اختبار كاشف: هل انتهى الإسلام السياسي في المغرب؟
د. إدريس الكنبوري- خبير مغربي في الحركات الإسلامية
حرص العاهل المغربي محمد السادس، منذ توليه الحكم خلفا لوالده الحسن الثاني في يوليو من عام 1999، على أن يتم إجراء المحطات الانتخابية بشكل منتظم وفي مواعيدها كل خمس سنوات، لما يشكله ذلك من مظاهر للاستقرار في النظام السياسي، وعلى أن تخلو من الطعن في النتائج الانتخابية من طرف القوى الحزبية، لما يمثله ذلك من تشكيك في مصداقية النظام السياسي في تعاطيه مع الشأن العام. ومنذ انتخابات عام 2002، الأولى في عهده، حرص على أن يكون هناك نوع من الانفتاح السياسي رغم وجود البلد في محيط مضطرب، خصوصا ناحية الإسلاميين، الذين كان يُنظر إليهم في بلدان المنطقة المغاربية بكثير من التوجس والحذر، بسبب الخلفية الأيديولوجية.
وهكذا جرت لأول مرة، وبشكل غير مسبوق، ثلاث انتخابات في يوم واحد هو الثامن من سبتمبر/ أيلول، هي التشريعية التي همت البرلمان بمجلسيه، والجهوية، والمحلية، انطلاقا من حرص الدولة على إجراء الانتخابات في مواعيدها الدستورية، خصوصا وأنها هذه المرة جرت في مناخ سياسي مختلف، يتميز بالشروع في تنزيل “النموذج التنموي الجديد” الذي كان الملك قد دعا إلى وضعه العام الماضي، وشكل لجنة ملكية خاصة أشرفت على إجراء عشرات المقابلات والاجتماعية مع الفاعلين السياسيين والنقابيين والجمعويين والشباب عبر مختلف ربوع المملكة، من أجل صياغة مشروع وطني للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وكان من بين أهداف الانتخابات إفراز الحكومة التي ستشرف على تنزيل ومواكبة هذا الورش الملكي.
اختبار كاشف:
ويبدو أن الدولة قررت من خلال هذه الانتخابات إعادة هيكلة المشهد السياسي من جديد، بعد المرحلة الانتقالية التي أفرزتها حقبة الربيع العربي، حيث وضعت قانون انتخابيا جديدا يعتمد قاسما انتخابيا يحتسب المقاعد على أساس المسجلين على اللوائح الانتخابية، وليس على أساس الناخبين كما جرت العادة في المحطات الانتخابية السابقة. وفيما رحبت مختلف الأحزاب السياسي بالقاسم الانتخابي، كونه يعطيها فرصة أكبر للفوز، خاصة بالنسبة للأحزاب الصغيرة، انتقده حزب العدالة والتنمية واعتبر نفسه المستهدف الرئيسي منه، للحد من نفوذه الانتخابي والحيلولة دون تكرار سيناريو ما حصل عامي 2011 و 2016.
دخل حزب العدالة والتنمية غمار هذه الانتخابات رافعا شعار “المصداقية والديمقراطية والتنمية” في حملته الانتخابية التي مرت في أجواء باهتة بسبب وباء كورونا، بينما أعلن أن برنامجه “يهدف إلى إقرار نظام الحكم ومتابعة الإصلاحات الهيكلية ذات الصلة”. وفي حين كان الكثيرون داخل الحزب يتكهنون بهزيمته في تلك الانتخابات، لم يكن أحد حتى من خارج الحزب يتوقع أن تكون هزيمة كبيرة الحجم بمثل ما حصل، إذا كانت التوقعات تشير إلى أنه قد يحتل الرتبة الثانية أو الثالثة على أبعد تقدير، نظرا لوزنه السياسي، وصموده في انتخابات 2016، رغم السلبيات التي طبعت تدبيره للحكومة بعد انتخابات 2011، وقيادته للحكومة مرتين متتاليتين، الأمر الذي لم يسبق لأي حزب سياسي مغربي عبر تاريخ البلاد، وسيطرته شبه الكاملة في الانتخابات المحلية لعام 2015.
أظهرت النتائج أن الحزب لم يفز سوى بأربعة مقاعد في الدوائر الانتخابية البرلمانية، بينما فاز بتسعة مقاعد بفضل الكوتا النسائية، في أكبر هزيمة انتخابية يمنى بها حزب مغربي منذ أول انتخابات نظمت في البلاد عام 1963، وحاز حزب التجمع الوطني للأحرار، الليبرالي، على الرتبة الأولى بحصوله على 102 مقعدا، يليه حزب الأصالة والمعاصرة، وحزب الاستقلال، بينما احتل حزب العدالة والتنمية الرتبة الثامنة.
