كيف تنعكس زيارة “شولتز” لموسكو على الأزمة الأوكرانية؟

في ظل تصاعد المخاوف الدولية من تصاعد الأزمة الأوكرانية إلى صراع مسلح، خاصة بعد إعلان الولايات المتحدة وبريطانيا إجلاء المواطنين والدبلوماسيين من أوكرانيا، بالتزامن مع صدور تقارير أمريكية تتحدث عن غزو روسي وشيك لأوكرانيا، تعقد الآمال على نتائج زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز إلى موسكو، والتي قد تشكل ولو مجرد نقطة لانطلاق المزيد من الجهود الدبلوماسية للتخفيف من احتدام الأزمة على الأقل، وعدم اللجوء إلى الحل العسكري، أو على الأقل تأجيله.

وعلى هذا، يناقش هذا التحليل ما إذا كان هناك احتمالية لتأثير ألماني على الموقف الروسي بناءا على المصالح المشتركة بينهما، وأيهما سيكون الأقرب للتأثير في الموقف الروسي، هل المصالح مع ألمانيا أم التنافس مع فرنسا؟.

زيارة أولى:

أجرى المستشار الألماني أولاف شولتز الإثنين ١٤ فبراير زيارة إلي كييف تلتها زيارة إلى موسكو في اليوم التالي، لتضاف بذلك حلقة جديدة في سلسلة الجهود الدبلوماسية الأوروبية للحوار مع روسيا، وقد توقع عدد من المحللين بأن زيارة أولاف شولتز سيكون لها معنى ومذاق مختلف عمن سبقوه من الزعماء الأوروبيين، والذين كان آخرهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وفي إطار سعي المستشار الألماني لتخيف حدة الأزمة الأوكرانية سيلجأ إلى آلية المصالح المشتركة وليس الضغط الذي أثبتت التجربة العملية عدم جدواه مع روسيا. وتعتبر الزيارة، هي الأولى للمستشار الألماني الجديد منذ توليه المنصب، بعد موجة من الانتقادات اللاذعة بشأن الدور الباهت لدولة بحجم ألمانيا إزاء مثل هذه القضية الحساسة، رغم تواجد عدد من الملفات العالقة بين البلدين، والتي قد تتأثر حال تزايد التصعيد العسكري.

في الحقيقة، الموقف الألماني من الأزمة الأوكرانية مازال غير واضح ومثار نقاش حتى الآن، في ظل امتناع شولتز عن التأكيد على وقف المشروع حال الغزو الروسي لأوكرانيا، وإعلان الخارجية الألمانية أنها لا تفكر حاليا في سحب الدبلوماسيين الألمان من كييف، ووصفته بأنه ” غير مفيد ” في الوقت الراهن، وذلك رغم تأكيد الخارجية الأمريكية على ثقتها في الموقف الألماني إلى جانب أوكرانيا، وإعلان شولتز نفسه دعمه لها.

وقد يفسر التخبط الألماني في ضوء احتياجاتها لمصادر الطاقة؛ حيث تستورد ألمانيا من روسيا ٤٠٪ من احتياجاتها من النفط، و٥٠٪ من الغاز الطبيعي، لذا تعد ألمانيا ثان أكبر شريك تجاري لروسيا بعد الصين، وستكون أول الخاسرين حال توترت العلاقات الغربية مع روسيا أكثر في الملف الأوكراني. وبذلك تتحول مسألة استيراد الغاز الروسي إلى رهان استراتيجي حال اجتياح روسيا لأوكرانيا، خاصة بعد التهديد الأمريكي بوقف مشروع نورد ستريم ٢ حال حدوث ذلك بعد محادثات جمعت بايدن وشولتزفي السابع من فبراير، غير أن المستشار الألماني لم يذكر خلال تصريحاته نواياه بخصوص المشروع، مما ينم _ وفقا لمحللين روس _ عن خلاف واضح في وجهتي النظر الأمريكية والألمانية بخصوص استمرار المشروع من عدمه حتى الآن.

