أي مسار تأخذه العلاقات بين “القاهرة” و “دودوما”؟

تعد زيارة رئيسة تنزانيا “سامية حسن” إلى القاهرة، الأولى لها بعد توليها مقاليد الحكم في تنزانيا عقب وفاة الرئيس التنزاني “جون ماجوفولي” في مارس 2021. وقد جاءت تلك الزيارة استكمالا لمسيرة طويلة من العلاقات الثنائية بين البلدين، حيث شهدت العلاقات بين مصر وتنزانيا تطورات إيجابية كبيرة في المجالات كافة منذ عام 2014، بعد موقف تنزانيا الإيجابي والمساند لإرادة الشعب المصري في ثورة 30 يونيو.

 أما التطور الأبرز في العلاقات بين مصر وتنزانيا في السنوات الأخيرة، فقد تمثل في الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس السيسي إلى تنزانيا في 14 أغسطس 2017، حيث كانت أول زيارة لمسئول مصري منذ عام 1968. كما جاءت زيارة رئيسة تنزانيا لمصر لتكلل جهود القيادتين بمزيد من التعاون فى ظل دعم مصر الكامل لتنمية القدرات وزيادة التعاون الأفريقي – الأفريقي فى شتى المجالات.

 يذكر أن العلاقات بين مصر وتنزانيا اكتسبت زخما كبيرا في الخمسينات والستينات من القرن الماضي أثناء الكفاح المشترك من أجل الاستقلال، حيث كان هناك علاقة قوية بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والرئيس التنزاني “جوليوس نيريري” الذي سبق وزار مصر وكانت محطة تاريخية في سبيل تعزيز العلاقات بين البلدين.

وانطلاقا من تلك الزيارة التاريخية لأول رئيسة لتنزانيا إلى مصر، نستعرض أوجه التعاون الاقتصادي بين البلدين، وأهم الملفات محل التركيز أثناء تلك الزيارة .

العلاقات الاقتصادية بين مصر وتنزانيا:

(*) التعاون التجارى: لا يزال حجم التبادل التجاري بين مصر وتنزانيا محدودًا على الرغم من التحسن الكبير الذي شهدته السنوات القليلة الماضية، حيث ارتفع من 22 مليون دولار في عام 2010 إلى 36.2 مليون دولار في عام 2015 ،  ووصل إلى 47 مليون دولار أمريكي في عام 2018 مسجلة بذلك قفزة بنسبة  75 % مقارنة بعام 2017 ، الذى بلغ فيه حجم التجارة  نحو 24 مليون دولار. وتعد هذه أعلى زيادة في حجم الصادرات المصرية إلى تنزانيا منذ أكثر من 5 سنوات، وجاءت انعكاساً لتوثيق العلاقات بين البلدين، خاصة بعد زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي لتنزانيا تلبية لدعوة نظيرها لتنزانيا في أغسطس 2017. واستمر التبادل التجارى  فى الارتفاع ليصل إلى 49 مليون دولار عام 2019، بحسب مكتب التمثيل التجاري في تنزانيا. ويتصدر السكر والمنتجات الكيماوية والبلاستيك قائمة الصادرات المصرية إلى تنزانيا، بينما يتصدر الشاي والتبغ والنحاس قائمة الصادرات التنزانية إلى مصر. ويبذل البلدان جهودًا حثيثة لتعزيز التبادل التجاري بينهما، ويأمل كلاهما أن تضاعف منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، التي دخلت حيز التنفيذ في يناير 2021 ، حجم التجارة البينية بين الدول الأفريقية.

(*) العلاقات الاستثمارية: يعد الاستثمار بين مصر وتنزانيا أكثر تطوراً مقارنة بالتبادل التجاري. حيث تعمل عشرات الشركات المصرية وشركات الخدمات الاستشارية في تنزانيا في مجالات اقتصادية وتنموية مختلفة. ولا يزال فوز مجموعة شركات مصرية بعقد بناء سد Stiegler’s Gorge أهم إشارة على علاقات الاستثمار القوية بين البلدين. حيث يصل عدد الشركات العاملة في مشروع السد تحت مظلة كل من شركتى (المقاولون العرب والسويدي إليكتريك)  نحو 1200 شركة باستثمارات تصل إلى 7 مليارات يورو.

فقد استطاعت الشركات المصرية الفوز بالمناقصة الخاصة بالمشروع بعد منافسته مع 12 شركة عالمية ، وهو مؤشر على قوة الشركات المصرية العاملة في إفريقيا. وتشمل أنشطة تلك الشركات كل من الأعمال الكهروميكانيكية الرئيسية لمحطات الكهرباء بسعة مركبة 2115 ميغاوات، وأنظمة تبريد وتصريف المياه، ومحطة ربط بقوة 400 كيلوفولت، و3 مولدات احتياطية لمحطة الكهرباء الرئيسية. وبوابات الصرف. وتشمل الأعمال المدنية إنشاء طرق تربط موقع السد بشكل دائم بشبكة الطرق الوطنية بطول 21 كم، وطرق مؤقتة للموظفين بالموقع بطول 59 كم، وسد الصخور على نهر روفيجي، ومحطة توليد طاقة 100 كيلو فولت، كذلك إنشاء أربعة سدود صغيرة لتجميع المياه وتخزينها، ونفق بطول 660 مترًا للمياه لتحويل نهر روفيجي، بالإضافة إلى بناء مجمع سكني يمتد على أكثر من 19000 متر مربع لسكن الموظفين. ومن المتوقع أن يتم الانتهاء من السد بحلول عام 2022 بتكلفة 2.9 مليار دولار أمريكي.

