حدود تأثير الغزو الروسي لـ “أوكرانيا” على مخزون مصر من القمح

بدأت روسيا يوم الخميس 24 فبراير 2022 عملية عسكرية شاملة في الأراضي الأوكرانية بعد 3 أيام من اعترافها باستقلال منطقتي “دونيتسك” و”لوهانسك” شرقي أوكرانيا، رغم تحذيرات دولية من ردود فعل قوية حال الإقدام على هذه الخطوة، هذا في الوقت الذي يترقب فيه سوق القمح العالمي وسط حالة من القلق ما ستسفر عنه أحداث الأزمة بين البلدين، نظرًا لما تمثله الدولتين من قوة كبيرة في سوق الحبوب العالمي، حيث يستحوذ البلدين على 29% من تجارة القمح العالمية.
واستكمالا لما سبق وبناء عليه، يمكن التأكيد على حدوث ارتفاع سريع في العقود الآجلة لشحنات القمح والذرة بأعلى مستوى تداول إثر هجوم القوات الروسية على أوكرانيا، مما أثار مخاوف عميقة من تأثر الإمدادات العالمي، بفعل ردود الفعل الداخلية على الغزو والانعكاسات المترتبة عليه، حيث زادت أسعار القمح عالميا بنسبة تصل إلى 6% منذ بداية التوترات، ووصل السعر في اليوم الأول للحرب إلى أعلى مستوى له في 9 سنوات.
وتأسيسا على ما سبق، ووفقا لكل سيناريوهات الحرب، نطرح في هذا التحليل عدة تساؤلات تتعلق بمدى تأثر إمدادات مصر من القمح باعتبارها واحدة من الدول التي تعتمد بنسبة كبيرة على استيراد القمح من طرفي الحرب، وبالتالي نستعرض إنتاج واستهلاك مصر من القمح، وجهات واردات احتياجاتها، كذلك الجهود المصرية المبذولة منذ فترة لتأمين المخزون الاستراتيجي من القمح، ومدى تأثرها بتلك التوترات القائمة بين روسيا وأوكرانيا.
إنتاج واستهلاك وواردات مصر من القمح:
بلغ إنتاج القمح في مصر نحو 6.8 لعام 2018\2019 ، وارتفعت تلك الإنتاجية إلى 2.9 عام 2020\2021، بينما يصل إجمالي ما استهلكته مصر من القمح في الموسم الماضي 2020\2021 إلى نحو 18 مليون طن، يتم استيراد نصف حجمه تقريبا من الخارج، إذ تغطي صادرات القمح من كل من روسيا وأوكرانيا ما يقرب من 85٪ من طلب مصر على القمح ، أما النسبة المتبقية فتأتى من دول أخرى مثل فرنسا ورومانيا كما هو موضح بالشكل رقم (1).
شكل رقم (1) جهات واردات مصر من القمح خلال الفترة ( 2014-2021)
وفي عام 2020 كانت مصر أكبر مستهلك للقمح الأوكراني، حيث استوردت أكثر من 3 ملايين طن- أى ما يقرب من 14٪ من إجمالي إنتاج القمح الأوكراني. كما اشترت مصر 8.9 مليون طن قمح من روسيا فى العام ذات، وهو ما يوضح مدى هيمنة روسيا وأوكرانيا على كميات القمح الذي استوردته مصر الموسم الماضي، مع التركيز على أن القمح الروسي، هو المستحوذ على النصيب الأكبر من الواردات المصرية للقمح، فروسيا وحدها تصدر ما يقرب من 80% من مجموع ما تستورده مصر، وأوكرانيا تصدر حوالي 5%.
انعكاسات الحرب على واردات القمح فى مصر:
تتابع مصر عن كثب التوترات المستمرة على طول الحدود بين روسيا وأوكرانيا، وسط مخاوف بشأن توريد القمح إلى السوق المصرية، وعن مدى تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على إمدادات القمح لمصر، نستعرض أولاً أهم العوامل التى قد تحد من تأثير تلك الحرب على المخزون الاستراتيجى من القمح فى مصر، نحددها كالتالي:
(*) احتياطي اسراتيجى آمن: قامت وزارة التموين المصرية بتكوين احتياطي استراتيجي آمن من القمح يكفي أكثر من 5 أشهر، هذا إلى جانب الإنتاج المحلي الذي سيبدأ من منتصف أبريل 2022 ليزيد المخزون الاستراتيجي إلى 9 أشهر، كما ستعمل الحكومة المصرية على تشكيل لجنة في وزارة المالية لدراسة سياسات التحوط، وسيتم استكمال المناقشات مع بداية شهر مارس 2022، بحيث يتم بحث جدوى هذا الإجراء من عدمه لتأمين إمدادات القمح في الأمد المتوسط، علاوة على العمل على التوسع في استخدام العقود المستقبلية لشراء القمح أو غيرها من سلع تموينية، على غرار ما يجري للمواد البترولية لتجنب استمرار ارتفاع أسعار القمح العالمية.
(*) تنويع مصادر الاستيراد: تعمل مصر على تنويع مصادر استيراد القمح ليشمل عدة دول كالولايات المتحدة وفرنسا ورومانيا، فعلى سبيل المثال، تعاقدت الهيئة العامة للسلع التموينية نيابة عن وزارة التموين والتجارة الداخلية من خلال مناقصة عالمية على شراء 300 ألف طن قمح فرنسي وأوكراني وروماني في إطار استراتيجية الوزارة لتعزيز أرصدتها من السلع الأساسية. كما أن هناك تحرك سريع للحكومة المصرية في هذه الأيام لبحث استيراد القمح من 14 دولة أخرى لتنويع واردات القمح حال تصاعد الأزمة بين الدولتين، وأهم تلك الدول: الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، فرنسا، أستراليا، ألمانيا، الأرجنتين، روسيا، أوكرانيا، رومانيا، بولندا، بلغاريا، صربيا، المجر، باراجواى، كازاخستان.
(*) زيادة الرقعة الزراعية المزروعة من القمح ورفع إنتاجيته: زادت الرقعة الزراعية فى مصر لعام 2021 بنحو 250 ألف فدان وتمت زراعة معظمها بمحصول القمح، حيث إن حجم المزروع من محصول القمح الاستراتيجي للعام 2021 يناهز 3.6 مليون فدان مقارنة بنحو3.1 مليون فدان في عام 2018/ 2019. كما أن الدولة لديها قدرات استيعابية في الصوامع تصل إلى 3.8 مليون طن، وتستهدف وزارة الزراعة زيادة إنتاجية القمح فى مصر إلى 14.2 مليون طن خلال عام 2025، مقابل 9.1 مليون طن حاليا. كما تسعي مصر إلى التوسع فى زراعة المحصول فى المشروعات الجديدة، خاصة في منطقة الدلتا وتوشكى وسيناء وغيرهم، وكذلك تحسين سبل الإنتاجية، أفقياً من خلال زيادة المساحات المزروعة، ورأسياً من خلال تحسين جودة التقاوى المنتقاة وإحلال المعتمد منها كبديلة للتقليدية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن متوسط إنتاجية الفدان بفضل زراعة أصناف ذات إنتاجيه عالية ومقاومة للأمراض، وصلت لنحو 20 أردب للفدان بدلا من18 أردب في السابق، كما تم إنشاء صوامع حديثة لتخزين الأقماح توفر نحو15% من الفاقد الذي كان يفقد في التخزين بالشون القديمة.
شكل رقم (2) تطور انتاج القمح فى مصر خلال الفترة (2006-2019)
ورغم هذا الاستعداد المصرى للحفاظ على وضع آمن للاحتياجات من القمح، إلا أن ذلك لا يمنع من احتمالية وقوع بعض الآثار السلبية التي قد تلحق بواردات القمح جراء تلك الحرب، وهو ارتفاع تكاليف استيراد القمح نسبيا مقارنة بالأوضاع قبل الحرب نتيجة ارتفاع أسعاره عالميا، كما أن الدول البدائل للاستيراد منها من المتوقع أن تزيد من فاتورة استيراد مصر للقمح، نظرا للفروق السعرية التي ترجع إلى جودة القمح، وكذلك البُعد الجغرافي مثلا للولايات المتحدة الأمريكية مقارنة بروسيا، حيث تستغرق المسافة بين مصر وروسيا لوصول شحنات القمح 12 يوميا، وتتضاعف هذه المدة بالنسبة لأمريكا إلى نحو 24 يوما .كما أن الأزمة وان كانت تكمن واردات القمح من أوكرانيا باعتبارها الطرف الأضعف الذي يتعرض للهجوم، أما القمح الروسي سيواجه مشكلة أخرى متعلقة بطرق الدفع، حتى وإن كانت روسيا قادرة على الاستمرار في الشحن بشكل طبيعي. فمن المحتمل أن تدفع مصر مقابل القمح بطريقتين، إما «كاش» أو من خلال الاعتمادات المستندية، وهذا يعني أن البنوك المصرية هي المعنية بتحويل النقود لنظيرتها الروسية، ولكن هذه العملية ستواجه عقبات إذا فرضت الولايات المتحدة عقوبات على روسيا وأوقفت تعاملات بعض البنوك الروسية، التي تستقبل تلك التحويلات من مصر.
وتأسيسا على ما سبق، يمكن القول لقد أصبح من الصعوبة ومبكراً وضع توقع دقيق لحدود تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على بأن على الامدادات العالمية من القمح، كذلك واردات مصر منه، خاصة مع عدم وضوح مدى وقع أو حدة العقوبات الاقتصادية الدولية التي سيتم فرضها على روسيا، ومستويات عدم اليقين العالية التى تسود في الوقت الحالي، ولكن ما يمكن الاطمئنان بشأنه هو أن توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي الثاقبة كان لها الفضل في رفع مستوى الأمن الغذائي بمصر، وساهمت بشكل كبير في الحد من الآثار السلبية للأزمات العالمية سواء مناخية أو اقتصادية أو سياسية أو أي أزمات أخرى، حيث تعمل مصر منذ فترة قبل ارتفاع صوت طبول الحرب الروسية – الأوكرانية، على تأمين جزء من احتياجاتها من القمح، ووضع خطط بديلة لجهات الوارادات، وإن كانت التكلفة التى ستتحملها مصر مثلها مثل باقى دول العالم ستكون في ارتفاع أسعار القمح نسبيا على المستوى العالمى، كذلك ارتفاع تكاليف الشحن، لأن ظروف الحرب سترفع تكاليف الشحن والتأمين في ظل ارتفاع المخاطر.