مصلحة أمريكية:

رغم إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن وقف مشروع خط الغاز حال اعتداء روسيا على أوكرانيا عسكريا تفاعلا مع الأزمة، إلا أن المشروع لم يحظ منذ البداية بقبول الولايات المتحدة، لأنه يتعارض مع مصالحها التي تقتضي تصدير غازها المسال لأوروبا من ناحية، وعدم توسع أفق التعاون الروسي الألماني من ناحية أخرى، باعتباره لا ينسجم مع الطموحات الأمريكية في المنطقة، وفي إطار الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي خصصت لمواجهة روسيا والصين، والتي من المؤكد تخطط واشنطن للاستعانة بحلفائها الغربيين لتنفيذها، وبالتالي قد تشكل العلاقة بين ألمانيا وروسيا خطرا على واشنطن، خاصة وإن تم تحييد ألمانيا في المسائل الدولية، وبالأخص في مجال الطاقة، مما سيؤثر بالسلب على حلف الناتو من الناحية الاقتصادية والسياسية.

كما قد تأتي الأزمة الأوكرانية في الوقت الراهن في صالح الولايات المتحدة، للضغط على أوروبا ومحاولة إبقائها تحت مظلة العباءة الأمريكية؛ فإطلاق تصريحات ساخنة وتقارير تفيد بقرب الغزو الروسي لأوكرانيا، وإجلاء مواطنيها ودبلوماسييها من كييف، من شأنه التأثير على الاقتصاد الأوكراني بعد تراجع الاستثمار وقيمة العملة بالسلب، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية التركي والرئيس الأوكراني نفسه الذي اعتبر تلك التصريحات ” تثير الذعر “، مما سيؤثر سلبا وبالتبعية على الاقتصاد الأوروبي، وبالتالي ربطه أكثر بالاقتصاد العالمي الأمريكي الذي يمول أوروبا بالطاقة بأسعار باهظة، على خلاف أسعار الطاقة الأقل المتوقعة بعد تشغيل خط نورد ستريم ٢، مما سيعطي الأسواق الأوروبية ميزة تنافسية أكثر في مواجهة نظيرتها الأمريكية، الأمر الذي قد يشكل خطوة في طريق الاستقلال الأوروبي، والذي نادى به ماكرون على إثر أزمة الغواصات.

وفي إطار الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة، فقد تكون الأزمة الأوكرانية حاليا وسيلة مضمونة لتطويق روسيا، وبالتالي قد لا تتنازل عن فكرة ضم أوكرانيا للناتو، أو على أقل تقدير إطالة أمد الأزمة، لأنه حال تراجع واشنطن عن ضم أوكرانيا للناتو ستكون فقدت ورقة قوية جدا لحصار روسيا، خاصة بعد أن تملصت من ساحات أخرىقد تكفل لها تحقيق هدفها، مثل الشرق الأوسط، وإن استثنينا منه أفغانستان، فقد يمثل انسحاب واشنطن من أفغانستان ترك روسيا في مواجهة خطر انتشار التنظيمات المتطرفة على حدودها، وهي مسألة شديدة الحساسية بالنسبة لموسكو.

نتائج مأمولة:

هناك فرق بين أهداف زيارة ماكرون وشولتز لموسكو؛ فمن ناحية تاريخية، ألمانيا لا تريد أن تكون جزءا من مواجهة مسلحة ضد روسيا بعد خسارتها أمامها في الحرب العالمية الثانية، وعلى الصعيد الاقتصادي، من مصلحة روسيا وألمانيا معا تشغيل مشروع نورد ستريم ٢، لأن المشروع سيضمن لروسيا ورقة إضافية للتحكم في الطاقة المصدرة إلى أوروبا، كما سيعفيها من دفع مليارات الدولارات إلى دول العبور البري التي يمر منها خط نورد ستريم ١، على اعتبار أن نورد ستريم ٢ سيمر عبر المياه الدولية إلى أوروبا عبر ألمانيا مباشرة، وعلى الجانب الآخر سيمنح الائتلاف الألماني الجديد ثقة الساسة والرأي العام بعد ميركل، بالإضافة إلى دور فعال على الساحة الأوروبية في هذا المجال. على خلاف زيارة ماكرن؛ التي كانت مجرد تأكيد على الدور الفرنسي القيادي في المنطقة بعد توليها رئاسة الاتحاد الأوروبي مطلع يناير الماضي، أضف إلى ذلك رغبت ماكرون في تحقيق صيت داخلي، نظرا لأن فرنسا على أعتاب استحقاق انتخابي في أبريل القادم، يسعى المتنافسون فيه لعلاقات منفتحة على حوار أكبر مع روسيا.

