كيف تأثرت سلاسل الإمداد العالمية بعد 24 يوماً من الحرب؟

تحول الخطر الأكبر الذي يواجه سلاسل التوريد العالمية من وباء كورونا إلى الصراع العسكري بين روسيا وأوكرانيا والشكوك الجيوسياسية والاقتصادية التي أوجدتها. حيث تسببت الحرب في تفاقم أزمة سلاسل التوريد العالمية المضطربة والضعيفة بالفعل، والتي لم تتعاف بعد من التأثيرات السلبية لجائحة كورونا. فدول الصراع يعدان من كبار الموردين للمعادن والحبوب والعديد من السلع الأخرى إلى العالم؛ وبالتالي توترات الأوضاع بهما يثير العديد من الأزمات الاقتصادية والإنتاجية. حيث اعتبرت وكالة ” موديز” للتصنيفات الائتمانية أن الحرب الروسية الأوكرانية “أكبر خطر” على سلاسل التوريد منذ وباء كورونا. ومن هذا المنطلق يحاول هذا التحليل كشف تأثير الحرب الروسية- الأوكرانية على حركة الشحن العالمية، وتكلفة النقل، ومدى تأثيره ذلك على أهم الصناعات الإنتاجية مثل صناعة السيارات والتعدين والغذاء، وغيرهم.

التأثير على حركة الشحن والنقل وتكاليفها:

(*) صعوبات فى حركة الشحن: تشهد حركة الشحن البحري من منطقة البحر الأسود في الوقت الحالي ارتباكاً شديداً بسبب الحرب، والذي أدى إلى وقف عدد من الخطوط الملاحية من وإلى أوكرانيا، وهو ممر مهم لشحنات الحبوب والمعادن والنفط الروسي إلى بقية العالم. كما توقفت حركة الشحن الجوي أيضاً، بعد أن أعلن الاتحاد الأوروبي إغلاق مجاله الجوي أمام الطائرات الروسية، وهذا ما فعلته المملكة المتحدة وكندا والولايات المتحدة أيضاً، وهو ما قاد موسكو نحو فرض حظر متبادل. ومن المتوقع أن تؤدي العقوبات الغربية المتزايدة على موسكو- وبخاصة حظر بعض البنوك الروسية من نظام الدفع العالمي “سويفت” إلى زيادة مصاعب الشركات في إجراء أي نوع من التجارة مع روسيا حتى في القطاعات التي لا تخضع للعقوبات.كما أعلنت أكبر ثلاث شركات شحن في العالم، هي إم إس سي (MSC) وميرسك (Maersk) وسي إم إيه سي جي إم (CMA CGM)، من بين شركات أخرى وقف خدمتها إلى موانئ روسية من سان بطرسبرغ على بحر البلطيق إلى فلاديفوستوك على المحيط الهادئ. وتعتزم العديد من الشركات اللوجيستية خلال الفترة المقبلة البدء في البحث عن أسواق بديلة لتعويض هذا التعطل ، وتتمثل تلك البدائل في عدة دول منها “رومانيا، وفرنسا، والبرازيل، والأرجنتين”.

(*) ارتفاع تكاليف النقل: يؤدي ارتفاع أسعار الغاز والنفط إلى ارتفاع أسعار النقل، والتأثير على سلاسل التوريد العالمية. فمثلا أصبح الغاز الطبيعي مهمًا بشكل متزايد في توليد الكهرباء. وفي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، شكل الغاز الطبيعي 40٪ من إجمالي توليد الكهرباء على نطاق المرافق في الولايات المتحدة في عام 2020. ويمكن أن يؤدي ارتفاع أسعار الكهرباء إلى تقليص أرباح المصنعين والموزعين وتجار التجزئة الذين يعتمدون على هذا النوع من الطاقة لتشغيل منشآتهم. كما تؤدي الزيادات في تكلفة الطاقة بدورها في كثير من الأحيان إلى رفع أسعار منتجات هذه الشركات. كما ستتحمل صناعة النقل العبء الأكبر، نظرًا لأنها تتمتع بأعلى كثافة للطاقة مقارنة بجميع الصناعات الرئيسية، ليضيف مزيدا من الأعباء لتكاليف الشحن التى سبق وأن ارتفعت إلى أكثر من 300٪ في عام 2021 بسبب وباء كورونا. كما إنَّ البحر الأسود صنّف كمنطقة مرتفعة الخطورة، وسيؤدي هذا التصنيف على الأرجح إلى رفع أقساط التأمين المطلوبة لشحن البضائع أو نقلها عبر هذه المياه. ومن غير الواضح إلى متى سيستمر هذا التغيير.

