إيران رابحة أم خاسرة من “حرب بوتين”؟

ألقت حرب “بوتين” على أوكرانيا بظلالها في مسارات قضايا عديدة عالقة بمختلف دول العالم وبين أطرافه، ويعد من أهمها مفاوضات فيينا حول مستقبل الملف النووي الإيراني. فمن المحتمل، وفقاُ للخبراء أن تؤثر تلك الأزمة على المفاوضات النووية الإيرانية على مستويين، حيث يضعف التأثير في حالة قصر عمر الحرب، وقد يزيد على المدى البعيد. فإيران على الرغم من دعمها لبوتين وفقا لتصريحات أكدتها مؤسساتها الرسمية منذ انطلاق صافرة الحرب، إلا أنها تتخوف  من مخاطر ديمغرافية، وبالتالي قد تكون طهران رابحة وخاسرة في الوقت نفسه، وذلك وفقاً لحسابات بعض صناع القرار فيها. فقبل عملية الغزو لأوكرانيا كان الروس يعلمون بأنه في حال التوصل إلى اتفاق نووي مع الغرب، فإن إيران ستكون مستعدة، وبقوة لتصدير الغاز والنفط إلى أوروبا، وبالتالي في حالة إطالة الحرب الروسية قد تتحق نلك المخاوف الروسية من غاز طهران.

وتأسيسا على ما سبق واستكمالاً للسطور السابقة، فإن يمكن التأكيد على أن موسكو حاولت الإمساك بزمام المفاوضات قبل غزوها لأوكرانيا، واستخدامها كورقة رابحة في تعاملها مع الغرب. كما أنه على الرغم من أن روسيا لعبت دوراً رئيساً في التوصل إلى اتفاق عام 2015- إلا أن تصعيدها الأخير والغزو العسكري لها في أوكرانيا لا ينفصل ولو جزئياً عن استراتيجية الاستفادة من ملف إيران، وعليه يمكن طرح السؤال التالي، هو: ما أوجه التماس والتشابك بين الملفين-مفاوضات فيينا والحرب الروسية على أوكرانيا-،؟ وما الذي يمكن أن تقبل به واشنطن في الملف النووي الإيراني في الوقت الراهن، ووفقا لما تنتهي عليه حرب “بوتين” على أوكرانيا؟.

 موسكو والمفاوضات النووية:

على الرغم من أن روسيا لا ترغب في أن تصبح إيران دولة نووية، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أنها تشارك الغرب أهدافه أو أساليبه، كما أنها تفضل أن تتخذ الدول الأخرى خطوات لمنع مثل هذا السيناريو من خلال دور روسي فاعل ومؤثر. وتأكيداً لمكانة روسيا على الساحة الدولية، ولكي يحصل بوتين على نتائج أفضل في صراعه مع الغرب، قد يعمل على استغلال ورقة اتفاق إيران النووي كعامل يسهم في تحقيق الأهداف الروسية، إذ ينظر الكرملين إلى “إيران القوية” كعامل مفيد يضعف المكانة الإقليمية للولايات المتحدة التي تعتبر المنافس الرئيسي لروسيا على الساحة الدولية.

ما سبق، يتضح في سعى “بوتين” خلال السنوات الماضية إلى تقويض النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، ولهذا كرس طاقته وقدراته لتوجيه التطورات الأخيرة في هذا الاتجاه، حيث عمل بوتين على استغلال حقيقة أن الغرب يعتبر إيران تشكل تهديداً هائلاً، كوسيلة ضغط يستخدمها بمهارة ضد الغرب. وعليه، قد يعمل “بوتين” جاهداً بشكل أكبر مع طهران إذا تساهلت معه واشنطن في شأن أوكرانيا أو تدخلت برد فعل تجاه الحرب ضد أوكرانيا.

وعلى الرغم من أن روسيا لعبت دوراً رئيساً في المفاوضات النووية على مدى عقود، وساند الكرملين العقوبات المفروضة على طهران كوسيلة لانتزاع تنازلات من الولايات المتحدة والغرب- لكنه عمل أيضاً على تخفيفها، مدعياً أن المخاوف الغربية مبالغ فيها، وتضر بجهود روسيا الرامية إلى توسيع التجارة الثنائية مع طهران، إذ تظل روسيا دائماً ملتزمة بتحقيق مصالحها الخاصة بغض النظر عما تفضي إليه محادثات فيينا.

ومن ناحية أخرى، لم يكن لدى موسكو الكثير لتكسبه من إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة المعروفة باسم “اتفاق إيران النووي”، ولهذا يمكنها الانتظار والتظاهر باتخاذ الخطوات المطلوبة خلال مرحلة بذل المساعي الدبلوماسية تجاه إيران، وعلى الرغم من وجود خلافات جدية بين طهران وموسكو منها عدم دفع تكاليف محطة بوشهر للطاقة الواقعة جنوب البلاد إلى روسيا- إلا أن هناك تشابه بينهما في بعض الملفات، يعد من أهمها:

(*) تتفق روسيا وإيران في فرض العقوبات، حيث تخضع روسيا بالفعل لعقوبات بسبب ضمها شبه جزيرة القرم، مثلما تخضع طهران لعقوبات أميركية قاسية، كما يتدخل الكرملين باستمرار من خلال أدوات دبلوماسية، واقتصادية وسرية وعسكرية في شؤون الجمهوريات السوفياتية السابقة، من أجل دعم القادة الموالين لروسيا، مثلما تستخدم إيران أدوات مختلفة لتقويض حكومات دول الشرق الأوسط، بما في ذلك تمويل وتسليح الوكلاء الذين يعملون كذراع طويل لها في لبنان والعراق واليمن، وأيضاً تخضع روسيا لعقوبات جديدة في غزوها لأوكرانياً مؤخراً.

(*) دعم الحلفاء، حيث ترسل إيران وروسيا قواتاً لدعم الحلفاء أو استخدام القوة لسحق المطالب الشعبية، كما هو الحال في “سوريا” و”اليمن” أو “بيلاروس” و”كازاخستان”، منطقة “دونباس” مؤخراً بعد الاعتراف الروسي بالانفصال الإقليمين.

(*) لعبة الصفقات، ووفقاً لعدد من التقارير، فإن لدى روسيا فرصة فريدة لبيع طائرات “سوخوي 35” متعددة الأغراض فائقة المناورة إلى إيران التي تسعى إلى الحصول على 24 طائرة منها على الأقل، في محاولة لتحديث قوتها الجوية التي عفا عليها الزمن، بخاصة في ظل ما رددته أوساط عسكرية حول انسحاب عدد من الحكومات في الشرق الأوسط، وجنوب آسيا من صفقاتها السابقة لشراء هذه الطائرات بسبب تلويح الولايات المتحدة بفرض عقوبات عليها، وفقاً لقانون أصدره الكونغرس يحظر شراء أسلحة روسية في أعقاب ضم روسيا للقرم عام 2014.

إضافة إلى صفقة طائرات “سوخوي 35” يأمل الرئيس الإيراني بتوقيع اتفاق تعاون أمني ودفاعي مدته 20 عاماً مع روسيا، قد يشمل شراء نظام متقدم للأقمار الاصطناعية، فضلاً عن دبابات “تي 90” وطائرات تدريب وأنظمة دفاع جوي “إس 400” وأنظمة دفاع ساحلية أخرى.

هواجس إيرانية:

استكمالاً لما سبق، يمكن القول إنه على الرغم من وضوح الموقف الإيراني من حرب “بوتين” على أوكرانيا منذ اليوم الأول للحرب، وهو ما اتضح في تأييد “رئيسي” للهجوم خلال محادثة هاتفية مع “فلاديمير بوتين”، حيث قال إن “توسع الناتو يشكل تهديدًا خطيرًا لاستقرار الدول المستقلة وأمنها في مختلف المناطق”، كذلك ما حملته تصريحات الخارجية الإيرانية من دعما صريح لروسيا في حربها على أوكرانيا، وتبرير وزير الخارجية “عبداللهيان” العدوان الروسي ومحاولة تحميل الولايات المتحدة الأميركية والناتو مسؤولية ذلك- إلا أن هناك مجموعة من المؤشرات توحي بارتباك في الموقف الإيراني من الدعم الكامل لبوتين، خاصة وأن “طهران” تري من الحرب مكاسب وفي الوقت ذاته تتخوف من انعكاساتها، ويتمثل أهم هذه المؤشرات فيما يلي:

(&) تخوف إيراني غير معلن من المناطق الانفصالية: حيث تتخوف إيران من اعتراف روسيا بمنطقتين انفصاليتين في أوكرانيا واعتبرته تهديداً خطيراً على دول المنطقة، لاسيما تلك الدول التي تتمتع بتنوع عرقي مثل إيران، وهو ما يفرض ضرورة عدم دعم هذه الدول، وتأييدها لما قامت به روسيا، حيث ما فعلته روسيا يعتبر لدى بعض الساسة الإيرانيين حث وتحريض للقوميات المختلفة للعمل على مشاريع انفصالية.

(&) قلق من تحرك الاهتمام الدولي بعيدا عن خريطة التقارب التي يؤسسها المفاوضون مع أطراف عربية، وهو ما تعتبره-إيران- مكاسب تحققها من تصعيدها في مفاوضاتها حول ملفها النووي: فإيران تخشى من إيران أن تسرق الأزمة في أوكرانيا الاهتمام وتصرفه عن ملفها، خصوصاً أنها تلمس إلى أي حد، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منخرطان بالكلية في الأزمة الأوكرانية، مما جعل واشنطن تكثف اتصالاتها مع حلفائها في الخليج من أجل أوكرانيا أولاً، قبل الملف النووي الذي كان سابقاً في صدارة هذا النوع من الاتصالات، كالذي أجراه الرئيس “جو بايدن” بالملك “سلمان” مؤخراً، لكن من الناحية الأخرى، قد تبدو حاجة واشنطن الملحة إلى حلفائها في الخليج التي ظهرت مجدداً، في طلب دعم جهودها الرامية إلى تأمين الخليج تدفق الطاقة في الأسواق العالمية، خاصة بعد عدوان روسيا الأخير واستخدام الطاقة كسلاح، قد ينقلب فرصة لتعزيز الخليج موقفه هو الآخر، المتعلق بالاتفاق النووي المرتقب مع إيران.

(&) الاستقواء باستخدام ملف الغاز في دعم مفاوضاتها النووية: فالغزو العسكري الروسي لأوكرانيا، أسهم في ارتفاع أسعار الغاز، واتجاه أوروبا إلى تنويع مصادرها من إمدادات الغاز لتقليل اعتمادها على روسيا، إلى الأعضاء الآخرين في منتدى الدول المصدرة، حيث ستتركز دول أوروبا حول الطرق الممكنة لزيادة الإنتاج على المدى المتوسط، وقد تكون فرصة تاريخية لطهران لإحياء سريع للاتفاق النووي، وكذلك استغلال أزمة الغاز ومنافسة روسيا في هذا القطاع. فغياب الطاقة الروسية سيزيد من حاجة الغرب للطاقة الإيرانية، لاسيما إذا طال أمد الأزمة الأوكرانية، وهو المتوقع كما يوحي بذلك مسار الأحداث والتطورات، لأنه يؤدي إلى تخفيف أزمة الطاقة المتوقعة جراء العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، عبر إعادة السماح لإيران بضخ ما يقارب 1.3 مليون برميل من النفط يومياً، كما أعلنت وكالة الطاقة الدولية سابقاً، حيث يمكن لإيران أن تضيف إمدادات 1.3 مليون برميل يومياً في 2022، إذا ألغيت العقوبات المفروضة عليها.

(&) تري إيران أن الأزمة قد تنعكس على سرعة إنهاء المحادثات النووية، وبالتالي استعادة مكانتها الاقتصادية: حيث تتوقع طهران أن أزمة أوكرانيا قد تسرع من إنهاء المحادثات النووية، فمن المتوقع أن تنتهي العقوبات على إيران وسيمكن إيران من استعادة قدراتها الاقتصادية والمالية، ومن ثم الإنفاق ببذخ على دورها الإقليمي ومشروعها السياسي. أن تحتفظ إيران بمنشآتها النووية سليمة، وأنه سيمنع إسرائيل من أي تهديد لهذه المنشآت والعودة مجدداً إلى الالتزام بأصل اتفاق عام 2015.

(&) الاستفادة من الموقف الأمريكي من الغزو الروسي لأوكرانيا، المتمثل في الضعف والارتباك: حيث أن سلوك وأداء الإدارة الأميركية في المواجهة الروسية الأوكرانية أظهر ضعفها، وسيدفع ضعف إدارة بايدن وتخاذلها تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا للتوصل إلى اتفاق نووي مريح لإيران، وسيشجع المنظمات والقوى التابعة لطهران في الإقليم على أن تستهدف حلفاء واشنطن، وقد يؤدي ذلك لغياب رغبة الولايات المتحدة وقدرتها على إدارة المفاوضات في فيينا ومتابعة الحرب في شرق أوروبا، فإن هذه الحرب ستدفعها إلى تقديم تنازلات أكبر لطهران.

في النهاية، يمكن القول إنه من المستبعد أن يكون على المدى القريب أي تأثير للأزمة الأوكرانية على المفاوضات النووية. لكن على المدى البعيد، فإن هذه الأزمة يمكن أن تخلق متنفسا ًلإيران من خلال تراجع اهتمام الدول الغربية بالنزاع من معها، وبالتالي تراجع حماسهم للعقوبات الاقتصادية على إيران، وفي المقابل زيادة الرغبة في التوصل إلى اتفاق مع طهران.

 

 

 

د.سهرة القاسم

خبير مشارك في شئون الأمن الإقليمي. حاصلة على الدكتوراه في تخصص أثر التنافس التركي الإيراني على الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى