مراوغة سياسية: ماذا يعنى “الاتفاق المؤقت” مع إيران؟

أبرمت إيران وست قوى دولية (الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، روسيا، الصين، وألمانيا) في 2015، اتفاقاً بشأن برنامجها النووي سمي خطة العمل الشاملة المشتركة وأتاح رفع الكثير من العقوبات التي كانت مفروضة عليها، في مقابل الحد من نشاطاتها النووية وضمان سلمية برنامجها، لكن الولايات المتحدة انسحبت من الاتفاق العام 2018 في عهد رئيسها السابق دونالد ترامب الذي أعاد فرض عقوبات اقتصادية على طهران، وبعد عام، بدأت إيران بالتراجع تدريجياً عن التزاماتها الأساسية بموجب الاتفاق.

تأسيساً على ما سبق، وفي ظل حدوث “اتفاق مؤقت” مع إيران يهدف إلى تجميد تخصيب اليورانيوم بمستوى عال-يبقى السؤال،وهو: ماذا يعنى هذا الاتفاق؟، وهل يمثل تحرك حقيقي نحو المفاوضات أم مرواغة سياسية من قبل طهران لكسب مزيد من الوقت؟.

عودة للماضي:

جرت الجولة الأخيرة من محادثات فيينا النووية في 20 من يونيو الماضي، وكان الهدف من تلك المفاوضات الوصول إلى تفاهم يعيد إحياء العمل بالاتفاق النووي المبرم عام 2015 والذي واجه تحديات بعد انسحاب الولايات المتحدة منه، ودخلت المباحثات مع إيران نفق الجمود منذ الانتخابات الرئاسية التي جرت في إيران خلال شهر يونيو الماضي، كشفت الوكالة الدولية للطاقة الذرية الخميس 18 نوفمبر الجاري عن مشاورات مع إيران لتمديد الاتفاق القائم بشأن عمليات التفتيش في منشآتها النووية والذي يشارف على نهايته، حيث تجري الوكالة الدولية للطاقة الذرية محادثات مع إيران للحفاظ على مراقبة للمنشآت النووية وبالتالي السماح باستمرار المفاوضات لإنقاذ الاتفاق النووي المبرم عام 2015، وكان المدير العام للوكالة “رافاييل غروسي” أعلن في 21 فبراير الماضي عن إبرام “اتفاق ثنائي تقني” مع إيران لمدة ثلاثة أشهر من أجل “الحفاظ على الدرجة اللازمة من المراقبة والتحقّق”، وكان قد توجه سابقاً بشكل طارئ إلى طهران في محاولة لإيجاد حل قبل أن يدخل حيز التنفيذ قانون جديد يحد من عمليات التفتيش على الأرض، على أن تلتزم إيران بشكل خاص بتوفير كل البيانات من الكاميرات والأدوات الأخرى في حال رفع العقوبات الأمريكية في نهاية تلك الفترة،  لكن هذا الاتفاق يشارف على نهايته فيما دعا الأوروبيون الذين يتفاوضون حالياً في فيينا، طهران إلى تمديده في انتظار التوصل إلى نتيجة.

ومنذ أن طرح جو بايدن خلال فترة ترشحه للرئاسة الأميركية، استراتيجيةً من جزأين مصممة لتقييد برنامج إيران النووي، حيث تنص الاستراتيجية في جزئها الأول على أن تقترح إدارة بايدن العودة إلى “الامتثال المتبادل” للاتفاق النووي المبرم عام 2015 والذي انسحبت منه الولايات المتحدة في عام 2018 وانتهكته إيران لاحقاً، أما في الجزء الثاني، فتباشر واشنطن بمفاوضات جديدة مع طهران بشأن اتفاق “أقوى وأطول” يحل محل الاتفاق الأصلي، فقد بدأت إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” الذي يريد العودة إلى الاتفاق محادثات غير مباشرة في العاصمة النمساوية في أبريل الماضي في جولات مع الإيرانيين لتحديد العقوبات التي يجب على واشنطن رفعها مقابل عودة طهران إلى الامتثال الصارم لالتزاماتها، ويأتي الإعلان عن استئناف المحادثات وسط ضغوط كبيرة تفرض على إيران، ومن المقرر أن تستأنف المحادثات النووية بفيينا في 29 نوفمبر الجاري، في مفاوضات لإحياء الاتفاق النووي المبرم عام 2015 في حكومة الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، لكنها توقفت بوصول إبراهيم رئيسي إلى السلطة.

توسيع المطالب:

تأسيساً على ما سبق، بات السؤال يطرح نفسه، الذي يتركز حول فرص واحتمالات إنهاء الجمود الحاصل وعودة وفود التفاوض من الجانبين إلى فيينا، وهل تنجح المفاوضات في إعادة العمل بخطة “العمل الشاملة المشتركة” والاتفاق الذي أبرم في 2015 لمنع طهران من امتلاك السلاح الذري والذي انسحبت منه الولايات المتحدة في عام 2018؟

ومع ذلك، قرر الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي تسريع البرنامج بتقديم مطالب أكبر من الولايات المتحدة، بالرغم من خطر انهيار المحادثات، ومنذ ذاك الحين، قال إنه سيرفض السماح لمفاوضيه بمناقشة إعادة تطبيق القيود على البرنامج النووي حتى ترفع الولايات المتحدة جميع العقوبات التي فرضتها على إيران منذ قرار ترامب، بما في ذلك المطبقة على القضايا غير النووية، لكن إدارة بايدن تصر على حصر التفاوض في هذا المجال بالتدابير التي اتخذت في عهد دونالد ترامب على خلفية البرنامج النووي الإيراني على غرار حظر بيع النفط، وليس تلك المتخذة على خلفية سجل حقوق الإنسان.

اتفاق مؤقت أم مراوغة سياسية!:

وعملت وكالة الطاقة الذرية مؤخراً على تمديد “اتفاق مؤقت” يتم بموجبه أن الولايات المتحدة وباقي الدول العظمي سيتوصلون إلى “اتفاق مؤقت” مع إيران يهدف إلى تجميد تخصيب اليورانيوم بمستوى عال لكسب مزيد من الوقت بالمفاوضات للعودة إلى اتفاق عام2015، حيث تعتمد الفكرة الاتفاق المؤقت، والتي طرحت مقابل تجميد أجزاء بالبرنامج النووي، وأن الولايات المتحدة وحلفائها سيحررون أموالاً إيرانية في الغرب، والسماح لإيران شراء بضائع إنسانية هي غير قادرة على شرائها حالياً بسبب العقوبات المفروضة عليها، والحقيقة أن هذا الاتفاق لا يمثل أي تغيير بالسياسة الأمريكية، حيث أن الولايات المتحدة لا زالت تصر على أن كل اتفاق مع إيران يجب إن يشمل تطبيقا للاتفاق الكامل في 2015، وأن “فكرة “الاتفاق المؤقت” فكرة طرحت بالأصل من قبل دولة حليفة لواشنطن في أوروبا مرتبطة بالمحادثة مع إيران، وأنها ليست فكرة أمريكية، ويعد المقصد من وراء التوصل إلى “الاتفاق المؤقت” هو أن البرنامج النووي الإيراني حصل تقدم به خصوصاً بما يرتبط بتخصيب اليورانيوم، حيث نقلت صحيفة “التايمز” البريطانية عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران سرعت إنتاج اليورانيوم المخصب لدرجة أن يكون لديها ما يكفي لصنع سلاح نووي في غضون شهور، كما أفاد تقرير صادر عن الوكالة الذرية، التي تراقب البرنامج النووي لإيران، أن لديها الآن 17.7 كيلوجرام من اليورانيوم المخصب بدرجة نقاء 60%، أي أقل من مستوى تصنيع الأسلحة بمستوى واحد، وهو ما يمثل ارتفاعا ًمن 10 كيلوجرامات وقت صدور آخر تقرير في أغسطس الماضي، وذكرت “التايمز” أن هذه الكمية قد تنتج حوالي 10 كيلوجرامات من اليورانيوم المخصب حتى 90%، وهو المستوى المطلوب لصنع سلاح نووي، فإن حوالي 20 كيلوجراما كافية لصنع قنبلة، وترجح السرعة التي يتقدم بها التخصيب، ورأت الصحيفة أن ذلك يزيد من الحاجة الملحة للمحادثات بشأن مستقبل البرنامج النووي والعقوبات الأمريكية على إيران، والتي من المقرر استئنافها نهاية الشهر.

تكتيك مدروس:

الحقيقة، أن الوضع الراهن يعكس نجاح التكتيك السياسي الإيراني القائم على كسب الوقت والضغط على الجانب الأمريكي لأقصى مدى، انطلاقاً من أن مرور الوقت بدون تحقيق أي تقدم يفاقم أزمة البيت الأبيض الذي لم يحقق نجاحات كبرى في السياسة الخارجية الأمريكية منذ تولي السلطة في يناير الماضي، وحيث كان يفترض أن يكون إحياء هذا الاتفاق في صدارة أولويات فريق الرئيس بايدن، ولكن ما حدث جاء على عكس التوقعات حيث أخفقت جولات التفاوض الست في إنهاء حالة التأزم، كما أن المفاوض الأمريكي بات في مواجهة فريق من المتشددين الإيرانيين يتولون شؤون هذه المفاوضات، ويمكن توضيح ما سبق على النحو التالي:

(*) يتمثل التحدي الحقيقي في كيفية ضمان مصداقية تهديدات العمل العسكري في الوقت الذي تنفذ فيه الولايات المتحدة تحولها الاستراتيجي الذي طال انتظاره بعيداً عن الشرق الأوسط ونحو آسيا، فالتهديد الذي تشكّله إيران على الأمن القومي الأميركي حقيقي، ولكنه لا يضاهي التحديات التي تطرحها الدول التي تملك أسلحة نووية وتزداد عدائيتها كالصين وروسيا، وسوف يستدعي الحفاظ على مصداقية التهديدات الأميركية الاستمرار بالرد حين تستهدف إيران.

(*) حيث أظهرت السنوات العديدة الماضية أن العقوبات الأميركية أحادية الجانب، وقد تخلف وقعاً اقتصادياً ضئيلاً على إيران، لكن مع ذلك، ستمثل هذه الخطوة تصعيداً تجاه إيران بأنها معزولة على الساحة الدولية.

(*) بالرغم من استعداد إيران لإجراء محادثات مع القوى العالمية في فيينا في 29 نوفمبر الجاري، إلا أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أعلنت أن طهران عادت إلى زيادة مخزونها من اليورانيوم العالي التخصيب، وهو يعني مزيد من المراوغات السياسية، حيث إيران تركز بوضوح على كسب الوقت من خلال تحركات ولكنها ربما تنفي عنها أي اتهام محتمل برفض التفاوض.

(*) تواصل إيران تأكيدها على رفع جميع العقوبات التي فرضت عليها أثناء ولاية ترامب، وتتعهد في مقابل ذلك بالعودة لالتزاماتها بموجب الاتفاق النووي، ويبقى التخوف من أن يتحول الاتفاق المؤقت بنهاية الأمر إلى اتفاق ثابت بدون تفكيك برنامج إيران النووي، وعدم اهتمام بقضية مخزن اليورانيوم المخصب الذي تمتلكه إيران.

(*) يواجه الشرق الأوسط تحديات ضخمة مع إيران وبرنامجها النووي والصاروخي، فإيران تنشر صواريخ باليستية تهدد أمن المنطقة والعالم، فقد لا يكون من الضروري تماماً التوصل إلى اتفاق دبلوماسي مع إيران، فإذا كانت عواقب توسيع برنامجها النووي وخيمة وواضحة بما فيه الكفاية، فقد يكون من الممكن ردع إيران دون اتفاق، ومع ذلك، يجب أن تظل الاتفاقية التي يتم التفاوض حولها الهدف المفضل لسياسة الولايات المتحدة، حيث يمكن لاتفاق قوي أن يقلل من عدم الاستقرار واحتمال الأخطاء في الحسابات الناجمين عن الاعتماد على آليات الاحتواء والردع لإيران.

د.سهرة القاسم

خبير مشارك في شئون الأمن الإقليمي. حاصلة على الدكتوراه في تخصص أثر التنافس التركي الإيراني على الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى