حبر على ورق: احصاءات”الفقر والفقراء ” فى بيانات الأمم المتحدة
عبد السلام فاروق
فى 2015 بدا أن الأمم المتحدة انتبهت أخيراً إلى تزايد عدد الجوعى والفقراء فى العالم بفضل الحروب التى يشنها الغرب وعملائه فى العالم على الأبرياء والآمنين ليزداد عدد المشردين والعاطلين واللاجئين. ثم إذا بالنظام العالمى ينتبه فجأة أن ثمة مشكلة اسمها الفقر تنتشر كالوباء وأن عائلات بأكملها تبيت يومياً على بطن خاوية ورجاء مقطوع!
كانت الأمم المتحدة قد أَقَرّت، سنة 2015، برنامج “أهداف التنمية المستدامة”، ويتضمّن القضاء على الجوع، بل وتحسين تغذية البَشَرِية وتحقيق الأمن الغذائي بحلول 2030، لكن أصبحت هذه الأهداف في خَبَر كانَ؛ إذ لم تستجب خزائن أمريكا أو أووبا ولا أيادى البنك الدولى ولا جيوب الجهات المانحة لدعوات الأمين العام للأمم المتحدة كأنه صاح فى قوم من الصُم.
ثم حدث أن جاء وباء “كوفيد-19” ما أدى لإغلاق مؤسسات الإنتاج والنّقل والتجارة وانخفاض دخل العمال والفُقراء وإتلاف المحاصيل الزراعية وهو ما تسبب فى تعميق الفجوة الاقتصادية على مستوى عالمي، فارتفعت ثروة أغنى أغنياء العالم، بفعل المُضاربة لا بفعل زيادة الإنتاج وأصاب الفَقْر المدْقَع عشرات أو مئات الملايين، ما أدّى إلى زيادة عدد الفُقراء والجائعين في العالم.
الجوعى كأرقام!:
مرت السنوات الثقيلة على فقراء العالم فى انتظار تعاطف أغنياء العالم ، لكنه لم يأتى أبداً خاصةً فى سنوات الوباء التى توحش فيها الرأسمال العالمى وغرس أنيابه ومخالبه فى أرزاق الناس ليخرج بأكبر حصيلة ممكنة مستغلاً الجائحة أسوأ استغلال. وفى المقابل بخل الرأسمال العالمى عندما طولب بمساعدة الفقراء الذين استغل فقرهم وكانوا سببا فى غناه فرفض وراوغ. هذا ليس ادعاء منى أو تجنى بل هو ما صدر منذ شهور قليلة عن الأمم المتحدة!
ففى قمة الأنظمة الغذائية المنعقدة فى سبتمبر 2021 قدّر الأمين العام للأمم المتحدة عدد العاجزين عن تحمل تكاليف نظام غذاء صحى يومى بثلاثة مليارات شخص! فى ذات الوقت الذى يعانى فيه مليارا شخص من سمنة مفرطة!! ونحو نصف مليار يعانون أمراض سوء التغذية، وسبعمائة مليون يأكلون يوما ويجوعون أياما. كل تلك الأرقام قديمة فى كشوف ما قبل جائحة كوونا، فكيف بالأرقام اليوم؟ فى الجهة الأخرى يهدر الأثرياء تلالاً من الغذاء والطعام إهداراً، وهم أنفسهم الذين يسيطرون من خلال الشركات العابرة للقارات على الموارد الطبيعية والأراضى الخصبة ومصادر المياه بهدف منافسة الإنتاج الزراعى العائلى المصغر مما يقضى على التنوع البيولوجى أمام هجمة الثمار المعدلة وراثياً.
لقد نشرت الأمم المتحدة في أعقاب هذه القمة بعض التّقديرات لحجم الدّمار الذي خَلَّفَهُ استيلاء رأس المال وشركاته العابرة للقارات على الأراضي الصالحة للزراعة وعلى المياه والإنتاج الزراعي والحيواني، وهو ما أطلقت عليه الأمم المتحدة عبارة “التكاليف الخفية” للأنظمة العالمية للأغذية، وقدرت قيمتها بقرابة 20 تريليون دولارا سنويا، بخلاف الضحايا والثكلى والهالكين الذين سقطوا فريسة تجارب مشبوهة ومنتجات مسرطنة ونظم عمل تشبه السخرة. يضاف إلى كل هذا آثار تغير المناخ والدّخل غير العادل. ولا أحد يتحمل الكلفة سوى الفئات الكادحة، من صغار الفلاحين والنساء والشباب.
تظل تلك المشكلة فى أوراق الأمم المتحدة مجرد إحصاءات وأرقام لا تعنى للقادة وأغنياء الحروب وأثرياء الجائحة أكثر من حبر على ورق!
اقتصاديات ما بعد الجائحة:
الأرقام تؤكد ارتفاع ثروة أغنى 10 أشخاص بالعالم بمقدار 413 مليار دولار سنة 2020، سنة انتشار الوباء والإغلاق. وهذا هو مبلغ الزيادة لا مقدار الثروة الإجمالية. وهو ما يفوق حاجة الأمم المتحدة لتمويل برامج المساعدات الإنسانية العالمية للعالم بأكمله بإحدى عشر ضِعْفًا!!!
ما زلنا مع أرقام الأمم المتحدة التى أكدت ارتفاع الإنفاق العسكري العالمي بمقدار 51 مليار دولار. وقد ساهمت هذه الأسلحة في تهجير قرابة خمسين مليون شخص من مناطق سكنهم فى سنة واحدة! حدث هذا بسبب استخدام التجويع وحرمان المدنيين من الغذاء والماء وتعطيل وصول الغذاء والدّواء (كما في سوريا واليمن) كسلاح حرب، فضلاً عن تجريف الأراضي وإحراق المحاصيل وقتل المواشي وقصف الأسواق، “بحسب تقرير منظمة أوكسفام” لسنة 2021 .
المسألة المؤسفة هنا أننا إذا قمنا بمقارنة مختلف التقارير التي تُصدرها منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الخيرية والإنسانية لمسنا بوضوح سطحية الحُلُول المُقترَحة، فهي في معظمها لا تُشير إلى مسئولية الدول الغربية والشركات الكبرى فى استيلائها على البترول والغاز والمناجم وشركات الزراعة الصناعية، بل وهيمنتها على الحكومات التابعة في بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، وقيامها بالإستحواذ على سواحل الصومال بل والأراضي وطرد الفلاحين منها. الغرب الرأسمالى هو المسئول عن إطلاق النزاعات المسلحة والحروب العدوانية شرقاً وغرباً. لكن الأمم المتحدة تعكس موازين القوى لصالح الدّول الكبري التي استغلت الأمم المتحدة لتبرير العدوان على العديد من البلدان والشُّعُوب.
إن من بين الأرقام الأممية المضحكة المبكية تحديد خط الفقر العالمى بمبلغ 1.9 دولارا يومياً! كيف وخبراء التغذية يؤكدون أن أقل تكلفة عالمية لنمط غذاء صحى لا تقل عن عشرة دولارات يومياً على الأقل، ناهيك عن باقى تكاليف المعيشة. أهذا ما استطاعته الأمم المتحدة أمام حظر المؤسسات المالية الدائنة دعم أسعار الغذاء! كيف للفقراء بل لمتوسطى الدخل أن يكافحوا تداعيات الفقر الذى يهاجمهم من كل ناحية وصوب؛والفضل لسياسات التجويع والتشريد والتهجير التى يجيد الغرب تنفيذها باقتدار!
معضلة الفقر .. إلى أين؟:
البروباجندا اليومية المتنشرة فى أنحاء المعمورة تقول: أن برامج الأمم المتحدة والبنك الدولى تهدف لمكافحة الفقر وحماية البيئة من خلال مشروعات كهرومائية وزراعية وصناعية. والحقيقة أن برامجها تلك أسرعت بعمليات إبادة الغابات وتدمير رئات الكون وتهجير وتشريد ملايين البشر.
هذا ما يؤكده (ميشيل تشوسودوفيسكى) فى كتابه (عولمة الفقر) ويضيف قائلاً: ( لقد أدت برامج تثبيت الاقتصاد الكلى والتكييف الهيكلى التى فرضها صندوق النقد الدولى على البلدان النامية منذ أوائل الثمانينيات إلى إفقار مئات ملايين من الناس وانهيار القوة الشرائية الداخلية فظهرت المجاعات وأغلقت المدارس والمؤسسات الصحية وانتشرت الأمراض المزمنة والمعدية المهلكة.). لقد هلك الناس حول العالم جراء مخططات زبانية المال وشياطين الاقتصاد الدعاة لمكافحة الفقر وهم صانعيه!
لقد نشرت معظم دول العالم بيانات عن تحسّن الوضع الإقتصادي منذ بداية العام 2021 وعودة الإقتصاد إلى النّمو، وما إلى ذلك من بيانات تخص “الإقتصاد الشمولي أو الماكرو إيكونومي”. في المقابل، أعلن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة فى نوفمبر 2021 ارتفاع عدد الأشخاص الذين يواجهون خطر المجاعة في العالم بأكثر من 45 مليوناً منذ بداية العام الحالي، عام عودة النّمو!! فأى البيانين جدير بالتصديق؟
المدهش فى الأمر أن المبلغ الذى أعلنت منظمة الأمم المتحدة حاجتها له لإبعاد خطر المجاعة على مستوى العالم لا يزيد عن سبع مليارات دولار فقط!! فهل عجزت دول العالم مجتمعة عن توفير مثل هذا المبلغ الزهيد لإنقاذ فقراء العالم؟ نعم، للعجب هذا ما حدث! ومعظم هؤلاء الواقعين على شفا المجاعة هم من الشعوب التي دمّرت الدول الغربية بلدانها وقطعت سُبل عيشها. فمن يحاسب المسؤولين عن هذا التّدمير والتّخريب المُمَنْهَج والمُصَمّم سلفًا والذى لا يليق به إلا لفظ “الإجرام”.
الحل الذى يجتمع عليه قادة دول الغرب دائماً هو هو لا يتغير منذ ظهوره من عشرات السنين، وهو حل جهنمى سحرى يبدو براقاً فى ظاهره بينما جوهره أكاذيب وأخاديع وباطل فى قلب باطل أعظم! إن الحل الدائم على لسان الدول المانحة: “المعونات والمساعدات الغذائية”!
لقد جاء فى كتاب (صناعة الجوع) لجوزيف كولنز وفرانسيس مور تحت عنوان “الغذاء كسلاح” أن الاستخدام السياسي والعسكرى للمعونة الغذائية للولايات المتحدة ليس شيئا جديداً، وضرب عشرات الأمثلة التاريخية لتلاعب الدول العظمى بالشعوب والدول بخديعة معونة محفوفة بالأشواك والشراك.
بيان الأمم المتحدة ذاته توصل إلى نفس النتيجة الواضحة كالشمس فأعلن قائلاً: (إن حل قضية الجوع والفقر لن يتحقق من خلال المنح والمساعدات الظرفية، بل بالقضاء على احتكار الأغذية والتّحكّم بأسعارها، وبوضع حدّ لشروط صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمُقْرِضِين المهيمنة على أسعار الغذاء) فهل يجد الجوعى فى العالم صدى لنداءات بيان الأمم لدى الزعماء والقادة والأغنياء؟