بين بكين وموسكو منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية لا يرغب البلدان في احتدام الخلاف بينمها أكثر، في ضوء الملفات الساخنة الأخرى، والذي أكده اللقاء الذي تم بين مستشار الأمن القومي الأميركي “جيك سوليفان” وكبير مسؤولي السياسة الخارجية في الحزب الشيوعي الصيني “يانغ جيشي” في العاصمة الإيطالية، الاثنين 14 مارس، فبالرغم من أنه لم يخرج بجديد حول الأزمة الأوكرانية، إلا أنه أكد على “أهمية الحفاظ على قنوات تواصل مفتوحة بين الولايات المتحدة والصين”.
بالنهاية: يظل الدور الصيني في الحرب الروسية في أوكرانيا، يخضع لحسابات معقدة، دفعتها للبعد عن الانخراط الأحادي في مفاوضات تراها غير مضمونة النتائج، فعلى الرغم من أن الصين يمكنها بالفعل لعب دور مهم في الوصول إلى حل سياسي، أو فرض معادلة جديدة لإنهاء الحرب، إذا ما انضمت إلى الغرب في مسألة العقوبات الاقتصادية على روسيا، لكن ذلك لكن يكون في مصلحتها، في ضوء المخاطر الجسيمة المحيطة بهذه الأزمة، وتشابك المصالح مع أطرافها.
ولا ترغب كذلك في تغيير موقفها الحيادي تجاه الحرب في أوكرانيا، متجنبة الزوايا الحادة، التي قدتؤدي إلى مزيد من التوتر في مشهد متوتر بالأساس، فالانتقال الصيني من الحياد إلى الانحياز لروسيا، يدفع إلى مواجهة استراتيجية بين بكين وواشنطن، خاصة في بحر الصين الجنوبي، في الوقت ذاته ترى ضرورة تعدد المشاركات الدولية في المساعي الدبلوماسية تقود إلى تسوية لوقف الحرب، وإن كان ذلك ليس بالأمر السهل في ظل بيئة الصراع المعقدة في أوكرانيا.