هذا فى ظل تواجد الاستثمار المصرى فى مجالات الزراعة والمزارع المشتركة النموذجية، كذلك التصنيع الغذائى والصناعات الدوائية والغزل والنسيج، فضلاً عن الفرص المتاحة للاستثمار فى المصانع المملوكة للحكومة التنزانية والمطروحة للخصخصة.

محاور اللقاء المصرى التنزانى:

أشادت سامية حسن، رئيسة تنزانيا، بالتقدم الذي أحرزته مصر في الوقت الحالي على كل الأصعدة، مؤكدةً أن نجاح مصر في شتى المجالات، يعد درسا ملهمًا لبلادها. كما أكد الرئيس السيسي، حرص مصر على تعزيز العلاقات وترسيخ التعاون الاستراتيجي مع تنزانيا، خاصةً على المستوى الاقتصادي والتجاري والأمني، إضافة إلى الترتيب لعقد اللجنة المشتركة بين البلدين. وجاءت أهم محاور هذا إلقاء الهام كما يلى:

(&) بحث سبل الاستثمار المشترك: تم بحث آليات زيادة الاستثمارات المصرية في تنزانيا، وسبل تيسير عمل الشركات المصرية الساعية إلى التواجد في السوق التنزاني، لاسيما في ضوء الاهتمام المتنامي من مجتمع الأعمال المصري خلال السنوات الأخيرة بالاستثمار في السوق التنزاني، خاصةً في ضوء النجاح الذى حققته الشركات المصرية المتواجدة حاليًا في تنزانيا، وهو ما يعد خير دليل على الزخم الجاري في العلاقات الثنائية، والإمكانات الهائلة التي يمكن استغلالها لتعزيز التعاون بين البلدين.

كما تم فتح المجال للتعاون في مجالات الثروة السمكية والإنتاج الحيواني والزراعة فضلًا عن مجال صناعة الدواء والتعدين والنقل وباقي الصناعات الأخرى. وشدد الرئيس السيسي، على حرص مصر على دعم الاحتياجات التنموية لتنزانيا، خاصة في قطاعات البنية التحتية والكهرباء والصحة، من خلال تعظيم استثمارات الشركات المصرية المتخصصة التي أصبحت لديها تجربة وخبرة عريضة في تلك المجالات.

(&) استكمال إنشاء سد تنزانيا: سبق وأن وجه الرئيس “ماجوفولي” الدعوة للرئيس السيسي لوضع حجر الأساس لمشروع إنشاء السد التنزاني، معربًا عن تطلعه لأن يضع الرئيس السيسي مشروع إنشاء السد تحت إشرافه أسوة بالمشروعات القومية الكبرى الجاري تنفيذها في مصر، وهو ما رحب به الرئيس السيسي. وفي 12 ديسمبر 2018، استقبل رئيس تنزانيا، مصطفي مدبولي، رئيس الوزراء المصري، وذلك على هامش مشاركة رئيس الوزراء في احتفالية توقيع عقد إنشاء مشروع سد لتوليد الطاقة الكهرومائية في حوض نهر روفيجي.

 واستكمالا لتلك الجهود، أكدت سامية حسن على الدعم الكامل لتنفيذ مشروع بناء سد “جوليوس نيريرى”، لضمان تحقيق أفضل مستويات الأداء والمعايير الإنشائية، وبحيث يصبح هذا السد نموذجاً رائداً ورمزاً للتعاون والصداقة بين مصر وتنزانيا وكافة الدول الإفريقية الشقيقة، لاسيما وأن إتمام هذا المشروع القومي من شأنه تحقيق آمال وتطلعات الشعب التنزاني الشقيق، للحصول على حياة أفضل، كما يمثل هذا المشروع نموذجاً للدعم المصري لحقوق دول حوض النيل في تحقيق الاستغلال الأمثل لمواردها المائية بما لا يؤثر سلباً على حقوق ومقدرات الدول الأخرى.

وقد أشار الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى أن سد «جوليوس نيريري»، سيبنى بخبرة وسواعد مصرية على أعلى مستوى من الأمن والأمان، لتوليد 215 مجيا وات كهرباء بتكلفة تتخطى 3 مليارات دولار، مؤكدًا أن الشعوب الأفريقية تقدر للدولة المصرية حرصها على تنميتها ورفاهيتها.ويعتبر هذا السد بمثابة بداية لدخول مصر في مشروعات البنية التحتية في مختلف ربوع القارة، كما يعتبر تحولا جديدا في مسار العلاقات المصرية التنزانية.

(&) قضية سد  النهضة: تعتبر تنزانيا أحد أهم دول المنبع ومؤثرة في ملف سد النهضة، ومن هنا جاء الحديث حول السد الإثيوبي وضرورة التوصل إلى اتفاق ملزم لإثيوبيا حيث تم التوافق على تكثيف التنسيق بين البلدين خلال الفترة المقبلة بشأن هذه القضية الحساسة والحيوية، وقد أكد السيد الرئيس الأهمية القصوى لقضية المياه بالنسبة للشعب المصري باعتبارها مسألة أمن قومي، ومن ثم تمسك مصر بحقوقها المائية من خلال التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم وعادل لملء وتشغيل سد النهضة، وذلك استناداً لقواعد القانون الدولي والبيان الرئاسي لمجلس الأمن الدولي في هذا الشأن، بما من شأنه أن يعزز الأمن والاستقرار بالمنطقة ككل، ويفتح آفاق للتعاون بين دول حوض النيل، ويحقق المصالح المشتركة لجميع الأطراف.

(&) ملف الأمن وقضايا الإرهاب: تم التنسيق بين البلدين في مجال مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف، مع الأخذ في الاعتبار تجربة مصر في نشر مفهوم الإسلام الوسطى الصحيح ومكافحة التعصب الديني والكراهية ودعم الحفاظ على قيم التعايش والتسامح. كما أشادت الرئيسة التنزانية بالدور المحوري الذي تضطلع به مصر إقليمياً على صعيد صون السلم والأمن، مثمنةً في هذا الصدد المواقف المصرية الهادفة إلى تحقيق الاستقرار في منطقة البحيرات العظمى وشرق أفريقيا وحوض النيل، والتي انعكست على الدعم المصري الكبير لحل القضايا العالقة في هذا الإطار في كافة المحافل الدولية والإقليمية. وأعربت عن خالص تحياتها للحكومة المصرية، على مواصل الدعم في بناء القدرات لأفراد الجيش التنزاني.

(&) تعزيز التعاون التجارى: خلال تلك الزيارة الهامة، تم التوافق على أهمية الاستغلال الأمثل للموارد التى تنعم بها الدولتين لخدمة مصالحهما، وذلك من خلال زيادة معدلات التبادل التجاري، والذي من المتوقع أن يشهد المزيد من النمو خلال السنوات المقبلة ليرتقي لمستوى العلاقات السياسية المتميزة بين البلدين، خاصة فى ظل وجود الدولتين فى الجماعة الاقتصادية لدول الشرق والجنوب الأفريقي ( الكوميسا ) أكبر وأهم التكتلات الاقتصادية الأفريقية.

(&) سبل دعم التعليم والتدريب: تم توقيع مذكرات تفاهم بين البلدين فى مجالات الشباب والرياضة والتعليم والمنح الدراسية، كذلك برامج بناء القدرات من جانب الحكومة المصرية، بشأن نقل الخبرات المصرية وتوفير الدعم الفني وتعزيز بناء قدرات الكوادر الوطنية التنزانية من خلال توفير الدورات التدريبية التي تقدمها عدة جهات مصرية وفى مقدمتها الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية، هذا فى الوقت الذى أثمنت فيه تنزانيا الدعم المصري المعرفي والتعليمي، وطالبت بزيادة الفرص في مختلف المجالات ذات المصلحة المتبادلة.

تأسيسا على ما سبق، يتضح أن العلاقات المصرية التنزانية هي بمثابة علاقات تاريخية راسخة، تمثل قدوة لعلاقات أخرى كثيرة مابين الدول الأفريقية بعضها البعض. فكلتا البلدين استطاعوا أن يضعوا نموذجًا متكاملًا للتعاون الشامل مبني على فكرة التعاون والصداقة والمنافع المشتركة .ومستند إلى إرادة سياسية مشتركة تهدف إلى الحفاظ على تلك العلاقات، بل وتعزيزها وتطويرها في مختلف المجالات خلال الفترة المقبلة .وجاءت تلك الزيارة التنزانية لمصر لتضع المزيد من  مجالات التعاون المشترك تحت ضوء التنفيذ، وتؤكد على أن مصر تسعى دائما وأبدا نحو تحقيق التنمية الاقتصادية لدول القارة الأفريقية ، وتساعدهم فى ذلك بصدر رحب وبكل ما أوتيت من قوة.

د.جيهان عبد السلام

مساعد مدير المركز في الملفات الاقتصادية والدراسات الإفريقية. -أستاذ مساعد الاقتصاد بجامعة القاهرة. -حاصلة على دكتوراه الاقتصاد بكلية الدراسات الأفريقية العليا. -عضو هيئة تحكيم البحوث الاقتصادية لدى المركز الجامعي لترامنست. -عضو هيئة تحكيم لدى كلية الاقتصاد والإدارة وعلوم التيسير. -عضو هيئة تحكيم لدى جامعة الشهيد لخضر. -خبير اقتصادي وكاتبة في العديد من المجلات العلمية ومراكز الدراسات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى