هل تنجح “أنقرة” في لعب دور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا؟

قبل أيام جددت تركيا على لسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استعداد أنقرة للوساطة بين روسيا وأوكرانيا لوضع حد للتوتر الدائر بينهما على الحدود، والذي تجدد مرة أخرى بين موسكو وكييف على خلفية الحشد المتواصل للقوات العسكرية الروسية على الحدود مع أوكرانيا، والذي اعتبرته روسيا رد فعل طبيعي بعد نشر الناتو لقواته بالقرب منها.
واستنادا إلى ما تقدم تتزايد التكهنات باحتمالية التصعيد العسكري بين البلدين، خاصة مع دخول حلف الناتو وعلى رأسه الولايات المتحدة على خط الأزمة، واتهامه لروسيا بالاستعداد لغزو أوكرانيا، الأمر الذي نفته موسكو، وتوعد روسيا بالعقوبات حال الاعتداء على أوكرانيا.
وبناءا على ذلك؛ يستعرض هذا التحليل المحاولات الحثيثة من قبل أنقرة للتوسط في الأزمة بين موسكو وكييف، ومصلحتها في ذلك، مع توضيح موقفها من الأزمة وما إذا كانت ستنحاز إلى أحد طرفي النزاع، وتداعيات ذلك على علاقاتها بالطرف الآخر.
وساطة تركية:
في إطار التوتر والترقب الدائر على الحدود الروسية الأوكرانية، واتهام حلف الناتو وأوكرانيا بحشد قواتها على الحدود واستعدادها لاجتياح أوكرانيا، هذا فضلا عن صدور تقرير للمخابرات الأوكرانية تداولته وسائل إعلام غربية عن عزم روسيا اجتياح أوكرانيا في نهاية يناير القادم، وذلك بعد استعدادها على الحدود بجيش قوامه أكثر من تسعين ألف جنديا، وقابل هذه الاتهامات نفي روسي، واتهم وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، الناتو بأنه من بدأ بتأجيج الوضع على حدود روسيا الغربية، سعت أنقرة للتدخل والمساهمة في حل الأزمة.
في البداية دعت أنقرة للتهدئة على خلفية التوتر الروسي الأوكراني على الحدود، مع تأكيدها على آثار ذلك السلبية على البحر الأسود، وقد وصل الأمر إلى عرض تركيا للوساطة بين موسكو وكييف الذي جاء على لسان المتحدث باسم رئاسة الجمهورية إبراهيم قالن، كما جدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عرض الوساطة مرة أخرى، وقال ” إن بلاده ترغب بالمشاركة في معالجة التوتر بين روسيا وأوكرانيا من خلال الحوار “، وشدد على أن بلاده تقف إلى جانب إحلال السلام في المنطقة “لا سيما فيما يتعلق بأتراك جزيرة القرم”، ووفقا للعديد من المحللين؛ فقد جاء الرد الروسي بفتور، خاصة بعد تأييد أوكرانيا للمقترح التركي.
وفي هذا الصدد؛ أعرب ممثل شبه جزيرة القرم في مجلس الاتحاد للشئون الدولية سيرجي تسيكوف على ضرورة التفاوض المباشر بين موسكو وكييف بدون وسطاء كدولتين شقيقتين، وقال “لقد أثبتت تركيا أنها قوة إقليمية مؤثرة، وهذا المقترح يطرح لزيادة مكانة تركيا وأردوغان شخصيا”، فضلا عن أن الجانب الروسي ينظر إلى أنقرة كأحد أطراف النزاع لأنها زودت أوكرانيا بالسلاح.
دوافع أنقرة من الوساطة:
من الممكن تفسير الموقف التركي من الأزمة بين كييف وموسكو في ضوء مجموعة من الدوافع، والتي تتمثل أهمها في:
(*) بالتزامن مع الرغبة التركية في بقائها ضمن أي مهمة تخص المنطقة، إلا أنها تدرك أيضا خطورة الوضع الحالي على الحدود بين روسيا وأوكرانيا، خاصة في ظل ارتباطها مع موسكو وكييف بعلاقات شراكة وجوار، وبالتالي فإن أنقرة لن تريد أي تصعيد بالقرب من حدودها لأنه قد يترك آثاره السلبية عليها، خاصة وأن المحيط التركي كامل العدد من الأساس؛ فمن الشرق التوتر بين أذربيجان وأرمينيا، وسوريا في الجنوب، وروسيا وأوكرانيا من الشمال، مما يشكل خطورة أمنية وسياسية واقتصادية بالنسبة لأنقرة.
(*) كما أن انخراطها في النزاع بين روسيا وأوكرانيا قد يضعفها في مواجهة اليونان المدعومة من الولايات المتحدة وفرنسا في ملفي بحر إيجة وشرق المتوسط، لذا فرغم الفتور في الرد الروسي، هناك رغبة تركية جدية للتوسط لحلحلة الأزمة، حتى لا تضطر إلى الانحياز إلى طرف على حساب الآخر حال وصل الأمر للصدام المباشر بين القوات الروسية والأوكرانية.
(*) أهمية أوكرانيا نفسها بالنسبة لتركيا في حفظ توازنات المنطقة، حيث ترى أنقرة أن هناك ضرورة للحد من التمدد الروسي فيها لأنه سيضر بالمصالح التركية في المنطقة، وعندها ستتوتر علاقاتها في الأساس بشريكها الروسي، لذا تتعاون أنقرة وكييف في مجال التسليح والصناعات الدفاعية في إطار مذكرات التفاهم، كما تعتبر أوكرانيا مزودا للكثير من الموارد العسكرية لتركيا.
(*) الحد من تنامي النفوذ الروسي في منطقة شمال البحر الأسود، بما يضمن حدود تركيا الشمالية في المستقبل، إضافة إلى ضرورة استمرار حركة الملاحة والتجارة الدولية الآمنة في البحر، وكذلك التنقيب عن الغاز.
حدود انحياز أنقرة لأحد من الطرفين:
رغم حرص تركيا على علاقاتها بأوكرانيا واهتمامها التاريخي بالأزمة الأوكرانية، ورغم خلافاتها وتحديها لروسيا في ساحات عدة من قبل، إلا أن تركيا تعلم تمام العلم أن أوكرانيا، هي مسألة مختلفة وحساسة بالنسبة لروسيا، كما أنه بالنظر إلى توازنات القوى بين روسيا وأوكرانيا سترجح كفة روسيا، رغم الدعم العسكري التركي لأوكرانيا.
تأسيساً على ما سبق، يمكن القول إنه على رغم من احتمالات دعم تركيا لأوكرانيا في الأزمة مع روسيا، إلا أنها لن تجازف بالانخراط في الأزمة مباشرة إلى جانب أوكرانيا، خاصة وإن اتخذ الدعم طابعا عسكريا ولم يقتصر على الدعم السياسي والإعلامي، إلا في حال تدخل الناتو مباشرة في الأزمة، في هذه الحالة ستكون أنقرة ملزمة بالعمل مع حلفائها، خاصة في ظل أهمية المضايق التركية لجميع الأطراف، والتي تعد الممر الوحيد لأي دعم غربي لأوكرانيا عبر البحر، ورغم ذلك قد لا تتدخل حتى وإن كان ضمن الناتو في مواجهات عسكرية مباشرة ضد روسيا، لأن الأمر نفسه فعلته في أفغانستان؛ فرغم وجودها ضمن قوات الناتو لسنوات في أفغانستان إلا أنها لم تشارك في العمليات القتالية إطلاقا، لأن ما دون ذلك سيؤثر على علاقاتها بروسيا بالتأكيد.
الموقف الروسي من احتمالية دعم أنقرة لكييف:
في حال تجاوز التدخل التركي في خلاف روسيا مع أوكرانيا المستوى الإعلامي والسياسي إلى المستوى العسكري، خاصة وإن تطورت الأزمة الحالية إلى النزاع المباشر بين روسيا وأوكرانيا، فمن المتوقع أن يؤثر ذلك سلبا على العلاقات التركية الروسية في كل الملفات المشتركة، خاصة الملف السوري، كذلك السياحة والتبادل التجاري وغيره، نظرا لحساسية الملف الأوكراني.
ولكن من الناحية العملية، وبالنظر إلى طبيعة عالم السياسة الذي تغلبه المصلحة، فالعلاقات بين روسيا وتركيا لن تسوء بدرجة كبيرة إلى هذا الحد، ولن ترقى إلى درجة القطيعة، لأن كلا الطرفين ليس من مصلحته أن تذهب العلاقات مع الآخر إلى مرحلة اللاعودة، خاصة إذا نظرنا إلى تاريخ المواجهات بينهما، فمرارا حصلت مواجهات بينهما في ساحات مختلفة مثل سوريا وأذربيجان، لكن في نفس الوقت كان يتمكن أردوغان وبوتين من التفاوض ووضع حد للخلافات بينهما.
بالتالي فمن ناحية ستعمل أنقرة على الحفاظ على علاقاتها بروسيا كورقة في مواجهة الغرب، في مقابل حرص روسي على ذلك أيضا، خاصة مع ارتباط البلدين بمشروعات استراتيجية مثل خط السيل الشمالي عبر الأراضي التركية، وهى خطوة أشاد بها الرئيس بوتين وشكر الجانب التركي عليها بعد أن رفضت قبل ذلك أوكرانيا تحت ضغط الغرب مد الخط عبر أراضيها، أضف إلى ذلك مصلحة موسكو في استمرار تركيا في شراء منظومة صواريخ إس ٤٠٠، طالما أن أنقرة لن تتخذ مواقف مؤثرة وفي قصايا حساسة وقومية بالنسبة لموسكو.
ويذكر أنه خلال العام الماضي حدثت مواجهات عسكرية بين روسيا وتركيا، وإن كانت بصورة غير مباشرة، في ليبيا وسوريا وإقليم قرة باغ بين الطائرات بدون طيار التركية والأسلحة الروسية، حيث كانت تدعم أنقرة أذربيجان، في حين دعمت موسكو حليفتها أرمينيا، وبعد بيع تركيا مسيراتها لكييف، فرضت الحكومة الروسية حظر طيران لتركيا امتد لأشهر على مواطنيها بغرض التأثير على السياحة كنوع من العقوبة لأنقرة، وبررت تلك الخطوة بأنها ضمن إجراءات الحد من تفشي فيروس كورونا.
وفي الأخير؛ فقد جاءت الأزمة الروسية الأوكرانية في الحقيقة لتضيف حلقة جديدة في سلسلة الخلافات التي تجمع موسكو وأنقرة، فبعد سوريا وليبيا وأذربيجان من المرجح وفقا للبعض أن تمثل الأزمة الحالية اختبارا للعلاقات التركية الروسية ستتضح نتيجته لاحقا، خاصة مع عدم إبداء الجانب الروسي ترحيبا باقتراح الرئيس التركي للوساطة، في ظل عدم اعتراف أنقرة بضم روسيا شبه جزيرة القرم، وعدم اعترافها بانتخابات القرم الأخيرة، وتزويد كييف بطائرات مسيرة تستخدمها في إقليم دونباس.