التداعيات المحتملة على الصناعات الإنتاجية:

يعتبر النقل والخدمات اللوجستية بمثابة مفتاح لمجموعة واسعة من الصناعات من الأغذية المصنعة إلى التصنيع الصناعي المتقدم، وتؤثر بشكل خاص على تلك التي تعتمد على المدخلات من أجزاء مختلفة من العالم، حيث يتم تكرير النفط والغاز واستخدامهما في صناعة المطاط والمواد الحافظة والبلاستيك والحاويات والعديد من المنتجات الأخرى التي تلعب دورًا مهمًا في المجالات الزراعية والطبية. ومن هنا ظهرت انعكاسات سلبية، وقد تستمر على عمليات إنتاجية عديدة أبرزها ما يلى:

(&) صناعة المعادن: تسيطر روسيا على ما يقرب من 10٪ من احتياطيات النحاس العالمية، وهي أيضًا منتج مهم للنيكل والبلاتين، حيث تعتبر روسيا ثالث أكبر مورد في العالم للنيكل المستخدم في صناعة بطاريات الليثيوم، الذى يتداول الآن عند أعلى مستوى له منذ 11 عامًا. ومن المرجح أن يكون هناك المزيد من الزيادات في أسعار الألمنيوم مع أي اضطراب في الإمداد ناتج عن الصراع من شأنه تهديد الإمداد العالمي من منتجات مثل البلاتينيوم والألومنيوم والصلب، وإغلاق المصانع في أوروبا وأوكرانيا وروسيا. وتشير الأرقام إلى أنه يتم توفر 40 % من البلاديوم المطلوب للمحولات الحفازة، في حين يأتي 90 % من لوازم النيون المطلوب لصناعة أشباه الموصلات من أوكرانيا، وقد تواجه شركات صناعة السيارات والشركات المصنعة للأجهزة الإلكترونية، وصانعي الهواتف والعديد من القطاعات الأخرى التي تعتمد على تصنيع شرائح أشباه الموصلات مخاطر كبيرة بسبب الحرب، حيث تعد هاتين الدولتين المورد الرئيسي للمعادن لأوروبا؛ والمصادر البديلة ليست متاحة بسهولة كما أنها بعيدة جغرافيًا.

(&) صناعة السيارات: سيكون للنزاع عواقب على قطاع السيارات العالمي أيضاً، لأن روسيا أحد أكبر منتجي المواد الخام الداخلة في صناعة المركبات الكهربائية، والسيارات التي تعمل بالبترول والديزل، بحسب تقرير “فيتش سوليوشنز”. وبالفعل أغلقت نسبيا مصانع سيارات عديدة في أنحاء أوروبا، لا سيما في ألمانيا، نتيجة تعطيل توريد المكونات الأولية الضرورية لإنتاج أشباه الموصلات، والبطاريات وغيرها من المكونات اللازمة للصناعة، فعلى سبيل المثال، أعلنت شركة “فولكس فاجن” الألمانية التي أعلنت تعليق عمليات الإنتاج في مصنعها الرئيسي للسيارات الكهربائية، كما أعلنت أنها قد تُجبر أيضا على وقف الإنتاج في عدة مصانع أخرى بينها المصنع الرئيسي في مدينة وولفزبرج الألمانية خلال الأسابيع المقبلة بسبب العجز في قطع الغيار. كما أعلنت شركتى BMW و VW بالفعل توقفًا في الإنتاج في المواقع الأوروبية بسبب الاضطرابات في توريد المكونات من أوكرانيا، وطال ذلك أيضاً بعض الدول الآسيوية مثل اليابان التي تضررت إمدادات صناعة الصلب لها بسبب الحرب. وتنذر العقوبات الأميركية على شركات التكنولوجيا بتأجيج مخاطر نقص الرقائق بين شركات صناعة السيارات في روسيا، المعرضة كذلك لمخاطر خسارة إمدادات مكونات السيارات التي تستوردها من الاتحاد الأوروبي. 

