هل تنجح قبضة النظام الإيراني في السيطرة علي الإعلام؟
حظرت إيران، صحيفة يومية مؤخراً، لنشرها في صفحتها الأولى، صورة تظهر يد المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي باللون الأحمر، وهي ترسم خط الفقر، فقد أعلنت هيئة الرقابة الإعلامية الإيرانية، أنها أغلقت صحيفة “كليد” اليومية بعد أن نشرت مقالا في صفحتها الأولى بعنوان “ملايين الإيرانيين يعيشون تحت خط الفقر”، ووردت في المقال، صورة تشبه صورة سابقة لـ “خامنئي”، وهو يكتب على قطعة من الورق بيده اليسرى، مما أدى إلى إغلاقها وسجن المتسببين في نشرها.
تأسيسا على ما سبق، يطرح التساؤل التالي، وهو: في ظل توجه الإعلام المعاصر إلى أقل تقييداً.. هل تشهد البيئة الإعلامية الإيرانية صورة أكثر قمعية، وتغلق وسائل الإعلام بشكلٍ روتيني إذا اعتبرت أنها تخطت أياً من الخطوط الحمراء؟.
تقييد شامل:
الحقيقة منذ تأسيس الجمهورية الإيرانية كثورة أيديولوجية، بدأت تستخدم إيران بفاعلية أدوات القوة الثقافية، بهدف تصدير مفهوم الثورة تحت أسماء مختلفة، كي تصل إلى عقول الشعب المستهدَف، ويكتسب الإعلام الإيراني أهمية كبرى، سواء لجهة نشر الرسائل ودعم السياسات، أو في العمل ضدّ الخطط التي ينفذها بعض القوى الإقليمية والدولية، لاستهداف الدولة أو النظام الإيراني، فالإعلام إحدى أهم وسائل القوة الناعمة، وتمتلك إيران ماكينة إعلامية هي الكبرى على مستوى المنطقة، وواحدة من أكبر الإمبراطوريات الإعلامية في منطقة آسيا، وتوجد هيئة رسمية يشرف عليها المرشد الأعلى “علي خامنئي”، هي التي تحدد وتراقب تنفيذ السياسات الإعلامية لجميع المحطات التليفزيونية وإذاعات الراديو في إيران، وفق السياسات العامة للدولة، وهي وكالة “بَث الجمهورية الإسلامية الإيرانية”، وهى ترتبط بعدد من الوزارات والهيئات الحكومية الأخرى، منها وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيراني، إلى جانب وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، التي تتشارك معًا في عملية التحكم في نوعية الأخبار المنشورة، أو السيطرة على الصحافة المرئية، أو حتى في عمليات التضليل الإعلامي والدعاية المضادة.
علاوة على ذلك، تستخدم وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيرانية عدة أساليب متطورة لمراقبة الصحفيين الأجانب في إيران وتقليل وجودهم في البلاد، وهناك أيضا قسم التضليل وهو أحد أقسام وزارة الاستخبارات والأمن الوطني، والذي ينسق اغلب عمليات التضليل ويقوم بالإشراف على غالبية الأخبار التي تنشر في الصحف والمواقع الرسمية الإيرانية، كما أن هذا القسم أيضاً، يقوم بتوظيف الحرب النفسية من أجل التلاعب بوسائل الإعلام والأجهزة الاستخبارية الأجنبية، التي تسعى للحصول على معلومات حول الأجهزة المخابراتية الإيرانية أو القدرات العسكرية الإيرانية، ويجمع الإعلام الإيراني بين أشكالٍ عدة من فلسفات الإعلام، ويستند إلى أسسٍ ثيوقراطية مبنية على الاعتقاد بأن المرشد الأعلى الذي يتحكم في الإعلام، مفوض بالحق الإلهي كنائبٍ عن الإمام المنتظر الغائب، كما يستند إلى الفكر القومي المتطرف الذي طبق في ألمانيا وإيطاليا من قبل، حيث كان المبرر الأساسي لكبت الحريات هو مصلحة الدولة القومية، بتسخير الإمكانيات والوسائل كافة لدعم نظام الحكم وكي تتمكن من تحقيق أهدافها.
يذكر أن البيئة الإعلامية في إيران تصنف ضمن البيئات القمعية، حيث يتم التحكم فيها بإحكام، وتحتل المرتبة 169 على مؤشر حرية الصحافة لعام 2016 لمنظمة مراسلون بلا حدود، وينص الدستور الإيراني، المعدل في عام 1989، على أن “تتمتع المطبوعات والصحافة بحرية التعبير إلا إذا كانت تضر بالمبادئ الأساسية للإسلام أو حقوق الجمهور.” وتَرد الاستثناءات من هذه الحرية في قانون الصحافة وقانون العقوبات الإيراني، وينص قانون الصحافة، الذي صدر في عام 1986 والمعدل في عام 2000، على وجوب احترام المنشورات للتعاليم الإسلامية والعمل لصالح المجتمع المحلي، ولكنها تسمح بحرية التعبير، ففي عام 2009، أصبحت إيران أسوأ دولة في العالم في سجن الصحفيين، وفقاً للجنة حماية الصحفيين، حيث أن قانون العقوبات يجرم “الدعاية” ضد الدولة الإيرانية، ويسمح بإصدار أحكام الإعدام بحق من يسيئون إلى الإسلام وينص على عقوبة الجلد والسجن بالنسبة لأولئك الذين يروجون عمداً “لعدم الارتياح العام أو القلق” أو ينشرون شائعات كاذبة.
البحث عن بديل:
أصبح الإعلام الجديد ذراع الحكومة الإيرانية ووسيلتها الناجحة التي تستخدمها بشكلٍ كثيفٍ لفرض نموذجها الفكري وتحقيق الهيمنة من خلال الخطاب الإعلامي الموجّه، وإزاء ذلك، عملت على تطوير استراتيجيات إقناعية محددة وموجهة للتأثير في المتلقي، مستثمرة قدرتها الهائلة على مخاطبة طيفٍ واسعٍ من النسيج الاجتماعي لترويج مضامينها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومن ذلك عملت على استخدام آليةِ تكريس الأمر الواقع، من خلال رسالةٍ إعلاميةٍ تخدم مصالحها.
فعلى مدى السنوات العشر الماضية، بذلت وكالة بث الجمهورية الإسلامية الإيرانية ووزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيرانية بالتعاون مع وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، جهودًا كبيراً للسيطرة على الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، في حين أن وزارة الاستخبارات والأمن القومي الوطني تقوم بحجب المواقع الإلكترونية في إيران منذ عام 2009، ساهمت الوكالات المذكورة أعلاه في وضع البنية التحتية لما يسمى بالإنترنت “الحلال” وهو مجال رقمي تتمكن من خلاله وزارة الاستخبارات من التحكم في المحتوى الذي يمكن للمستخدمين الوصول إليه، علاوة على ذلك، في عام 2012، اجتمعت هذه الوكالات مرة أخرى، وهذه المرة تحت رعاية “المجلس الأعلى للفضاء السيبراني”، الذي يهتم في المقام الأول بتنسيق جهود الحرب الإلكترونية وتطوير مبادرات السياسة العامة، ويضم المجلس الذي أنشئ بمرسوم من خامنئي، مسؤولين رفيعي المستوى، بدايةً من رئيس الدولة وعدد من الوزراء، وممثلي وزارتي القضاء والبرلمان وغيرهم من الأجهزة الأمنية.
وفي الآونة الأخيرة، أدى التعاون المشترك بين الوكالات في إيران إلى إنتاج تطبيق جديد يسمى “سورش”، وهو عبارة عن منصة مراسلة فورية مصممة لاستبدال تطبيق المراسلة عبر التلجرام الذي تعتبره طهران محفزًا للاضطرابات المدنية، ووفقًا لوسائل الإعلام، فإن التطبيق الجديد يحتوي على رموز تعبيرية تتضمن شعارات مثل “الموت لأمريكا” و”الموت لإسرائيل” و”الموت للماسونيين”.
