اتجاهات السياسة الألمانية بعد أداء “شولتز” اليمين الدستورية؟
بعد ستة عشر عاما قضتها أنجيلا ميركل في منصب المستشارية الألمانية، أدى أولاف شولتز زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي اليمين الدستورية كمستشار جديد لألمانيا، وذلك يوم الأربعاء الموافق الثامن من ديسمبر الجاري، ليصبح بذلك المستشار الألماني التاسع في ألمانيا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ليقود الدولة ذات الاقتصاد الأكبر في أوروبا، وفي ظل ظروف استثنائية فرضها تفشي فيروس كورونا في العالم بأسره، وقضايا عديدة عالقة داخل أروقة الاتحاد الأوروبي، وغيرها من الملفات الملحة داخليا وخارجيا.
وفي هذا الإطار؛ يحاول هذا التحليل توضيح كيف سينعكس انتخاب البرلمان الألماني لأولاف شولتز لتولي قيادة البلاد في هذه الفترة الحرجة، ومعالجته المشكلات الداخلية والخارجية التي تتحوط ببرلين، فضلا عن توضيح مدى التغير الذي قد يطرأ على السياسة الخارجية للحكومة الألمانية الجديدة.
شكل الحكومة الجديدة:
فبعد محاولات للتفاوض دامت لأكثر من شهر، تم الاتفاق على وثيقة الائتلاف الحكومي، وتم الإعلان رسميا عن الحكومة الجديدة بقيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، بالإضافة إلى حزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر ” الليبرالي “، وبالنظر إلى هذا الائتلاف؛ فإنه يعتبر أول حكومة ألمانية مكونة من ثلاثة أحزاب تتولى السلطة في ألمانيا منذ خمسينات القرن الماضي.
وتم توزيع الوزارات والمناصب السيادية فيما بين الأحزاب الثلاثة، وكانت أيضا بطريقة تثير الكثير من التساؤلات حول مستقبل انضباط وتوازن القرار السياسي في ألمانيا؛ حيث كانت وزارة الخارجية ووزارة الشئون الاقتصادية والمناخ ونائب المستشار من نصيب حزب الخضر لأنالينا بيربوك وروبرت هابيك على التوالي. في حين تولى من الحزب الاشتراكي الديمقراطي نانسي فيزر وزارة الداخلية، وكريستينا لامبرشيت وزارة الدفاع. مقابل حصول الحزب الديمقراطي الحر على وزارتي المالية لكريستيان ليندنر والعدل لماركو بوشمان.
بناءا على ذلك؛ ربما تكون الحكومة في المستقبل أكثر ميلا لليسار قليلا، بل أن المتشددين من الخضر قد يعارضوا أكثر من المحافظين، والأمر نفسه ينطبق على الليبراليين، وبالتالي سيكون شولتز بمثابة الوسيط بين الحزبين، لذا فإن هيكلة هذا الائتلاف الحاكم قد تطول، ولكنها لن ترقي إلى حد الفشل، لأن الحكومة في ألمانيا بشكل عام كانت محافظة براغماتية سواء كانت من اليمين أو اليسار، وهو ما كان في عهد ميركل وسيستمر في فترة شولتز، وهو ما يقودنا إلى وجود استمرارية إلى حد كبير في السياسة الألمانية.
تحديات الحكومة الجديدة:
بعد أن نجح أولاف شولتز في تشكيل تحالف غير مسبوق مع الليبراليين والخضر، وبناءا على توجهات وبرنامج كل حزب، يمكن توقع توجه سياسة الحكومة الجديدة تجاه الملفات الداخلية والخارجية الأبرز كالآتي:
(*) تحديات داخلية: في البداية سيتوجب على الحكومة الجديدة مواجهة ومعالجة الآثار الاقتصادية والصحية الناتجة عن تفشي فيروس كورونا في ألمانيا، من خلال مجموعة من السياسات المدروسة فيما بين الائتلاف، وفي هذا الصدد يواجه الحكومة الجديدة تحد آخر متعلق بتطبيق القرار المتعلق بالتطعيم الإجباري لكل الألمان في مطلع العام المقبل، وهو الأمر الذي يرفضه قطاع كبير من الشعب، بالإضافة إلى عدد من السياسيين، وبالتالي فإن قدرة الحكومة على تنفيذ هذا القرار مرهون بقوة البرلمان. هذا بالطبع دون إغفال التحدي الأهم، وهو الحفاظ على اللحمة والتوازن في ائتلافه الحكومي، والتماسك بين الحزب الليبرالي والخضر المتباعدين في السياسات إلى حد كبير،لضمان فترة وسياسات مستقرة ومتزنة على الصعيد الداخلي والخارجي. هذا فضلا عن ملف الهجرة والمناخ.
(*) تحديات خارجية: شولتز معروف من السياسيين الذين يدعمون فكرة أوروبا المستقلة والموحدة، وأن تكون هناك قوة واضحة للاتحاد الأوروبي، وهو ما يتفق مع الرؤية الفرنسية مؤخرا، والتي تحاول الأخيرة تنفيذها خلال رئاستها القادمة للاتحاد على خلفية أزمة الغواصات، كذلك الحاجة للتعاون مع روسيا في ملف الغاز والطاقة، والعلاقات مع الصين كذلك، لذا سيواجه شولتز تحد واضح في هذا الشأن نتيجة اختلاف رؤية شركائه للعلاقات مع روسيا والصين بالخصوص.
حيث يري الليبراليون والخضر ضرورة تشديد العقوبات على روسيا على خلفية ملف حقوق الإنسان والتصعيد ضد أوكرانيا، كما أن وجود حزب الخضر في قيادة السياسة الخارجية يرى البعض أنه من المحتمل أن يرافقه حزم أكبر من قبل برلين تجاه موسكو وبكين عما كانت عليه سابقا أيام ميركل، خاصة وأن وزيرة الخارجية الجديدة تتبنى مشروعا مناهضا لخط أنابيب نقل الغاز الروسي لألمانيا ” نورد ستريم ٢ “، بسبب تعارضه مع سياسات المناخ في ألمانيا، فضلا عن أنها ترى أن هذا المشروع سيضع ألمانيا تحت رحمة روسيا فيما يخص الغاز، كما أنه سيضر بمصالح أوكرانيا.
كما أنه من المعروف أن الحكومة الألمانية السابقة كانت تراعي المصالح التجارية مع الصين وتغض الطرف عن القيم، ولكن من المعروف عن بيربوك أيضا أنها أكثر حزما تجاه الصين، حيث أعلنت عزمها تطوير سياسة خارجية محققة التوازن بين المصالح الاقتصادية والالتزام بمبادئ حقوق الإنسان في أكثر من مناسبة، كذلك العلاقات مع الولايات المتحدة، حيث تتفق بيربوك مع رؤية جوبايدن الجديدة للمواجهة مع الصين وروسيا، ومواجهة التسلطية، وأيضا تأييدها لسحب واشنطن أسلحتها من ألمانيا وبشأن تحفظ برلين إزاء رفع مساهمتها المالية في حلف الناتو الذي طالبت به واشنطن، كما تطالب الاتحاد الأوروبي أن يلعب دورا أكبر في تحقيق السلام والاستقرار العالمي.
انعكاسات متعددة:
بعد ميركل لا يتوقع أن تتغير مسارات السياسة الألمانية تجاه المنطقة بشكل كبير، ولكن يتعين فقط على الحكومة الجديدة أن توضح موقفها من القضايا الأبرز، وعلى رأسها الانتخابات الليبية والملف السوري وإسرائيل وغيرها.وقد جمعت سياسة ميركل بين شقين، تمثل الأول في دعم السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان، في حين تمثل الثاني في زيادة مبيعات الأسلحة الألمانية في الشرق الأوسط بنسبة ٣,٩٪ فيما بين عامي ٢٠١٦ و ٢٠٢٠ وفقا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. وبالتالي ستستمر سياسة الحكومة الجديدة في مكافحة الإرهاب وانتشار الأسلحة النووية.
وفيما يخص الملف الليبي؛ ففي الغالب سيكون الموقف الألماني من إجراء الانتخابات الألمانية في موعدها كما هو، وهو ما أكدته المستشارة الألمانية المنتهية ولايتها أنجيلا ميركل لرئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي في برلين أكتوبر الماضي، وتأكيدها أن ليبيا ستظل أولوية بالنسبة لبلادها حتى بعد تغيير الحكومة و” ستكون هناك استمرارية “، وهو نفسه ما أكدته خلال مؤتمر باريس الأخير نوفمبر الماضي. وبما أن شولتز قد عمل لسنوات بجانب ميركل، فيتوقع أن يكون الموقف من قضايا المنطقة ودرجة الاهتمام نفسها.
كذلك الأمر بالنسبة للموقف من الحكومة السورية، والذي يأتي في سياق الموقف الغربي عموما، والذي تمثل على سبيل المثال مؤخرا في منع السوريين من التصويت للانتخابات الرئاسية في سفارة بلادهم ببرلين، لكن على ما يبدو في إطار استراتيجية الانسحاب الأمريكي من المنطقة، سيتخلى الغرب عن مواقفه الصارمة إلى حد ما في سوريا، وسيحاول دعم استقرار سوريا بحكومة الأسد الحالية _ رغم اختلاف الغرب معها _ وهو ما يخدم بدوره الاستراتيجية الغربية عموما والألمانية خصوصا بشأن الحد من التدخلات الأجنبية الأخرى والتنظيمات الإرهابية، لأنه سيؤثر إيجابا على ملف المهاجرين بالتبعية وهو الأهم بالنسبة لأوروبا.
وفي الختام؛ ستواصل الحكومة الألمانية الجديدة السياسة التي كانت متبعة في عهد ميركل، ولن يكون هناك تغير جذري في هذا النهج، خاصة أن شولتز قد شارك قبل ذلك في الائتلاف الحاكم كنائبا للمستشارة ووزيرا للمالية، وقد يؤكد هذا الطرح اصطحاب ميركل لأولاف شولتز في مخالفة للبروتوكول المتعارف عليه في قمة العشرين، ومن المؤكد أن ذلك الموقف له مغزي سياسي ما، وقد يكون بغرض توصيل رسائل سياسية معينة بأن سياسة ألمانيا عامة لن تتغير بعد رحيلها، خاصة تجاه شركائها الأوروبيين.