(&) الصناعات الغذائية: تنتج روسيا وأوكرانيا مجتمعتين ما يقرب من ثلث صادرات القمح في العالم، و19 % من صادرات الذرة، و80 % من زيت عباد الشمس في العالم. بالأرقام تشير إلى أن أوكرانيا هي خامس أكبر مصدر للقمح بكمية 17 مليون طن سنويا، بينما روسيا هي الأكبر عالميا بـ 44 مليون طن سنويا بلغت حصة أوكرانيا وروسيا 23 % من تجارة القمح العالمية في 2021-2022 والدولتان أكبر منتجين لزيت دوار الشمس، مع حصة تبلغ 60 % من المخزون العالمي. وتؤثر الاضطرابات بالإمداد في الأمن الغذائي العالمى، خاصة للدول النامية والفقيرة المستوردة للغذاء فى الشرق الأوسط والقارة الأفريقية. ففي مجال المحاصيل الزراعية، يتدفق كثير من  تلك الحبوب والزيوت عبر موانئ البحر الأسود المغلقة حالياً مع حظر أوكرانيا تصدير تلك السلع بفعل تداعيات الحرب، مما أثر على أسعار العديد من الحبوب والسلع أهمها القمح، الذى تسجل أسعاره أعلى مستوياتها منذ عام 2008، بينما أسعار الزيوت النباتية عند أعلى مستوى منذ عام 2012، وفق بيانات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “فاو”. وكل ذلك سيؤثر سلباً على إمدادات وتوريد المواد الغذائية، وخصوصا القمح والحبوب.

وتأسيسا على ما سبق، يمكن القول إن الحرب الروسية الأوكرانية أحدثت هزة إضافية في سلاسل التوريد العالمية، التي لا تزال في حالة فوضى بسبب وباء كورونا، مما زاد من ارتفاع التكاليف وإطالة فترات التسليم وتحديات أخرى للشركات التي تحاول نقل البضائع حول العالم.

وبالتالي، نظرا للترابط بين الأسواق العالمية، ستتأثر حتى سلاسل التوريد التي ليس لها روابط مباشرة بالمنطقة، وهو ما أكد عليه  صندوق النقد الدولي الذى صرح بأن الوضع لا يزال شديد التقلب، والعواقب الاقتصادية ستكون كبيرة بالفعل خاصة فى ظل ارتفاع أسعار الطاقة والسلع بما في ذلك القمح والحبوب الأخرى، مما سيضع ضغوطا تضخمية على الاقتصاد العالمى، كما ستضعف التجارة العالمية أكثر مما كان متوقعًا في السابق. كذلك حذرت وكالة “موديز ” من أن الأزمة الروسية الأوكرانية ستؤدي إلى تفاقم وضع الشركات في العديد من الصناعات، خاصة تلك التي تعتمد على موارد الطاقة؛ وبالتالي يمكن أن يؤدي اضطراب طرق التجارة وتكاليف الشحن وعدم إمكانية الوصول إلى المواد الخام الحيوية إلى عرقلة النمو الاقتصادي العالمى وزيادة الضغط التضخمي.

د.جيهان عبد السلام

مساعد مدير المركز في الملفات الاقتصادية والدراسات الإفريقية. -أستاذ مساعد الاقتصاد بجامعة القاهرة. -حاصلة على دكتوراه الاقتصاد بكلية الدراسات الأفريقية العليا. -عضو هيئة تحكيم البحوث الاقتصادية لدى المركز الجامعي لترامنست. -عضو هيئة تحكيم لدى كلية الاقتصاد والإدارة وعلوم التيسير. -عضو هيئة تحكيم لدى جامعة الشهيد لخضر. -خبير اقتصادي وكاتبة في العديد من المجلات العلمية ومراكز الدراسات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى