عندما تسيطر الغريزة ويخبو العقل
د. أحمد زايد
يعد هذا المقال استكمالا لمقالى السابق؛ الذى حاولت فيه أن ألفت النظر إلى خطورة الاستجابات المتطرفة والسريعة حول ما حدث فى مهرجان الجونة؛ حيث وردت بعض التعليقات التى لا تخلو من لوم أو عتاب أو استغراب. وفى كل مرة كنت أوضح الأمر، واكشف عن دلالات ومضامين فى النص الذى كتبته ربما تكون استغلقت على الفهم. ولن أدخل هنا فى حوارات تفصيلية مع هذه التعليقات، ولكنى سوف أحاول أن أكشف عن البنية الفكرية التى دفعتنى إلى الكتابة. فالأمر لم يكن فى نظرى يتعلق بالمهرجان فقط، وإنما برؤية نقدية لبعض الأساليب الشائعة فى الحوار، وبعض الأحكام التى قد لا تقبل الرأى الآخر، وبعض جوانب غياب التذوق الجمالي. وسوف أشير إلى عبارة كتبتها ردا على تعليق لصديق عزيز قلت فيها ما معناه إننى أخاف على وطنى من أن تسيطر عليه الغريزة ويخبو فيه العقل.
ومن هذه الجملة الأخيرة أستطيع أن أكشف عن البنية الفكرية العميقة التى وقفت خلف هذا الحديث الذى تناول بالنقد الاستجابات السريعة، والاهتمام الشديد بجسد المرأة، وعدم مناقشة أى قضية فنية أو جمالية، والهجوم السريع والغالب على فيلم لم نشاهده. لقد قلت فى المقال إننى طالعت كل هذه الاستجابات على أصداء قراءات مهمة عن تكوين المجتمعات، وعن بناء الحضارة، وعن دور العقل فى كبح جماح الانفعال وفى منح القدرة على التروى والتدبر والحكم الصائب.
وقد يقال – وكما جاء فى بعض التعليقات- إن هذا الحدث له ظروف خاصة، وأن الاستجابات عليه قد تكون طبيعية فى إطار هذا السياق الخاص. وقد يكون هذا القول صحيحا، ولكن العبارة التى ذكرتها عن قلقى من تفشى التفكير الانفعالى المتسرع والسلوك الغرائزى لم ترتبط فى ذهنى فقط بتعليقات المهرجان، ولكنها ارتبطت بجانب أصداء الفكر النظرى بمشاهدات أخرى تثير القلق، ويمكن لو ربطنا بينها نكتشف أن هذا القلق ربما يكون فى محله. دعونى أسرد جانبا من هذه المشاهدات: عدم تقبل الرأى الآخر، ومعاداة الأصدقاء بناء على آرائهم والدخول فى مشاجرات قد تؤدى إلى عنف جسدي، وارتكاب جرائم بأساليب فيها إفراط فى العنف وهتك حرمة الجسد، وارتكاب جرائم ضد الأقارب المقربين كالأبناء والآباء والأمهات واستخدام السلطة فى التعدى على موظفى الدولة، واستخدام الثروة فى سلوكيات استهلاكية غريبة وشاذة، أو فى أمور استعراضية غريبة قد تفسر على أنها شذوذ. وقد أضيف إلى ذلك مشاهدات، تبدو بعيدة، مثل عدم إجهاد العقل فى البحث والتدقيق فى الأداء المهني.
حقيقة أن كل هذه المشاهدات لا تعبر عن ظواهر لها صفة العمومية، وإنما هى مظاهر سلوكية انبَجَسَت فى حياتنا عبر العقود الثلاثة الماضية، وتتزايد يوما بعد يوم، وإن كان تزايدا بطيئا، فإنه يؤشر على خصيصة أحسب أنها أخطر من أى شيء آخر على النسيج الاجتماعى وعلى تماسكه واستقراره وتعاقداته اليومية؛ وهى السلوك المنفعل، سريع الاستجابة، القائم على الشخصنة، والمهمل لمشاعر الآخر، أو حتى المهمل للأطر الثقافية والمهنية الحاكمة للسلوك. وإذا تعمقنا فى هذه المظاهر السلوكية فإننا نجدها تصدر وكأن أصحابها يسبحون بعيدًا عن المجتمع، فثمة اعتداد هنا بالموقف الشخصي، وعدم النظر إلى السياق، وربما – فى بعض الحالات – الإعجاب الشديد بالذات، والإصرار على الموقف وعدم قبول الآراء الأخرى، بل – وكما يحدث فى بعض السلوكيات الإجرامية – عدم الاعتداد بالقانون والثقافة العامة.
وعند هذا الحد نستطيع أن نعود إلى الفكرة الرئيسية التى أود أن اجادل بها، وهى أن القضية ليست قضية ردود فعل حول المهرجان، وليست قضية فيلم اختلفنا حوله، ولكنها قضية أوسع تشير إلى غياب الروية والتدبر العقلي، وهدر الذوات العمومية، وهدر القيم الفنية والتذوقية والجمالية، وفى المقابل الحضور القوى للذات، والتمادى فى السير خلف نوازعها الشخصية. إننا هنا نكون بصدد ظرف يجب أن نتأمله جيدا ونحن نعبر بأنفسنا إلى آفاق جديدة لمجتمع جديد. ويمكن وصف هذا الظرف المتسرب إلى مجتمعنا بأوصاف ثلاثة، فهو ظرف جديد وناشئ وغريب، وهو ظرف يناوئ مشروع التقدم والانطلاق إلى المستقبل، وهو ظرف يؤشر على ضمور لإمكانيات العقل فى مقابل الغريزة.
فهو أولا ظرف ناشئ وجديد، فلم يكن مجتمعنا يعرف هذه التصرفات، والذى يتأمل الحقبة الممتدة من بداية القرن العشرين وحتى منتصف السبعينيات يجد أن المجتمع كان مجتمعا منفتحا ناضجا لا يعرف التعصب والتطرف، ويقبل كل الأطراف وكل الأفكار، ولا يشغل نفسه بأمور تافهة بسيطة، ولا يأخذ من جسد المرأة موضوعا للنقاش، ولا ينظر إليها على أنها من طبيعة مختلفة. ومن ناحية ثانية فإن هذا الظرف الناشئ يؤشر على أننا مازلنا بصدد صراع بين ثقافتين، ثقافة ماضوية لا تقبل بالرأى الآخر، وتميل إلى المطلق لا النسبى وتعيد المجتمع إلى الخلف، وتدفع إلى التخلى عن منجزاته الحداثية، وثقافة مدنية تتشرب من روح الدين الأصيل والمبادئ العامة للتقدم فتفتح الباب لنسبية الأشياء والأحكام، وتعدديتها، وانصهارها فى إطار كلى عام. وأحسب أن هذا الظرف الناشئ يدفع بالثقافة الماضوية إلى الإمام ويتحيز لها، ويبتعد رويدا رويدا عن الطرف الآخر، ولا يستطيع حتى أن يطور موقفا ثالثا وسطا إلا فى النزر اليسير. وأخيرا فإن حضور الجسد بقوة سواء فى النقد أو فى الاستعراض الجسمى أو الصوتي، يؤشر على نمو للغريزة فى مقابل العقل، وحضور للبيولوجيا فى الثقافة. وعندما يتأمل المرء هذه النتائج الثلاث، فقد يحق له أن يقول لصاحبه إنه يخاف على وطنه من أن تتسرب إليه الغريزة ويخبو فيه العقل.
نقلا عن الأهرام.