نخلص مما سبق، أن الإعلام الإيراني يتشكل من فلسفة الإعلام الثوري، فعلى الرغم من مرور أربعين عاماً على الثورة الإيرانية 1979، إلا أن الإعلام يعمل بأن يكون الإيرانيين في حالة إثارة ثورية دائمة بالتحكم في الآلة الإعلامية وتوجيهها لخدمة أهداف السلطة، وأن الدولة كانت ولا تزال هي أكبر مالك إعلامي، فقد عملت الحكومة الإيرانية على تحويل الإعلام إلى نظام سلطوي، فقد صممت خطة عمل إعلامية لإعادة دمج المجتمع الإيراني وإبعاده عن المجتمع الدولي، وأيضا استخدام آلية الاستثارة العاطفية ومخاطبة المتلقي بالتركيز على قضايا وأحداث تثير الغضب والكراهية من خلال التأثير الوجداني، ومثال لذلك تبني واستغلال القضايا الإسلامية والقومية لتمرير المشروع الإيراني، ومن أهمها القضية الفلسطينية، وشؤون المسلمين، بخاصة في أوقات الكوارث والحروب والأزمات.
سيطرة حكومية:
لذلك فإن الحكومة هي التي تتحكم تحكماً كاملاً في مجريات الشأن الإعلامي، فتعمل وسائل الإعلام على تربية الشعب على المسار الأيديولوجي، وتقوية القناعات الشعبية بالفكر السائد ومحاربة الفكر المضاد الذي تمثله الرأسمالية الغربية. ويمكن القول بأن التداخل القوي الذي يربط الكثير من الوسائل الإعلامية بالجهد الاستخباري في إيران، يمثل رأس الحربة للمرشد الإيراني علي خامنئي في حربه المستمرة مع العالم الخارجي، ففي الوقت الذي تقدم فيه وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي المفردات الخطابية والثورية المؤثرة، يأتي دور وسائل الإعلام لترويجها على شكل مواد إعلامية وخبرية.
وأخيراً يأتي دور وزارة الاستخبارات في تحشيد الموارد المادية والمعنوية من أجل وضعها موضع التنفيذ حيث:
(*) يمتلك النظام الإيراني رؤية إعلامية كلية تتحكم بكامل المشهد الإعلامي الداخلي، وتستخدم تفسيراتها الخاصة التي تزوِد بها المتلقي الإيراني في محاولةٍ للتحكم بالمشهد الإعلامي الخارجي، إذ تسيطر الدولة على الإعلام منذ نشأتها، ولوسائل الإعلام دور سياسي، يستخدمه رجال الدولة للترويج لسياساتهم، بخاصة في حالات الحروب والصراعات، أو في التضليل ونشر الإشاعات لتثبيت أواصر الحكم.
(*) يتم توجيه الخطاب الإعلامي على اعتبار أنه نابع من موقف قوة، إذ وضعت الحكومة الإيرانية الكثير من القيود على الإعلام وعرقلت مساعي الصحافيين والإعلاميين عموماً لممارسة دورهم في النشر والحصول على المعلومات التي تقتضيها المهنة.
(*) يتبنى النظام الإيراني استراتيجية إقناعية معينة في خطابه، هي استراتيجية الأمر الواقع والتأثير في المتلقي وتشكيل الصورة الذهنية من خلال عشرات القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية الناطقة بالعربية على أشكال برامج سياسية وتعبوية وثقافية وترفيهية، معتمداً على آليات عدة هي:
(*) الربط السياسي بالمصالح من خلال الدعم المالي والاقتصادي والعسكري، وللإعلام في السياسة الشيعية المعاصرة، مركزية نابعة من اعتماد أدبيات الإرث الثوري كخُطب الخميني التي يُعاد تكرارها باستمرار، وربط مسؤولية الإشراف العام على جهاز الإعلام في إيران بالمرشد الأعلى من خلال الدستور، كتعيين رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون وإقالته، وهذا يدلُّ على محورية دور الإعلام في السياسة الإيرانية الداخلية والخارجية.
(*) تسريب المعلومات لجس نبض الشارع بشأن قراراتٍ مهمة، أو لتوجيه رسائل معينة إلى الخارج يمثل الغرب المستقبِل الأكبر لها ثم دول الخليج والدول العربية الأخرى، بالإضافة إلى تلفيق الأكاذيب وبثّ الإشاعات، ومتابعة تأثيراتها المختلفة وقياس ردود الفعل عليها داخليّاً وخارجيّاً، ومدى ما وصلته حالة التوتر وعدم اليقين للتشكيك في أي موقفٍ دولي.
(*) التركيز على عملية التكرار وضخ المعلومات الكثيفة للتأثير في الناس حتى يؤمنون بما يطرح، ويصبح الحقيقة التي يجب الالتزام بها، من تلفيق الحقائق والتبعية الفكرية والسياسية.