لبنان.. تحديات صعبة وإشكاليات مستمرة
د. طارق فهمي
مع تحوّل الاحتقان السياسي في لبنان -بسبب تحقيقات انفجار مرفأ بيروت- إلى اشتباكات طائفية بين منطقتين، ينفتح المشهد هناك على خيارات صعبة.
الأحداث اللبنانية أيقظت أجواء الحرب الأهلية، خصوصاً أن الاشتباكات، التي انطلقت منها الحرب عام 1975 بدأت من المنطقتين اللتين شهدتا اشتباكات مؤخرا، وأن الإعلان عن وقف المواجهات والاحتكام إلى القانون غائبٌ في ظل حالة من التجاذبات الحقيقية، والتي تُلقي بتداعياتها على إدارة المشهد اللبناني بأكمله.
ومع تواصل المواجهات، رغم تحذيرات الجيش اللبناني والاتحاد الأوروبي والقوى الدولية، بعد سقوط قتلى وجرحى، يكون لبنان قد دخل مرحلة الترقب وعدم الاستقرار.
واضح أنَّ تأزُّم الوضع في لبنان ينذر بشكل متسارع باقتراب البلد من الانهيار الكامل ما لم تكن هناك فرصة عبر الانتخابات القادمة، وقوى التغيير، وكذلك من خلال دور يلعبه المجتمع الدولي، فما يُصيب لبنان منذ فترة طويلة متواصل في ظل حالة من التخريب لما يجري على المستوى السياسي تقوم به القوى الحاكمة، وذلك لحماية مكتسباتها، ما أدى إلى تفكك أوصال الدولة ومؤسساتها.
ولعل عملية التخريب واسعة النطاق تتناول حياة الشعب اللبناني بأسره، وتعمل على تفكيك كل الأسس، التي تعتمد عليها حياة الشعب اليومية، فما يشهده لبنان هو من نتائج الصراع الدائر منذ سنوات بسبب تدخل إيران في الشأن اللبناني عبر ذراعها هناك، “حزب الله”.
لبنان بالفعل على فوهة بركان، ويتفق الخارج والداخل على أنه لم يعد بعيدا عن الانهيار الكامل، الذي يتزامن معه قطع طرق ونشوب صراعات مسلحة، في ظل مخاوف من استمرار التظاهرات، التي يمكن أن تتحول إلى فوضى عارمة في كل ربوع الوطن اللبناني.
واضح أيضا أن المنظومة السياسية والمالية الراهنة قد أدخلت اللبنانيين مرحلة جديدة معتمة، مظلمة وظالمة، عنوانها الفقر والجوع والبطالة وأزمات أخرى، وهناك توقعات بأن الأسوأ لم يأتِ بعدُ على لبنان، حيث لن يكون من السهل وضع حد لانفلات الشارع في مواجهة الطبقة السياسية، التي أغرقت لبنان في دائرة مفرغة، ولن يُجدي مسعى واشنطن وباريس ودول عربية مُخلصة في إيجاد قيادة لبنانية مؤهّلة للخروج من الأزمة الحالية.
وتشير الانتقادات القوية، التي وجّهها وزيرا الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، والفرنسي جان إيف لودريان، للزعماء اللبنانيين إلى بداية تنسيق جدي وغير مسبوق بين البلدين، أمريكا وفرنسا، ليشمل محاسبة شخصيات سياسية ومصرفية لبنانية، لإعادة توجيه مسار ما يجري في لبنان.
