ضبابية “بكين”: لماذا تتخوف دول الشرق الأوسط من الصين؟
على خلفية إعلان إدارتي ترامب وبايدن انسحاب القوات من العراق وأفغانستان وتقلص الولايات المتحدة اهتمامها بالشرق الأوسط، تزايدت بشكل تدريجي الآراء والتعليقات حول ضرورة تعميق العلاقات بين الصين ودول الشرق الأوسط، باعتبار الصين، الدولة التي ينظر إليها العالم العربي على أنها المنافس الأقوى للولايات المتحدة على الساحة العالمية.
ورغم أن هناك تصورات ترى أن بكين يجب أن تكون لاعباً مشاركاً ونشطاً في شؤون الشرق الأوسط ومنافساً لأمريكا في المنطقة- إلا أنه لا يمكن إنكار دول الشرق الأوسط لا تزال تفتقر إلى الثقة في الصين، مما يحد من موقفها الإيجابي تجاه التعاون مع الصين إلى حد كبير- وعليه، يحاول هذا التحليل الإجابة عن السؤال، التالي، وهو: على الرغم من أن الولايات المتحدة وحلفائها قد جلبوا كوارث مثل الحروب إلى الشرق الأوسط، فلماذا يتمتعون بنفوذ عالية في الشرق الأوسط في الوقت الذي تفتقر فيه الصين ثقة دول تلك المنطقة لدرجة التخوف منها؟.
دول الشرق الأوسط تتجه شرقًا:
منذ دخول القرن الحادي والعشرين، عززت معظم دول الشرق الأوسط تبادلاتها مع الصين، والأخرى تأمل في إتباع هذا التوجه. ويعتقد الأكاديميون الصينيون بأن السبب الرئيسي في هذا التوجه هو جاذبية التنمية السريعة للصين في الشرق الأوسط، وتسببت الحروب وتدخلات الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى في الشرق الأوسط في كوارث ثقيلة للأنظمة والحكومات والشعوب العربية. فمنذ عام ٢٠٠١، شنت الولايات المتحدة وحلفاؤها الحروب على التوالي في أفغانستان والعراق، وشاركوا بعمق في الحروب في ليبيا وسوريا.
لم تكتف النتيجة بإغراق العراق وأفغانستان وليبيا وسوريا في الفوضى الشديدة التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، بل أدت أيضًا إلى ظهور تنظيم الدولة الإسلامية، وهو منظمة إرهابية عاثت الفوضى في الشرق الأوسط. وبعد استخدام الحرب للإطاحة بصدام حسين وطالبان، لم تضع الولايات المتحدة العراق وأفغانستان على مسار وطني سليم. وفي النهاية تخلت واشنطن عن هذين البلدين الفوضويين وأعلنت انسحاب قواتها، الأمر الذي تسبب بشكل مباشر في التدهور الحاد للوضع الحالي في أفغانستان واندلاع حرب أهلية وشيكة. مما دفع صناع السياسة في المنطقة في إعادة التفكير في علاقاتها الأمنية والاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، بل وشعوب المنطقة أيضا الذين عانوا الكثير هل يفترض أن يكون لبلادهم خيارات دبلوماسية أخرى؟ ومن ناحية أخرى، عندما شنت الولايات المتحدة عمليات عسكرية في الشرق الأوسط، بذلت الصين جهودًا كبيرة لإدارة التنمية الوطنية والتركيز عليها، وحققت إنجازات ذات شهرة عالمية. من عام ٢٠٠٦ إلى عام ٢٠٢٠ ، قفزت نسبة الناتج المحلي الإجمالي للصين والولايات المتحدة من ١٩.٩٪إلى ٧٠.٤٪.
ومن الإنجازات الهائلة في التنمية الاقتصادية، ومحاولات ممارسة سياسة”عدم التدخل في السياسات الداخلية للدول الأخرى” في سياستها الخارجية، إلى جانب تعزيز دبلوماسية الدولة الكبرى ذات الخصائص الاشتراكية الصينية في الشؤون العالمية والجمع بين القوى الصلبة والناعمة، الأمر الذي جذب اهتمام الشعوب العربية بالنفوذ الدولية للصين ونهج التنمية الداخلية المستدام الذي حقق نجاحات ملموسة داخليا وخارجيا.