إذن، فزيارة ماكرون نابعة من دوافع فرنسية في الأصل، وإن تخللها بعض المساومات السياسية في  الكواليس، لذا قد لا تكون فرنسا وسيط مقنع بالنسبة لروسيا، ففرنسا وفقا للبعض لا تملك أداة ضغط ولا مصلحة حيوية تجمعها بموسكو، خاصة بعد تمدد النفوذ الروسي في مالي الذي قد يكون له دور في طرد الدبلوماسيين الفرنسيين من مالي، كذلك التواجد العسكري الروسي في أفريقيا الوسطي ومساعدة الحكومة في استعادة بعض المناطق التي سيطر عليها المتمردين، وبالتالي أصبحت فرنسا في موقف الأضعف على الطاولة أمام روسيا. وعلى النقيض تماما الزيارة الألمانية، لأنها تحمل في جعبتها حديث مطول حول مشروع حيوي كنورد ستريم ٢ قد يمثل نقلة في مسار العلاقات الروسية الألمانية، والعلاقات الألمانية الأوروبية عموما. فألمانيا دولة محورية في الحوار الغربي الروسي، وقد تجلى ذلك سابقا عندما نجحت أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية السابقة في جمع روسيا وأوكرانيا على طاولة واحدة تمخض عنها مبادرة النورماندي التي تجمع الدول الثلاث بالإضافة إلى فرنسا.

لذا يتوقع أن تكون مؤشرات زيارة شولتز أكثر إيجابية على الصعيد السياسي والاقتصادي، وهي وجهة النظر التي يرجحها عدد من المسئولين الروس، وقد يشير إلى ذلك إعلان الرئيس الروسي خلال اجتماعه بالمستشار الألماني سحب بعض القوات الموجودة على الحدود مع أوكرانيا، وما أعقبه من تغير في خطاب الرئيس الأمريكي من اللهجة العدائية والتهديد بالعقوبات إلى الحديث عن الحلول الدبلوماسية، رغم عدم التأكد من جدية التراجع الروسي حتى الآن، مع إعلان لندن أنها لا ترى أي دليل على الانسحاب الروسي، ووصفت الموقف الروسي ب ” غير المشجع “.

وفي النهاية يمكن القول، إن السياسة الأوروبية الحالية برمتها ما هي إلا نوع من المماطلة مع الجانب الروسي، ومحاولة إرجاء للأزمة، مؤقتا على الأقل، إلا أن زيارة المستشار الألماني قد تحمل معها رسائل جديدة تنم عن توجه ألماني على أقل تقدير مغاير عن سابقيه في بريطانيا وفرنسا وهولندا وغيرهم، إلا إنه في الوقت ذاته لن يرق إلى حد اقتلاع الخلاف من جذوره، في ظل تمسك موسكو بتنفيذ مطالبها الأمنية، واستمرار التعنت الأمريكي حتى الآن.

وعلى أي حال، لا تملك أي دولة أوروبية حق الرد على الضمانات الأمنية التي تتمسك بها روسيا، والتي ترفضها الولايات المتحدة، ولا حتى ألمانيا نفسها، لكنها _ الزيارة _ قد تمثل نقطة إيجابية يتحرك الغرب في ضوئها فيما بعد لإثناء روسيا عن موقفها من خلال مباحثات إضافية.

وفي أسوء الاحتمالات، إذا أصرت واشنطن على رفضها تقديم أي ضمانات أمنية لروسيا، وإذا ما انصاعت برلين لرغبة واشنطن في وقف المشروع للضغط على موسكو للتراجع عن الغزو، فقد تضطر موسكو لدخول أوكرانيا والتضحية بالمشروع، فهو رغم أهميته الإضافية لروسيا كما ذكرنا، إلا أن وقفه لن يشكل انتقاصا من النفوذ الروسي في ملف تصدير الغاز لأوروبا، وفي هذه الحالة لن تعبأ موسكو بالعقوبات، خاصة وإنها أثبتت عدم جدواها في وقائع مشابهة عند دخولها القرم وجورجيا، وهو ما أكده السفير الروسي في السويد فيكتور تاتارنتسيف، بأن موسكو ” لا تكترث ” للعقوبات، ويؤكده أيضا الممل الروسي من سياسة المماطلة الأوروبية، الذي دفعها إلى إعلان فشل محادثات النورماندي الأخيرة برمتها في تقريب وجهات النظر تجاه التسوية الأوكرانية.

وردة عبد الرازق

باحثة في الشئون الأوروبية و الأمريكية، حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى