كيف تغيرت مواقف “جيران” روسيا بعد ثمانية أيام من حربها؟
أربك الغزو الروسي لأوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير الماضي حسابات العديد من الدول، دفع البعض منها، وبالأخص الدول المحايدة إلى الدخول في معترك السياسة الدولية بشكل لافت على خلفية الأحداث في أوكرانيا، مما اضطر بعضها إلى الاشتراك في حملة العقوبات الغربية الموسعة ضد روسيا مثل سويسرا، في حين اندفع البعض الآخر إلى أبعد من ذلك بإرسال الأسلحة لأوكرانيا، مثل السويد وفنلندا، الأمر ذاته ينطبق على ألمانيا التي لم تستطع الحفاظ على حيادها ومكتسباتها مع روسيا وحلفائها الغربيين.
وفي هذا الإطار، يلقي هذا التحليل الضوء على أبرز المواقف التي لفتت الانتباه مؤخرا على خلفية الأزمة الأوكرانية، والتحولات التي حدثت في تلك المواقف بعد أن امتدت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وما إذا كانت هذه الدول ستحافظ على المسار الراهن وإدانتها لروسيا أم ستضطر إلى العدول عن مواقفها تحسبا لرد الفعل الروسي، ولهم في أوكرانيا نموذج.
تحركات الثلاثة أيام الأولى من الغزو:
لم تخرج مواقف الدول المعروفة بسياسة عدم الانحياز مثل سويسرا وفنلندا والسويد، والدول التي حاولت البقاء على الحياد وتجنب خسارة موسكو مثل ألمانيا، عن موجة الإدانات والتهديدات التي جاءت في سياق الموقف الأمريكي والأوروبي عامة. وعلى سبيل المثال، اكتفت فنلندا والسويد بمجرد الإدانات اللفظية للغزو الروسي لأوكرانيا، واعتبرته الدولتان ” هجوما على منظومة الأمن الأوروبي “، كذلك النرويج _ العضو في حلف الناتو _ التي اعتبرته ” انتهاكا جسيما للقانون الدولي “، وأعلنت نقل سفارتها من كييف إلى لفيف غرب أوكرانيا. الأمر نفسه تقريبا بالنسبة لألمانيا التي استهلت موقفها بإدانات حذرة؛ فقد وصف المستشار الألماني أولاف شولتز الغزو الروسي لأوكرانيا بـ ” اليوم الأسود في تاريخ أوروبا “، وغيرها من التصريحات التي تشير إلى التخوفات من النزعة القومية لبوتين، ومقارنة القدرات الروسية بالألمانية، ثم أرفقت هذا الموقف بتعليق خط نورد ستريم ٢ ” مؤقتا ” بعد ضغط أمريكي.
أما فرنسا، فقد أثبتت حضورها بمجرد إدانة لـ ” قرار روسيا شن حرب على أوكرانيا “، كما تراجع وزير المالية الفرنسي عن تصريحاته حول شن الولايات المتحدة وأوروبا حرب اقتصادية على روسيا لضرب النظام الروسي، واعتبرها ” غير مناسبة ” لأن مصطلح الحرب لا يتناسب مع الاستراتيجية السلمية لفرنسا.
وقد تفسر مواقف تلك الدول الخافتة في البداية بأنها محاولة جس نبض وانتظار لما ستؤول إليه الأوضاع في أوكرانيا، وما إذا كانت العملية الروسية ستمتد أو تشتد صرامتها، وبذاك تكون مواقفهم أتت في سياق المواقف الدولية والمتوقعة عامة، تجنبا لخسارة روسيا منذ البداية. كذلك ألمانيا التي حاولت الحفاظ على علاقاتها بموسكو، التي كان من المتوقع لها مزيد من التطور بعد تشغيل خط نورد ستريم ٢، لذا أقدم المستشار الألماني أولاف شولتز على زيارة هي الأولى منذ توليه إلى موسكو للتأكيد على حياده من ناحية، والرغبة في استمرار المشروع والعلاقات بين موسكو وبرلين عامة، واستمر هذا الموقف خلال الثلاثة أيام الأولى من الغزو، وحاولت برلين تجنب المواقف الصارمة أو العدائية لموسكو، إلا أن الأمر اختلف بالتزامن مع التطورات الحاصلة على الأرض.
كما اكتفت دول الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات اقتصادية على الاقتصاد الروسي، والتي شملت مجالات مختلفة مثل التمويل والطاقة والنقل، وتجميد أصول كبار الشخصيات، على رأسهم الرئيس بوتين ووزير الخارجية سيرجي لافروف وأعضاء مجلس الأمن القومي الروسي، وأعضاء مجلس الدوما الذين وافقوا على اتفاقية التعاون مع المناطق الانفصالية شرق أوكرانيا، كما طالت العقوبات أيضا عدد من المؤسسات والبنوك والشركات الروسية، والودائع الروسية لدى بنوك أوروبا.
تحولات لافتة:
بعد تطور الأوضاع في أوكرانيا، واستمرار العملية العسكرية الروسية لأيام متتالية، شهدت مواقف الدول المحايدة تحولات هي الأخطر منذ الحرب الباردة، فقد تخلت كل من السويد وفنلندا عن سياسة الحياد، وأعلنتا إرسال شحنات أسلحة غير مسبوقة إلى أوكرانيا، بالإضافة إلى تأييد الرأي العام الداخلي لموقف حلف الناتو، وقالت رئيسة الكومة الفنلندية سانا مارين ” ستقدم فنلندا مساعدات عسكرية لأوكرانيا “، القرار الذي وصف بالتاريخي باعتبار أن فنلندا لم تصدر أسلحة في مناطق النزاع، فقررت هلسنكي تسليم أوكرانيا 2500 بندقية هجومية و150 ألف قطعة ذخيرة و1500 قاذفة صواريخ و70 ألف حصة غذائية ميدانية، وفقا لتصريح وزير الدفاع الفنلندي. كما سارت السويد أيضا على نفس المنوال واتخذت قرارا استثنائيا كسرت فيه حيادها الذي استمر منذ الحرب الباردة أيضا، عندما أعلنت الحكومة السويدية أنها ستسلم أوكرانيا خمسة آلاف قاذفة مضادة للدروع.
كما خالفت ألمانيا سياستها المستقر عليها منذ الحرب العالمية الثانية بعدم إرسال الأسلحة الألمانية إلى مناطق النزاع، وعلى هذا الأساس رفضت طلب أوكرانيا بتسليمها أسلحة قبل الغزو الروسي، حتى أعلنت بعد ذلك تسليم أوكرانيا قاذفات صواريخ مضادة للدروع، وصواريخ أرض جو من طراز سيتنغر، بالإضافة إلى المدافع والمدرعات والوقود.
وتجاوز الموقف الأوروبي مجرد العقوبات الاقتصادية، بعدما تخلى عن عقيدته التأسيسية وقرر إرسال الأسلحة لدعم أوكرانيا بعدما اضطرته المستجدات لذلك، وفقا لمسئول الشئون الخارجية بالاتحاد جوزيف بوريل، وأعلن أنه سيتم تحديد ميزانية تقدر بحوالي ٤٥٠ مليون يورو من أجل شراء الأسلحة دعما لأوكرانيا.
وعلى الجانب الآخر، أعلنت دول ممن اختاروا عدم معاداة الروس أو الحياد على الأقل مثل المجر أنها لن تسمح بمرور الأسلحة إلى أوكرانيا عبر أراضيها، وقد بررت ذلك بأن هذه الشحنات قد تؤدي إلى هجمات عسكرية لاستهدافها على أراضيها. كما اتخذت بولندا نفس الموقف، والتي بالتأكيد في موقف لا تحسد عليه باعتبارها جارة لروسيا وبيلاروسيا التي اضطربت علاقتها معها بعد أزمة اللاجئين على الحدود بينهما العام الماضي.
ولكن في المقابل، لم تسهم المواقف السابقة في ردع روسيا، بل ازداد الأمر سوءا في أوكرانيا مع تقدم القوات الروسية، والمحاولات المستميتة للسيطرة على العاصمة، كما أمر بوتين بوضع قوات الردع الاستراتيجي ( النووي ) في حالة تأهب، وتأتي هذه الخطوة وفقا لبوتين ” ردا على مسئولي الدول الغربية الذين لم يكتفوا باتخاذ خطوات اقتصادية عدائية ضد روسيا، بل أدلى مسئولوهم بتصريحات عدائية ضد روسيا في حلف الناتو “، تلاه في وقت لاحق استهداف القذف الروسي لمبنى الإذاعة والتلفزيون الأوكراني في العاصمة كييف، وإعلان وزارة الدفاع الروسية عزمها استهداف المنشآت التكنولوجية التابعة للأمن الأوكراني.
احتمالات العودة:
أرجع البعض الموقف الفنلندي والسويدي إلى الضغط الأمريكي، على أساس أن الدولتين صديقتان للحلف منذ التسعينات، في حين أرجعه البعض الآخر إلى التخوف من تمادي الأطماع الروسية إليهما لأنهما جارتان لموسكو. لكن لم يتضح بعد ما إذا كان سيسفر الضغط الأمريكي والتخوف من روسيا التخلي عن سياسة استفزاز روسيا، والعودة لسياسة الحياد بعد تحذير صريح من وزير الخارجية الروسي من أن انضمام أي منهما إلى الناتو ستكون له تداعيات سياسية وعسكرية خطيرة، أم التفكير فعلا في الانضمام إلى الناتو المرهون بقرار سياسي من هلسنكي وستوكهولم، ورغم استبعادهما للقرار العاجل بالانضمام للناتو، لكن لم تكن الدولتان قريبتين من الانضمام للحلف كما هو الآن، خاصة بعد تجاهل الدولتين تهديدات موسكو، والتي جاء الرد عليها فقط بـ ” لقد سمعنا هذا الكلام من قبل “، وحضور اجتماع الناتو الطارئ بعد الغزو مباشرة.
وقد أظهرت استطلاعات الرأي التي أجريت في فنلندا والسويد خلال الأيام الماضية تأييد غالبية السكان للانضمام للناتو أكثر من أي وقت مضى. ولكن من المتوقع حتى وإن كان هناك نوايا جدية للانضمام للناتو فرضها الوضع الراهن، فإنها لن تتعجل في تلك الخطوة في انتظار التطورات في أوكرانيا، حتى لا تضحى بسياسة الحياد الخاصة بها، أو تغامر بمواجهة نفس مصير أوكرانيا.
كما اعتبر موقف الاتحاد الأوروبي _ وفقا لمحللين _ بمثابة الفرصة الأخيرة لإثبات جدارة أوروبا في مواجهة الأطماع الروسية، فهم يعلمون تمام العلم أنه حال انتصار بوتين في أوكرانيا، فإنه بحكم نزعته القومية لن يكتفي بها فقط _ بعد أن ضمن سكوت الغرب في جورجيا والقرم والآن أوكرانيا _ الأمر الذي ستطال تبعاته خريطة النظام العالمي وتحالفاته، وعودة الحقبة الاستعمارية التي قد تنضم إليها الصين وكوريا الشمالية، وظاهرة الاستقطاب كما كانت خلال الحرب الباردة، خاصة بعد أن اتضح نوع من التقاعس الأمريكي خلال الأزمة الأوكرانية، وبالتالي قد لا تندفع عسكريا للدفاع عن حلفائها أو تشكل رادعا قويا للمعتدين.
لذا بعد أن رأت أوروبا جدية النوايا الروسية في اتخاذ كافة التدابير اللازمة لحماية أمنها القومي، وسقطت الرؤى الأوروبية التي لم ترجح الغزو أصلا، وبالذات فرنسا عندما أكد ماكرون أنه لا توجد ثمة مؤشرات على عزم روسيا اجتياح أوكرانيا واقعيا، وبعد أن استشفت موقف واشنطن التي قد تتقاعس عن حمايتهم أيضا، فإن احتمالية تراجع الاتحاد الأوروبي عن موقفه تبدو ضعيفة_ حاليا على الأقل _، بعد أن جاء موقف التكتل في سياق مواقف أوروبية مستقلة كألمانيا وفرنسا وهولندا قدمت دعما عسكريا لأوكرانيا.
بالإضافة إلى ذلك، قد يكون السبب في الاندفاع القوي لأوروبا في العقوبات الاقتصادية وإرسال الأسلحة بعد محاولات مستميتة على مدار الأسابيع الماضية لحل الأزمة دبلوماسيا هو الضغط الأمريكي، وفي نفس الوقت التعهد بتعويض إمدادات الغاز الروسي حال انقطاعها _ وواشنطن تؤيد ذلك _ بالغاز المسال الأمريكي، والضغط من ناحية أخرى على الدول الخليجية لزيادة الإنتاج.
وفي النهاية يمكن القول، إن الأزمة الأوكرانية مثلت اختبارا قاسيا لقوة ومصداقية التحالفات الغربية في أوقات الأزمات الجدية، لذلك يتوقع أن تترك تأثيرها على خريطة هذه التحالفات. كما ألقت بظلالها على سياسة الحياد وعدم الانحياز، وأصبحت دولها في موقف لا تحسد عليه وغير قادرة على تحديد وجهتها بعد، كما أعادت سياسة جورج بوش ” من ليس معنا، فهو ضدنا ” مرة أخرى، وهو ما يؤكده تراجع بعض الدول بعد ضغط أمريكي في موقفها التصويتي أمام مجلس الأمن من الامتناع إلى إدانة روسيا، وبالتالي أصبح لا مجال للحياد.