شكلت تلك الهزيمة ضربة قوية للحزب، الذي كان إلى الأمس القريب الحزب الأول في البلاد، والقوة السياسية الأولى في المشهد السياسي خلال العشرية الماضية، والحزب الأكثر تنظيما في المغرب. وفور بداية تسرب النتائج، ليلة التاسع من سبتمبر، قدمت الأمانة العامة للحزب، أعلى هيئة تقريرية بعد المؤتمرـ استقالتها الجماعية، وأصدرت بيانا قالت فيه إن نتيجة الانتخابات “غير مفهومة وغير منطقية”، ومنحت مهلة سنة للإعداد للمؤتمر الوطني للحزب من أجل فرز قيادة جديدة.
لقد بدا واضحا أن الحزب تلقى ضربة موجعة لم يكن يتوقعها على الإطلاق، إذ لم يستسغ تراجعه بشكل مفاجئ من المرتبة الأولى إلى الثامنة خلال خمس سنوات فقط من قيادته للحكومة الثانية. بيد أن ما حصل يجد تفسيره في السياسات الاجتماعية التي نهجها الحزب خلال ولايته الحكومية الأخيرة، وغياب القدرة التواصلية مع الشارع، والحملة الانتخابية الضعيفة التي قام بها بسبب تبعات وباء كورونا، فيما حزب التجمع الوطني نزل بكل ثقله في الحملة، مستغلا جميع الإمكانيات ووسائل التواصل الاجتماعي بمختلف مستوياتها، وهو ما أهله للفوز بالمرتبة الأولى، مستفيدا من التصويت العقابي ضد حزب العدالة والتنمية، وارتفاع نسبة المشاركة التي لم تكن في صالح الإسلاميين، الذين كانوا يستفيدون من وعاء انتخابي شبه مستقر، تآكل بسبب قيادته لحكومتين متتاليتين.
بيد أن عبد الإله بنكيران حاول تجيير الفشل لصالحه، بهدف العودة بقوة إلى قيادة الحزب من موقع قوة، كبديل عن سعد الدين العثماني الذي ألصقت به جميع أسباب الفشل، باعتباره – أي بنكيران – الرجل الوحيد الذي يستطيع بما يتمتع به من كاريزما إخراج الحزب من عنق الزجاجة واستعادة شعبيته المفقودة. وغداة النتائج الانتخابية، خرج بنكيران في شريط فيديو ينتقد العثماني والأمانة العامة المستقيلة، ويقلل من وقع الهزيمة الانتخابية، على أساس أن “هذه هي الديمقراطية” كما قال، ويرفض مهلة سنة كاملة للإعداد للمؤتمر؛ ذلك أنه فهم من ذلك التأجيل إبعاده عن القيادة وتقليل فرصه في الوصول إلى رئاسة الحزب.
سعى بنكيران، من خلال كلمته تلك وبدهائه السياسي مستغلا شعبيته داخل الحزب، الحيلولة دون أي صدام مع الدولة، بعد أن بات الحزب على قناعة داخلية بأن هناك مؤامرة وراء تلك النتائج التي لا يمكن أن تكون بريئة، كما لا يمكن لصناديق الاقتراع أن تصل إلى ذلك الحد من “العقاب السياسي”. وقد أراد بنكيران أن لا يذهب التفسير إلى ذلك الحد من التأويل، داعيا إلى الانضباط والاستمرار في “خدمة الدولة”. وبعد بضعة أسابيع عقد الحزب مؤتمرا استثنائيا، وانتخب بنكيران بأغلبية كاسحة رئيسا له في أكتوبر الماضي.
غير أن قرائن عدة تشير إلى عدم إمكانية النهوض بالحزب مجددا، بالرغم من عودة بنكيران بخطابه الشعبوي وقدرته على المناورة السياسية، ذلك أن الحزب أضاع الكثير من شعبيته خلال ولايتين حكوميتين، بسبب السياسات اللاشعبية التي نهجها، وتكريسه للزبونية والعصبوية والنزعة الإخوانية، والتفريط في الشعارات والمبادئ التي كان يرفعها وهو في المعارضة. وبالرغم من أن بنكيران لا يزال يملك الحظوة داخل الحزب، إلا أن شعبيته في الشارع تراجعت بشكل كبير، بسبب استهدافه للقدرة الشرائية للمواطن خلال رئاسته للحكومية بين 2012-2016، واستفادته من تعويضات شهرية من الدولة “دون عمل”، وهو الذي رفع شعار”الأجر مقابل العمل” عندما قرر الاقتطاع من أجوار العاملين والموظفين الذين شاركوا في الإضرابات خلال ترؤسه للحكومة عام 2015.
