مسار المحادثات الاستكشافية بين “مصر” و”تركيا” في 2022
بعد التحولات الدولية والإقليمية التي طرأت على الساحة السياسية منذ مطلع عام ٢٠٢١ والتي كان أبرزها الانتخابات الأمريكية ووصول جوبايدن للسلطة، ومن بعده المصالحة الخليجية، والتي انعكست بالطبع على سياسة إعادة التموضع في المنطقة بأكملها، فقد شهدت الأشهر الأخيرة لقاءات واتصالات مكثفة على عدة مستويات من جانب مصر وتركيا، وكان آخرها المحادثات الاستكشافية التي تم عقدها في القاهرة وأنقرة على مستوى نائبي وزارة الخارجية، والتي لم تفض إلى مخرجات أو نتائج ملحوظة أو معلنة تنبئ بنجاح مساعي التطبيع أو فشلها، في ظل امتناع الطرفين عن التحدث بشكل واضح حول محتواها ونتائجها.
يذكر أن العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وأنقرة مستمرة على مستوى القائم بالأعمال منذ ٢٠١٣، فيما تواصل القنصلية المصرية بإسطنبول والقنصلية التركية بالإسكندرية أعمالها.
وتأسيسا على ذلك، يستعرض هذا التحليل أبرز المحطات والمؤشرات الإيجابية الواضحة في مسار استعادة العلاقات بين القاهرة وأنقرة، مع طرح مجموعة من السيناريوهات حول مستقبل العلاقات المصرية التركية في عام 2022، مع توضيح المبررات التي يستند إليها كل سيناريو.
إشارات إيجابية:
مرت محاولة استعادة العلاقات المصرية التركية في الشهور الأخيرة بعدة مراحل، كان أبرزها:
(*) كانت البداية من فتح قنوات للتواصل بين البلدين من خلال أجهزة الاستخبارات، فقد أكد المسئولون الأتراك أكثر من مرة على وجود تواصل وتنسيق استخباراتي مستمر بين البلدين، وعلي سبيل المثال فقد أعلن وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو أن ” التواصل مع مصر على الصعيد الاستخباراتي مستمر لتعزيز العلاقات، والحوار قائم على مستوى وزارتي الخارجية “، وقد يكون التواصل الاستخباراتي، هو ما مهد لمراحل أخرى متقدمة في مسار المحادثات الاستكشافية.
(*) ثم الاتفاق على مستوى وزارتي خارجية البلدين على ” تجنب الإضرار ببعضهما البعض في المنابر الدولية “، ويتضح ذلك من خلال خطوة القاهرة التي راعت فيها مصالح أنقرة في شرق المتوسط، حيث كانت مصر قد أعلنت في ١٨ فبراير ٢٠٢١ عن مزايدة للتنقيب عن الغاز والنفط في ٢٤ منطقة، بعضها في البحر المتوسط، راعت فيها الجرف القاري التركي، الأمر الذي أشادت به أنقرة لاحقا، واعتبرته احتراما لحقوقها ومصالحها.
(*) تصريحات وردود فعل إيجابية، حيث أعلن وزير الخارجية التركي عن بداية ” صفحة جديدة ” في العلاقات بين أنقرة والقاهرة، كما أشار إلى إمكانية ترسيم الحدود البحرية مع مصر، تلاها إشادة من وزير الإعلام المصري السابق أسامة هيكل بقرارات وتوجهات الحكومة التركية في الفترة الأخيرة مع القاهرة، ووصفها بأنها ” بادرة طيبة “، ثم تأكيد وزير الخارجية المصري سامح شكري أن القاهرة حريصة على إقامة علاقات وفقا للقانون الدولي، وخلق حوار مع أنقرة يصب في مصلحة الطرفين، كما أشاد رئيس الوزراء المصري مصطفي مدبولي برئاسة تركيا لمجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية (D _ 8)، كما أعلنت شركة (IGA)المشغلة لمطار إسطنبول الدولي أن الخطوط الجوية المصرية زادت عدد رحلاتها الأسبوعية إلى إسطنبول من ١٤ إلى ٢١ رحلة، كما أشارت إلى إجراء رحلات طيران متبادلة بين مطاري القاهرة وإسطنبول.
(*) إجراءات خطب ود وإظهار لحسن نوايا، مثل تخفيف حدة الحملات الإعلامية وتأطير عمل القنوات الفضائية التابعة لجماعة الإخوان الموجودة على الأراضي التركية، حيث بادرت أنقرة لخطب ود القاهرة بإقصاء وإيقاف بعض البرامج والشخصيات الإعلامية التابعة لجماعة الإخوان الإرهابية الموجودة في إسطنبول، والتي تعد واحدة من أخطر مهددات الأمن القومي ليس المصري فقط بل العربي أيضاً.
(*) وبعد ذلك فتح قنوات دبلوماسية عبر وزارتي الخارجية، تلتها لقاءات وحوارات في القاهرة وأنقرة، وما تخلل هذه الفترة من اتصالات دبلوماسية، حيث قد تم عقد أكثر من لقاء على مدار الشهور الماضية، مثلما حدث في السفارة المصرية والتركية بالجزائر، وصدرت بعدها عدة تصريحات إيجابية سواء من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أو من وزير خارجيته مولود تشاووش أوغلو- تشير إلى الرغبة في استعادة العلاقات. وقد تمخض عن كل ذلك في النهاية جولتان من المفاوضات، عقدت الأولى في القاهرة في مطلع مايو الماضي، وبعد أن رجحت التحليلات توقف المفاوضات عند هذا الحد، تلتها بعد عدة أشهر الجولة الثانية في سبتمبر الماضي، وتأكيد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على أن المحادثات بين الجانبين ستستمر.
ملامح العلاقات المحتملة بين الطرفين في 2022:
النظر إلى نتائج المحادثات الاستكشافية والتصريحات المتبادلة من قبل المسئولين المصريين والأتراك يقودنا إلي أن مستقبل العلاقات بين البلدين سيتحدد وفقا لأحد السيناريوهات الآتية:
(&) الأول؛ توقف جهود التطبيع عند هذا الحد: فقد تكون المؤشرات الإيجابية التي سبق ذكرها هي أقصي ما ستسفر عنه المحادثات الاستكشافية طوال الشهور الماضية، لأن وجهات نظر القاهرة وأنقرة تختلف بشأن ملفات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وغيرها، كما أنه يصعب توقيع اتفاقية ترسيم للحدود بينهما _ حتى وإن كان يصب في مصلحة الطرفين _ لأن ذلك قد يضع القاهرة في موقف خلاف مع دول منتدى شرق المتوسط المعادي لتركيا حول مشروع خط أنابيب غاز شرق المتوسط وغيره، والذي يضم الإمارات واليونان وإسرائيل، كما أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي وقعتها مصر مع اليونان تتعارض مع الرؤية التركية التي انعكست في مذكرتي التفاهم الموقعتين مع حكومة الوفاق الليبية السابقة، هذا فضلا عن الموقف المصري المعارض لتواجد القوات التركية في ليبيا، الذي يتضح من خلال تصريح وزير الخارجية المصري في مؤتمر جامعة الدول العربية ٢٠٢٠، والذي دعا من خلاله إلى اتخاذ إجراءات عربية صارمة ضد الإجراءات التركية في ليبيا وسوريا والعراق.
(&) الثاني؛ نجاح مساعي تطبيع العلاقات: وهو الأقرب، فقد تكون جولتا المحادثات الاستكشافية ما هي إلا بداية لخطوات أكثر تقدما في إطار مساعي تطبيع العلاقات بين مصر وأنقرة، وقد يتم توسيع التمثيل الدبلوماسي وتبادل الزيارات على مستوى وزراء الخارجية في الفترة القادمة، وقد يكون السبب في ذلك مجموعة من المصالح والدوافع، أهمها؛ فعلى الجاني التركي؛ قد يكون من مصلحته عودة العلاقات مع مصر خلال عام 2022، خاصة في ظل احتمالات تراجع مستوى اهتمامات تركيا بالقضايا ببعض الخلافية الإقليمية، واحتمالات انكفاء أردوغان بمشاكل الداخل بعد الأزمات الاقتصادية التي تتعرض لها بلاده، وما يدلل على هذا، هو رؤية الناطق باسم العدالة والتنمية عمر جليك، الذي أكد على أن الوضع الجديد في شرق المتوسط يحتم استعادة العلاقات مع مصر، لأن الأمر لم يعد متعلق بالتنقيب عن الغاز فقط، خاصة بعد إرسال بعض الدول سفنها الحربية إلى المنطقة بعد الأزمة السورية والليبية، مما يستوجب زيادة الحوار مع دول المتوسط، وعلى رأسها مصر، كما سيضمن التطبيع مع القاهرة لأنقرة مكاسب في شرق المتوسط في حالة الاضطرار لإلغاء مذكرتي التفاهم مع الحكومة الليبية حال إجراء انتخابات، كما ستستفيد من علاقاتها الجيدة بمصر في تمتين علاقاتها بالدول الخليجية أكثر، وبعد استنفاذ الموارد التركية بعد استخدام القوة الصلبة خلال العامين الماضيين بشكل كبير، فالعدول عن تلك السياسة إلى سياسة التفاهمات مع مصر سيحفظ لأنقرة مصالحها في شرق المتوسط وبأقل تكاليف ممكنة، وكل ذلك في الأخير في إطار حسابات أردوغان للانتخابات القادمة في ٢٠٢٣.
وقد يكون السبب في ذلك هو فقدان الزخم لقضايا خلافية، مثل التواجد التركي في سوريا بعد نجاح بشار الأسد في الانتخابات، وبالتالي فقدان حساسيتها وأولويتها على طاولة المفاوضات التركية المصرية، وملف الإخوان الإرهابية في تركيا بعد تحجيم قنواتها التي تبث سموم على مصر، فضلا عن الملف الليبي الذي ستتغير ترتيباته بعد إجراء الانتخابات.
ولكن حتى وإن كان هذا السيناريو هو المرجح أكثر، إلا أن التطبيع سيسير بخطى متباطئة، نظرا لعدم التفاهم النهائي حول جميع القضايا الخلافية من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن السياسة الخارجية المصرية والتركية تتسم بالثبات والاستمرارية والتحولات النادرة والتدريجية.
محصلة التحليل؛ فقد حقق الطرفين تقدما ملحوظا إلى حد ما بعد سنوات من القطيعة، ومن المنتظر _ إذا سارت الأمور على ما يرام _ أن يرتقي التمثيل الدبلوماسي والزيارات إلى مستوى أعلي، غير أن ذلك لا يعنى أن العلاقات ستكون خالية من المشاكل أو التحديات، أو أن تتم استعادة العلاقات بوتيرة سريعة، وإنما بشكل تدريجي، وهذا في حد ذاته يعنى أن المواقف المتعارضة بينهم لم تعرقل القدرة على التوصل إلى تفاهمات مرضية للطرفين، خاصة بعد استعادة العلاقات التركية الخليجية، والفترة المقبلة كفيلة بإزالة الستار عما ستسفر عن التطورات الجديدة والتي سترجح كفة أحد السيناريوهات السابقة في هذا الملف.