وفي الوقت نفسه، أطلقت الصين أيضًا مبادرة “الحزام والطريق”، وعلقت مؤسساتها الرسمية والأكاديميون الصينيون، بأنها مبادرة تهدف بشكل أساسي إلى التنمية السلمية والتعاون المربح للجانبين، وتعزيز التبادلات التجارية مع دول الشرق الأوسط.فهل صناع القرار في دول الشرق الأوسط ، الذين يسعون بشكل عاجل إلى طريق التنمية الوطنية لضمان استقرار الوضع الداخلي وأمن النظام، يريدون تعزيز النفوذ الصينية في المنطقة العربية على كافة المستويات؟
ففي سياق مبادرة “الحزام والطريق”، أقامت الصين تعاونًا أوثق مع دول الشرق الأوسط ، بما في ذلك البنية التحتية و 5 G ومشاريع أخرى. وفي الوقت الحاضر ، تعد الصين بالفعل أكبر دولة تجارية للعديد من دول الشرق الأوسط مثل الدول العربية وإيران، وأصبحت بالفعل أكبر مستثمر في الشرق الأوسط.
الشرق الأوسط بين الرغبة في الاستفادة والخوف:
إن تجربة التنمية الملموسة والفعالة للصين، والاستثمار الأجنبي الهائل وقدرات بناء البنية التحتية، والاستعداد الإيجابي لتطوير علاقات أفضل مع الشرق الأوسط كلها واضحة. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن دول الشرق الأوسط لا تزال تفتقر إلى الثقة في الصين، مما يحد من موقفها الإيجابي تجاه التعاون مع الصين إلى حد كبير. فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة وحلفائها قد جلبوا كوارث مثل الحروب إلى الشرق الأوسط، إلا أنهم ما زالوا يتمتعون بنفوذ عالية في الشرق الأوسط.
فهناك ظاهرة شائعة في الشرق الأوسط، هي أن أولئك الذين يوبخون الولايات المتحدة ربما يحاولون إيجاد طريقهم إلى الولايات المتحدة.بالمقارنة مع الدول الغربية المتقدمة مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا، لا تزال الصين، في عقول الشعوب العربية كدولة نامية متأخرة، وفي وضع ضعيف نسبيًا في جاذبيتها لدول الشرق الأوسط.
فالصين ليست أول ما يفكرون في الاعتماد عليه في أوقات الأزمات، علاوة على ذلك، حتى يومنا هذا، لا تزال ما يسمى بمشاكل جودة المنتجات الصينية، وقضية شينجيانغ ونظام الحكم الديكتاتوري، وجائحة كورونا وانتشار ثقافة الطعام الصيني الفاسد”، والتي تم تضخيمها بشكل كبير، وتقيد بشكل خطير التصور الإيجابي للصين بين الشرق الأوسط. كما أن بعض دول الشرق الأوسط لديها بعض الشكوك حول دبلوماسية الصين في الشرق الأوسط. كيف ترى الصين نفسها؟ وهل صناع القرار في المنطقة يريدون تطوير علاقاتهم مع بكين ام أنها تمثل ثقلًا في منافسة القوى العالمية؟
في الواقع، هناك شكوك حول ضباب السياسة الخارجية للصين ونواياها، فعلى الرغم من أن الصين تحتفظ بعلاقات طبيعية أو حتى أفضل مع جميع دول الشرق الأوسط تقريبًا، إلا أن هناك العديد من النقاط المبهمة وغير الواضح في هذه العلاقة.
فبعض الأكاديميون الصينيون ينتقدون العلاقات بين دول الشرق الأوسط المعقدة للغاية والصراعات الخطيرة في بعض القضايا، والتي تقف كمعضلة أمام تفاعل الصين بشكل طبيعي مع كل هذه الدول، فهل هذا يثبت أن هناك نقص في خبرات السياسة الخارجية للصين اتجاه التعامل مع القضايا المعقدة في المنطقة العربية؟
الإضافة إلى ذلك، فإن الضجيج وسوء الفهم للسياسة الخارجية للصين من قبل وسائل الإعلام الدولية جعل بعض الناس في الشرق الأوسط لديهم بعض الشكوك حول النوايا الدبلوماسية للصين في الشرق الأوسط، مما يؤثر أيضًا على التعاون الأفضل بين دول الشرق الأوسط والصين. وأبرز مثال على ذلك، هو معارضة البعض للعلاقات الصينية الإيرانية، واتفاقية التعاون الشامل مع طهران التي مدتها ٢٥ عامًا التي أثارت حفيظة دول الخليج.
متغيرات ومتطلبات:
معضلة السياسة الخارجية الصينية في الشرق الأوسط تتطلب المزيد من الوضوح والتغيرات التي تتلاءم مع وضعها الدولي وحجم استثماراتها في منطقة الشرق الأوسط، سواء كان ذلك بناءً على مصالحها الخاصة أو هويتها الدولية كقوة عظمى، تحتاج الصين إلى إيلاء المزيد من الاهتمام للشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن الدبلوماسية الصينية شهدت بعض التغيرات في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، إلا انه هناك المزيد من العمل الذي يتعين القيام به عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، وذلك على النحو التالي:
(*) أولاً، يجب على الصين إقناع دول الشرق الأوسط بأن دبلوماسيتها في الشرق الأوسط لا تتأثر بأطراف ثالثة. فكما ذكر أعلاه، لا يزال الموقف الدبلوماسي للصين تجاه دول الشرق الأوسط محل شك في الشرق الأوسط. بالنظر إلى دروس التاريخ المؤلمة، تشعر دول الشرق الأوسط بقلق بالغ من أنها ستصبح بيادق في لعبة القوى العالمية. لذا، على الصين أن تسعى جاهدة لإزالة هذا القلق.
(*) ثانيًا، يجب على الصين تحسين دبلوماسيتها مع دول الشرق الأوسط، منن خلال فهم أكثر تفصيلاً للمنطقة، وخاصة القضايا المعقدة والمختلفة للمنطقة غالبا ما يكون لديها احتياجات مختلفة لتطوير العلاقات مع الصين. كما يجب على بكين أن تمارس دبلوماسية أكثر استهدافًا مع دول مختلفة في الشرق الأوسط.
(*) ثالثًا، يتعين على الصين زيادة تعزيز جهودها الدبلوماسية مع الدول الرئيسية في الشرق الأوسط. فقد شكلت دول الشرق الأوسط معسكرات مختلفة حول العديد من القوى الكبرى في المنطقة، وفي هذه الحالة يجب على الصين أن تولي مزيدًا من الاهتمام لدول الشرق الأوسط مثل تركيا وإيران وإسرائيل والمملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة.
(*) رابعًا، تحتاج الصين بشكل عاجل إلى شحذ دبلوماسيتها في الشرق الأوسط، فالوضع في المنطقة يتغير باستمرار، وعند إجراء الدبلوماسية مع دول الشرق الأوسط، يجب ألا تدع التفكير الدبلوماسي القديم في الشرق الأوسط يعيق الاستجابة الأكثر ملائمة للوضع الحالي، حتى، عند الضرورة، يمكن للقادة الصينيين أو كبار المسئولين زيارة دولة معينة بمفردهم، بدلاً من الاضطرار إلى زيارة عدة دول ذات مصالح متضاربة في كل مرة يسافرون فيها إلى الشرق الأوسط لإثبات موضوعتيهم وحيادهم.
بشكل عام، دول الشرق الأوسط على استعداد للتواصل مع الصين، لكنها ما زالت تأمل حتى الآن في إقامة اتصالات وثيقة مع القوى الأوروبية والأمريكية. بالإضافة إلى مواصلة جهودها لتطوير نفسها، تحتاج الصين أيضًا إلى زيادة جاذبيتها لدول الشرق الأوسط بطريقة أكثر ملائمة وفعالية. فعلى الرغم من أن الصين أبدت اهتمامًا بالمشاركة بنشاط أكبر في تنمية الشرق الأوسط، إلا أن الصين لا تزال تفتقر إلى القوة والوسائل لممارسة النفوذ في الشرق الأوسط. ناهيك عن أن الصين ترى أنه ليس من المنطقي تكثيف مشاركتها في شؤون الشرق الأوسط أكثر من اللازم في الوقت الحالي. ففي المستقبل المنظور، من غير المرجح أن تتحدى الصين موقف أمريكا في الشرق الأوسط. لأنه عندما نفذت الصين دبلوماسيتها في الشرق الأوسط، ركزت على التنمية السلمية والتعاون المربح للجانبين، والذي يختلف اختلافًا كبيرًا عن أهداف سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.