وعلاوة على هذا، فإن استمرار بنكيران في قيادة الحزب، وهو الذي قاد حركة التوحيد والإصلاح منذ بداية الثمانينات، يشير إلى أن الحزب يعيش أزمة قيادات قادرة على التعاطي مع المرحلة السياسية، الأمر الذي يفرض الحاجة إلى بنكيران، رغم تداعي شعبيته.
الأسلوب الديمقراطي بديلا:
منذ أول مشاركة له في العملية السياسية، عام 1997، تمكن حزب العدالة والتنمية من تحقيق نمو مضطرد مع كل عملية انتخابية، بشكل تصاعدي، فقد انتقل من تسعة مقاعد في البرلمان عام 1997 إلى 42 مقعدا في انتخابات 2002 ليصبح القوة السياسية الثالثة، ثم 49 مقعدا في انتخابات 2007 ليصبح القوة السياسية الثانية، إلى أن أصبح القوة السياسية الأولى في انتخابات 2011 بحصوله على 105 مقاعد، وحافظ على موقعه في انتخابات 2016 بحصوله على 125 مقعدا.
هذا التصاعد كان من الطبيعي أن يشكل مصدر إزعاج للدولة وللهيئات السياسية في المغرب، التي رأت أن الاستثناء الذي منحه الربيع العربي للإسلاميين سرعان ما تحول إلى قاعدة أربكت شئون البلاد المجاورة وأدت إلى تفاقم مشكلاتها، لذلك كان لا بد من تلافي سيناريو تركي جديد بحصول الحزب على انتصار انتخابي للمرة الثالثة، وذلك عبر صناديق الاقتراع -حقل المواجهة الصامتة- بدل الصدام، في بلد يتميز بخصوصية فريدة، بسبب الموقع المركزي للمؤسسة الملكية، ومركزية إمارة المؤمنين، كآلية لتدبير الشأن الديني بعيدا عن الإسلاميين.
بيد أن المغرب لم ينحز إلى أي من السيناريوهات التي كانت مطروحة، بل انحاز إلى الخيار الديمقراطي بوصفه واحدا من الاحتمالات الممكنة لتقليم أظافر الإسلام السياسي وتحجيمه، خصوصا وأن شعبة هذا الأخير تعرضت للتآكل بسبب التدبير الحكومي السيء الذي جر على الحزب انتقادات شعبية واسعة من لدن مختلف الأطراف، وبوجه خاص في الشق الاجتماعي، وهو ما جعل المؤسسة الملكية تنخرط بقوة من خلال تعيين لجنة خاصة لصياغة “النموذج التنموي الجديد” في العام الماضي، من أجل استدراك الوضع وتدارك الكارثة الاجتماعية.
نهاية الإسلام السياسي:
لم يكن سقوط حزب العدالة والتنمية المغربي، الذي ظل يتحجج بمرجعيته الإسلامية، سقوطا لتنظيم سياسي ملأ الدنيا وشغل الناس لعشرية كاملة من التاريخ الحزبي الحديث في المغرب، بقدر ما كان انهيارا لنموذج بكامله، هو نموذج الإسلام السياسي.
والواقع أن عشر سنوات بعد مضي ما يسمى بالربيع العربي أظهرت أن هذا النموذج ليست لديه القابلية للحياة على المدى الطويل، كما كان الكثيرون يعتقدون. ومثله مثل النموذج الماركسي العربي الذي ساد ثم باد، أظهر فشل نموذج الإسلام السياسي أن النزعات الأيديولوجية آيلة إلى الزوال، وأن الحزب الأيديولوجي مهما تضخم فلمرض فيه لا لعافية لديه.
ويمكن القول بأن ما حصل لتيارات الإسلام السياسي في عدد من البلدان العربية بات مرشحا لكي يشجع على مناهج جديدة ومفاهيم تفسيرية مغايرة لتلك التي هيمنت على حقل دراسات الإسلام السياسي في العالم العربي منذ الستينات إلى ما قبل عشر سنوات، تلك المفاهيم التي كانت ترى أن في الإسلام عناصر الديمومة وأنه المنافس الرئيسي للأحزاب السياسية القائمة وقادر على خلق البديل وأن الشعوب العربية لديها الاستعداد لاحتضانه، لمجرد أنها شعوب مسلمة، وهي كلها مفاهيم وعناصر تفسيرية ساهمت مراكز البحوث الغربية بشكل كبير في ترويجها، وأعاد الباحث العربي طحنها.
لقد أظهرت التجربة مع الإسلام السياسي في المغرب أن الممارسة السياسية ميدانيا تنزع من الفاعل الإسلامي تلك العذرية والطهرانية اللتين تشكلان عصب قوته وهو خارج الحكم، وأن الديمقراطية كفيلة بتقزيم حجمه لأن الممارسة تضعه وجها لوجه مع مطالب الناس وطموحاتهم اليومية. وفي عصر يحفل بالتحديات على أكثر من صعيد، لا يبدو الإسلام السياسي في مستوى التجاوب مع حاجيات الجماهير التي تتزايد يوما بعد آخر ومع متطلبات التعايش العالمي، بعد أن صار تدبير السياسة المحلية متداخلا مع تدبير العلاقات الدولية وصارت سياسات الخارج تؤثر بشكل كبير في السياسات الداخلية للدول.
المغرب اختار منذ النصف الأول من التسعينات، في الوقت الذي كانت فيه الجزائر القريبة تعيش حربا داخلية بين المتطرفين والنظام الحاكم، أن يدمج الفاعل الإسلامي في البنية السياسية، بدل أن يمنحه فرصة التضخم بوجوده على الهامش.
إحدى الأساطير الكبرى التي سقطت في هذه الانتخابات هي أن التيار الإسلامي يتمتع بقاعدة ناخبة ثابتة ومستقرة، وهي أسطورة انتشرت على نطاق واسع بين المحللين في الداخل والخارج منذ العام 2011. فقد كان يقال إن الحزب لديه رصيد انتخابي لا ينضب، وفي الوقت الذي كانت فيه شعبية الأحزاب التقليدية الكبرى في البلاد تتراجع، وهي ظاهرة ملحوظة حتى في الديمقراطيات الغربية العريقة، كان الإسلاميون يعتقدون بأن شعبيتهم لا يمكن أن تتأثر، لأن قاعدتهم الناخبة تثير الاطمئنان. بيد أن ما حصل عشية الثامن من سبتمبر الجاري شكل صدمة قوية لهم، حيث أبانت النتائج أنه لا وجود لتلك القاعدة، وأن الناخب كائن متطلب يدور مع مصالحه المعيشيّة طردا وعكسا، ولا يمكن خداعه فوق ولايتين.
وقد دلت القرائن، منذ انتخابات 2002 بالمغرب، على أن العزوف السياسي عن المشاركة في الاقتراع يصب في صالح الإسلاميين، وعلى أن المقاطعة تخدم التيار الإسلامي بينما ارتفاع حجم المشاركة يضعف رصيده الانتخابي. وبمقارنة نسبة المشاركة في انتخابات 2016، حيث فاز الإسلاميون بـ125 مقعدا في البرلمان، بنسبتها في الانتخابات الأخيرة التي فازوا فيها بثلاثة عشر مقعدا، يكون حجم المشاركة قد أثر بشكل قوي في النتائج المتحصل عليها. وإذا أردنا تحليل هذا المعطى علميا جاز لنا القول بأن ارتفاع منسوب الوعي السياسي هو العدو الأكبر للإسلام السياسي.
تشكل التجربة المغربية بحق نموذجا فريدا في التعاطي مع ظاهرة الإسلام السياسي، فقد اختار المغرب منذ النصف الأول من التسعينات، في الوقت الذي كانت فيه الجزائر القريبة تعيش حربا داخلية بين المتطرفين والنظام الحاكم، أن يدمج الفاعل الإسلامي في البنية السياسية، بدل أن يمنحه فرصة التضخم بوجوده على الهامش. فقد أدرك المغرب أن هناك طريقتين في الصدام مع التيار الإسلامي، إما الصدام مع الدولة أو الصدام مع الناخب، أي مع المنهجية الديمقراطية، وقد اختار المغرب الحل الثاني. ذلك أن الذين يوجدون خارج اللعبة السياسية دائما يتقنون فن الاحتجاج، متهمين الدولة بتهميشهم وعدم إتاحة الفرصة لهم في العمل السياسي، أما بعد أن يدخلوها ويصبحوا جزءا منها فإنهم يصبحون أمام مهمة مختلفة، وهي الحجاج من أجل إقناع الناخب.
يمكن التأكيد على أن الدولة في المغرب وصلت إلى مرحلة باتت تعتبر فيها الإسلاميين عنصر قلق أو اضطراب، فهي لا تريد القضاء عليهم وفي نفس الوقت لا تريد أن يكون لهم الحجم الذي يستحقونه. ولكون النظام السياسي في البلاد يستمد مشروعيته من الإسلام، فإنه يحتاج إلى الإسلاميين ليشكلوا قوة مقابلة للتيار العلماني والفرانكوفوني، تحقيقا للتوازن السياسي، كما يحتاج إلى هذا الأخير لمناكفة الإسلاميين وتحجيم نفوذهم، وهو ما يتجاوب مع أطروحة “الانقسامية” التي يقول بها بعض الباحثين الأنثروبولوجيين الأجانب وعلى رأسهم إرنست غيلنر، في توصيف الوضعية السياسية والثقافية بالمغرب.