الارتدادات الاقتصادية المحتملة لـ “أميكرون” على الأسعار العالمية للنفط
شهدت أسعار النفط في الفترات الأخيرة عمليات تذبذب كبيرة بين الهبوط والصعود، تأثرا بما فرضته جائحة كورونا من قيود على السفر وتوقف للعديد من الأنشطة الإنتاجية حول العالم .ومع بداية الخروج التدريجي من آثار جائحة كورونا مع مطلع عام 2021، سجلت الأسعار ارتفاعا كبيرا مقارنة بالأسعار التي سبقتها خلال عمليات الإغلاق فى عام 2020، إلا أن ظهور المتحور “أوميكرون” الجديد يثير تخوفات عدة قد تنعكس على أسعار النفط كما حدث في السابق.
,رغم تحذيرات الخبراء والأطباء من سرعة انتشار المتحور الجديد، إلا أن خبراء الطاقة أكدوا أن تأثيره على أسعار النفط قد لن يكون بنفس التأثير الأول، خاصة في ظل حصول نسبة كبيرة من سكان العالم على اللقاح. فى الوقت الذى أكدت فيه بعض المصادر العالمية احتمالية تأثر النفط بهذا المتحور الجديد فى حال تفشيه. ومن هذا المنطلق نستعرض كيفية تأثر أسعار النفط بوباء كورونا ، وكيف عادت المخاوف مرة أخرى مع ظهور المتحور الجديد من الفيروس والأسباب وراء ذلك.
أثر جائحة كورونا على أسعار النفط:
تعرضت الدول المصدرة الصافية للنفط لضربة مزدوجة غير مسبوقة؛ وهو انكماش اقتصادي عالمي مدفوع بجائحة كورونا، وانهيار سوق النفط مع انخفاض أسعاره إلى ما دون 30 دولارًا أمريكيًا للبرميل في أبريل عام 2020، وانخفضت عائدات النفط والغاز لعدد من المنتجين الرئيسيين بنسبة تتراوح بين 50 إلى 85٪ بنهاية عام 2020 مقارنة بعام 2019. وجاء ذلك نتيجة تدابير الاحتواء والاضطرابات الاقتصادية المتعلقة بتفشي فيروس كورونا المستجد الذي أدى إلى تباطؤ الإنتاج والتنقل في جميع أنحاء العالم، مما أدى إلى انخفاض كبير في الطلب العالمي على النفط. حيث قدرت وكالة الطاقة الدولية أن الطلب على النفط قد انخفض بنسبة 30٪ فى عام 2020 مقارنة بالعام السابق 2019.
وفي مواجهة تراجع الطلب على النفط، كان المنتجون يتدافعون للحصول على منشآت لتخزين فائض النفط الخام، مع وصول المخزونات إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق في يونيو 2020. ومنذ ذلك الحين، تراجع الضغط على سعة التخزين إلى حد ما مع استمرار تأثير تخفيضات الإنتاج.
وعلى جانب العرض، لم تكن الترتيبات التي سمحت تاريخيًا للدول المنتجة للنفط بالاستجابة بشكل جماعي لانخفاض الطلب كافية، فقد فشل أعضاء تحالف أوبك + (أعضاء أوبك بالإضافة إلى منتجي النفط الآخرين من بينهم الاتحاد الروسي) في تمديد اتفاقهم لخفض الإنتاج، مما أدى إلى بعض المنتجين، بما في ذلك المملكة العربية السعودية وروسيا إغراق السوق لفترة وجيزة.
ومع بدء انهيار الطلب على النفط مع استمرار عمليات الإغلاق، توصلت منظمة أوبك + في النهاية إلى اتفاق لخفض الإنتاج في 12 أبريل 2020. وتمثل الاتفاقية، التي تضمنت خفض الإنتاج اليومي الجماعي لهذه الدول بمقدار الربع تقريبًا خلال الشهرين المقبلين. ومع ذلك، فإن الأزمة كانت سريعة التطور وتأثيرها على الطلب على النفط، تجعل من غير الواضح ما إذا كان التدخل كان كافيًا لإعادة التوازن إلى السوق أم لا.
شكل رقم (1) تقلبات أسعار النفط خلال الفترة (2000-2020)
تذبذب أسعار النفط مع ظهور “أميكرون”:
شهدت أسعار النفط تذبذباً واضحاً ما بين الانخفاض والارتفاع مع اكتشاف المتحور الجديد من فيروس كورونا (أميكرون) فى منتصف نوفمبر 2021، حيث تراجعت أسعار النفط إلى ما دون 70 دولار، وتراجع سعر خام برنت إلى مستوى منخفض بلغ 72.7 دولار للبرميل قبل ارتداده إلى 76 دولارا للبرميل، وسط مخاوف من أن تكون اللقاحات المتاحة أقل فاعلية في مقاومة المتحور الجديد، “أوميكرون”، مما أثار هواجس جديدة بشأن لجوء الحكومات إلى إعادة فرض القيود وإغلاق الأنشطة الاقتصادية للحد من انتشار الفيروس، وهو ما قد يضر بالنمو العالمي؛ وبالتالي بالطلب على النفط.
ويشير الارتداد في الأسعار إلى أن ردة الفعل تجاه تأثير متحور “أوميكرون” في الطلب العالمي على النفط اتسمت بالمبالغة المفرطة وقت اكتشافه، وذلك قبل الاستطلاع الكافي لطبيعة المتحور وتأثيره من حيث الانتشار وشدة الأعراض.كما أن ذلك جاء بعد أن شهدت أسعار النفط متوسط 83.6 دولار للبرميل فى أكتوبر 2021 بعد انتعاش مستويات الطلب عالميا بعد أن هدد تضاؤل إمدادات الغاز الطبيعي في أوروبا بأزمة طاقة.
وحتى 13 ديسمبر 2021، بلغت سلة أوبك 75.04 دولارًا أمريكيًا للبرميل، مقارنة بـ 74.39 دولارًا أمريكيًا لنفط برنت و 71.29 دولارًا أمريكيًا لنفط غرب تكساس الوسيط. حيث يعتبر نفط خام برنت الأوروبي، ونفط خام غرب تكساس الوسيط الأمريكي ، وسلة أوبك المرجعية ثلاثة من أهم المعايير التي يستخدمها المتداولون كمرجع لأسعار النفط، وذلك كما هو موضح بالشكل رقم (2).
شكل رقم (2) أسعار برنت وسلة أوبك ونفط خام غرب تكساس الأسبوعي من 30 ديسمبر 2019 إلى 13 ديسمبر 2021
ثم عاودت أسعار النفط نحو الارتفاع مرة أخرى نتيجة العديد من العوامل الاقتصادية المؤثرة على أسعار النفط أهمها ما يلى:
(*) العرض من خارج أوبك: أن حجم العرض والطلب في السوق هو العامل الأساسي الذي يحرك أسعار الخام صعوداً وهبوطاً، ويمثل المعروض من النفط من خارج دول الأوبك حوالي 60% من إجمالي المعروض عالمياً ،وقد ساهم الخلل فى الإنتاج الأميركي، لا سيما الصخري الذي لا يزال منخفضاً بواقع مليوني برميل يومياً، مقارنة بمعدل إنتاج 13 مليون برميل يومياً خلال العامين الماضيين، ومن الصعوبة حالياً عودته للارتفاع فوق 11 مليون برميل يومياً، نتيجة توقف النشاط بسبب جائحة كورونا، وحاجة القطاع إلى استثمارات مكثفة.
كما أضاف وصول المحادثات غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران بشأن إحياء الاتفاق النووي إلى طريق مسدود، تأثيرات أخرى على المعروض النفطى، حيث أن التوصل إلى اتفاق بين الطرفين في محادثاتهما غير المباشرة حول البرنامج النووي ليس قريبا. ومن هنا يمكن القول بأن ضخ المزيد من النفط الإيراني في السوق أمر غير منتظر .وبما أن إيران هي واحدة من أكبر الدول المُصدرة للنفط في العالم، حيث تُصدر أكثر من 2 مليون برميل يوميا لكل من آسيا وأوروبا، لذلك فإن أي فقدان في إمداداتها سيزيد الضغط على الأسعار نحو الارتفاع.
(*) المعروض من النفط من قبل منظمة الأوبك: تضم منظمة أوبك 13 دولة وينتجون حوالي 40% من الإنتاج العالمي، وقد أدى قرار تحالف أوبك+ يوم 2 ديسمبر 2021 بزيادة إنتاجه خلال شهر يناير لعام 2022 كما كان مقررا بـ400 ألف برميل يوميا، بينما كانت آراء كثير من المراقبين تميل إلى أن التحالف سوف يخفض هذه الكمية، أو حتى يوقفها بالكامل بعد الانهيار الذي شهدته الأسعار. ولكن ثبتت حكمة القرار بعد العودة لتسجيل ارتفاع في الأسعار، خاصة أن بعض أقطاب التحالف كان قد أشار إلى أن انخفاض الأسعار هو نتيجة لخطوات متعجلة اتُّخذت فور الإعلان عن المتحور الجديد “أوميكرون”.بينما جاء قرار منظمة “أوبك” من أجل الحفاظ على استقرار الأسعار خاصة بعد الخسائر التي طالت القطاع خلال العامين الماضين، حيث انخفض سعر البرميل إلى نحو 37 دولارا. مع الإشارة إلى أن “أوبك بلس” يمكنها أن تتخذ ما يلزم دون الانتظار للاجتماع القادم حال حدث أمر طارئ قد يوثر على أساسيات الطلب والعرض.
(*) زيادة الطلب المدعوم بالتفاؤل: تزايدت الشكوك حول مدى انتشار وتأثير المتحور أوميكرون على معدلات النمو الاقتصادى العالمى، حيث توقع الكثيرون أنه سيكون تأثيرا محدودا. وفى هذا الصدد، توقعت وحدة بحوث بنك الاستثمار (بلتون)، الحفاظ على توقعات أسعار النفط عند متوسط 79 دولارا للبرميل إثر استمرار نمو الطلب فى النصف الأول من 2022، مما سيبقي الأسعار أعلى من 75 دولارا للبرميل، متوقعة ارتداد الأسعار فى النصف الثاني من ديسمبر الجاري ، واستمرار ذلك حتى الربع الأول من العام الجديد عقب الارتفاع الموسمي لمستويات الطلب.
وجاءت توقعات زيادة الطلب على الوقود حول العالم، بعد إنهاء الدول حالات الإغلاق العام فيها عقب بداية انحسار جائحة كورونا، إلى جانب نمو أعداد متلقي اللقاح المضاد للفيروس. لذلك فمن المتوقع أن تتراوح أسعار برميل النفط بين 70 و80 دولاراً مع عودة الاستقرار في الطلب على النفط ، هذا مع قدوم فصل الشتاء فإنه من المتوقع أن تظل الأسعار في مستوى مرتفع بالتزامن مع ضبابية تعافي الاقتصاد العالمي من آثار جائحة كورونا، لذلك فانه من المتوقع أن تقود أسعار “برنت” مسيرة الصعود. إضافة إلى الزيادة الكبيرة في أسعار الغاز والاتجاه إلى النفط كبديل لتوفير الوقود استعداداً لشتاء قارس جداً في أوروباوأمريكا.
وقد أشارت بيانات الاقتصاد الكلي فى الدول الآسيوية إلى التحسينات في الاقتصادات الرائدة، وهي إشارة إيجابية للطلب على الطاقة. ففي الصين على سبيل المثال، عاد مؤشر مديري المشتريات التصنيعي إلى التوسع، بينما ارتفع إنتاج المصانع في اليابان أيضا.
شكوك ومخاوف:
رغم أن الظروف والعوامل الاقتصادية تشير الى تحركات مرتفعة نسبيا لأسعار النفط أو على الأقل مستقرة ، إلا أن هناك بعض المخاوف المتوقعة حيال الظروف الاقتصادية فى ظل تفشى المتحور الجديد من عدمه، حيث أكدت وكالة الطاقة الدولية في تقريرها الشهري عن النفط إنه من المتوقع أن تؤدي الزيادة في الإصابات الجديدة بكوفيد-19 أو ظهور الفيروس المتحور إلى إبطاء التعافي الاقتصادى الحالي مما يؤثر على الطلب النفطى بشكل مؤقت.
كما خفضت الوكالة الطاقة الدولية من توقعاتها للطلب على النفط لهذا العام 2021، والعام المقبل بمقدار 100 ألف برميل يوميا لكل منهما، ويرجع ذلك في الغالب إلى التراجع الكبير المتوقع في استخدام وقود الطائرات بسبب قيود السفر الجديدة. كما ذكر العديد من المصادر الدولية أن المستثمرين قد بدؤوا في إعادة تقويم تقديراتهم للأثر الاقتصادي للمتحور “أوميكرون”، ووضعوا جانبا أسوأ لمخاوفهم، ربما قد يؤثر على حركة الاستثمارات ، والطلب على النفط ؛ وبالتالي يؤثر سلباً على أسعاره .
وتأسيسا على ما سبق، يبقى الرهان على مستقبل أسعار النفط خلال العام المقبل 2022، خاصة خلال الربع الأول منه، فهل يكون هناك فائض عرض كما تتوقع ذلك منظمة “أوبك” وغيرها من الجهات، خاصة مع بدء السحب من الاحتياطي الاستراتيجي للولايات المتحدة وغيرها من الدول، أم تميل السوق للتوازن؟. فلا تزال بعض الجهات مثل بنك “جي بي مورجان” ترى أن أسعار النفط سترتفع خلال العام المقبل، ربما لتسجل حسب تقدير البنك 125 دولارا للبرميل، وذلك على خلفية نقص الاستثمارات المتاحة للحفر، إلى جانب عدم وجود فائض كبير في الطاقة الإنتاجية لدى “أوبك+”، إضافة إلى أن العالم سيشهد دورة اقتصادية نشطة، وتحديدا إذا ما انتهت الجائحة وتحور المتحور الجديد إلى مرض مستوطن يمكن التعامل معه .ومن بين أهم العوامل المؤثرة في أسعار الخام في الوقت الراهن هو عودة النمو في كثير من الدول الصناعية، وهناك الحديث عن أزمة الطاقة في أوروبا وآسيا وأزمة سلاسل التوريد، فتعتبر كل هذه العوامل السالف ذكرها داعمة لارتفاع الأسعار وقد تدفعها إلى الاتجاه نحو 100 دولار للبرميل مع نهاية العام2021، ويبقى سيناريو انهيار أسعار النفط بعيداً إلى حد كبير.