الحل الأقرب لمواجهة تدهور الأوضاع في لبنان يتمثل في إجراء انتخابات، باعتبارها الفرصة الأخيرة المتاحة أمام قوى التغيير الحقيقية، إذا ما أرادت إخراج لبنان من دائرة الفراغ، وإنقاذ الوطن والدولة والمؤسسات وسيادة القانون وتعميم العدالة، فلا سبيل إلى تشكيل حكومة إصلاحية هناك حقا في ظل تكريس نظام المحاصصة، ولا سبيل أيضا إلى نجاحها في تنفيذ ما تتعهد به من إصلاحات، ومن ثم فإن قوى التغيير مطالبة بالدعوة إلى توحيد أطرافها وصفوفها في جبهة وطنية متماسكة وفاعلة، حيث ستعمل لتحقيق التغيير والإصلاح وفق شروطها، وأهمها قانون ديمقراطي للانتخاب يكفل التمثيل الشعبي وعدالته بعيدا عن أي تدخل خارجي، مع الرهان على أن الجيش اللبناني هو البديل الأمثل، لأنه ما عاد بالإمكان الاتكال على القوى السياسية اللبنانية التقليدية، التي تحولت إلى حلقة واسعة من المواقف المرتبكة، بالتزامن مع استمرار تنامي قوة “حزب الله”، الذي يُدار من إيران، وتراجع دور قوى “14 آذار”، مع الإشارة إلى عدم التحاق أكثر من 2000 جندي في الجيش اللبناني بمراكز خدمتهم بسبب ضيق الأحوال الاقتصادية وتراجع قيمة رواتبهم بشكل كبير بفعل الأزمة المالية التي تشهدها الدولة اللبنانية.
في كل الأحوال، فإن المشهد اللبناني يمضي في سياقات محددة، فالوضع حساس جدا وأمام استحقاقات صعبة، وقد تفاعل البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي، أكبر رجال الدين المسيحي في لبنان، مع ما يجري عندما قال إن القضاء “يجب ألا يكون موضع تدخل سياسي أو طائفي”، وذلك وسط توتر متصاعد بسبب التحقيق في الانفجار، الذي وقع العام الماضي في مرفأ بيروت.
وقال “الراعي” إنه “لا يجوز لأي طرف في لبنان أن يلجأ إلى التهديد أو العنف”، كما “يجب تحرير القضاء من التدخل السياسي والطائفي والحزبي وفقا لمبدأ الفصل بين السلطات”.
و”الراعي” ممثل أكبر الطوائف المسيحية في لبنان، الذي تتقاسم السلطة فيه طوائفه الرئيسية، المسيحية والإسلامية والدرزية.
التغيير الحقيقي في لبنان إذاً يأتي عن طريق تغيير العقليات والبنية ونظام انتخابي يسمح بالتدرج من الطائفية إلى المواطنة، وضرورة إبعاد لبنان عن الصراعات الخارجية.. التغيير لن يكون ممكنا إلا بعد تغيير موازين القوى بالداخل.
تبقى الإشارة إلى أن العالم العربي بحاجة ماسة إلى عودة لبنان أيضاً لممارسة دوره الطبيعي منارةً للثقافة والفن والإبداع، كما كان على مدار عقود طويلة، وهذه العودة تتحقق بالوصول إلى مرحلة الاستقرار واستئناف مسيرة التنمية، وبمنح الحكومة والسلطات المعنية الفرصة للقيام بدورها، ما يتيح للمجتمع الدولي التواصل بشكل فعال من أجل تقديم مختلف أشكال الدعم والمساندة للبنانيين لاستئناف حياتهم.
إن لبنان قادر، رغم الصعوبات، على النهوض من جديد، وأولويات الحكومة اللبنانية في الظرف الراهن هو تحقيق الإصلاح المالي وزيادة ساعات التغذية الكهربائية، بالإضافة إلى دعم الأسر الأكثر فقرا، وتأمين المستلزمات الحياتية لها، واعتماد الشفافية المطلقة في كل المشروعات الإنمائية، وبشكل خاص إعادة إعمار مرفأ بيروت، مع التزام إجراء الانتخابات النيابية في موعدها، لما يشكله هذا الاستحقاق من أولوية في تحديد خيارات الشعب اللبناني والتقيد بأحكام الدستور.
نقلا عن العين الإخبارية.