هل تُغير القمة “الإفريقية الفرنسية للشباب” من صورة باريس في أفريقيا؟

على الرغم من إعلان الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” عن أهمية تعزيز العلاقات بين باريس والقارة الإفريقية، وذلك في خطابه الذي ألقاه في العاصمة البوركينابية واغادوغو في عام 2017 (بعد أشهر قليلة من توليه السلطة)، إلا أن الأشهر الأخيرة شهدت مرحلة من اهتزاز الصورة النمطية الفرنسية في القارة السمراء، وتصاعد حدة لهجة التنديد ضد باريس وانخراطها في القارة، وفي هذا الصدد عمد الإيليزية إلى تنظيم قمة فرنسية- إفريقية في مدينة مونبيلييه وذلك في الـ 8 من أكتوبر الجاري، بيد أن ملامح هذه القمة اختلفت كثيراً عن القمم المماثلة التي لطالما اهتمت باريس باستضافتها منذ عام 1973 لتعزيز دورها وحضورها في المنطقة، حيث لم يتم دعوة زعماء وحكام الدول الإفريقية أو قادة المؤسسات الرسمية، بينما تم تخصيص هذه القمة لشباب إفريقيا وفرنسا، في محاولة من قبل الرئيس “إيمانويل ماكرون” إلى التوصل إلى توافقات وجذب هؤلاء الشباب الإفريقي بما يعيد من تأطير الصورة التقليدية لفرنسا في القارة، وتخفيف حدة التوتر والغضب الداخلي والمتصاعد تجاه باريس. وفي هذا الإطار تسعى هذه الورقة إلى قراءة تحليلية لإبعاد وسياقات هذه القمة الإفريقية الفرنسية، وانعكاساتها على شكل العلاقات المتأرجحة بين دول القارة وباريس، وهل يمكن أن تنجح مساعي الإليزيه في الاعتماد على الشباب الإفريقي في إعادة إحياء النفوذ الفرنسي المتراجع؟

علاقات متأزمة:

تشهد علاقات فرنسا بدول القارة الإفريقية تراجعاً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، ربما يعزى جزء من هذا التراجع إلى رحيل الزعماء الإفريقيين القريبين – وربما المواليين- لباريس، ومن ثم فقدان الأخيرة لحلفائها في القارة والذين كانوا يضمنوا لها حضوراً رئيسياً، بيد أن رحيلهم فتح الباب أمام توسيع رقعة التجاذبات والتنافس الدولي والإقليمي في القارة السمراء، الأمر الذي خصم كثيراً من النفوذ الفرنسي هناك، خاصةً في ظل صعود أجيال جديدة من الشباب الإفريقي تستنكر الوجود الفرنسي وتعتبره بمثابة استمراراً لمرحلة الاستعمار.

وفي هذا السياق، تأتي القمة الفرنسية- الإفريقية في إطار حالة من التوتر تهيمن على علاقات باريس بدول القارة، فمن ناحية ثمة تصعيد واضح في العلاقات بين فرنسا وبعض دول الساحل والصحراء وفي مقدمتها مالي، وذلك بعدما بدأت الأخيرة في التقارب مع روسيا وعقد صفقة مع شركة فاغنر الروسية للمشاركة في عمليات التأمين وحفظ الأمن في باماكو، وهو ما تمخض عنه تصاعد غير مسبوق في لهجة الخطابات العدائية بين فرنسا والسلطات الحالية في مالي، خاصةً وأن التقارب بين باماكو وموسكو قد جاء في ظل تنامي الحضور الروسي في المنطقة وتصاعد حدة تنافس النفوذ والدور بين باريس وموسكو، وفي ظل هذه العلاقات المتأزمة بين فرنسا ومالي(لا تختلف التوترات الفرنسية كثيراً مع تشاد ومدغشقر وغينيا وعدة دول أخرى)، شهدت قمة الشباب الفرنسية- الإفريقية الأخيرة موقفاً محرجاً تعرض له الرئيس “ماكرون” عندما وجهت له شابة مالية انتقادات حادة بشأن أهداف الانخراط الفرنسي في القارة ومنطقة الساحل، والتداعيات السلبية التي أفرزها التدخل الفرنسي على الأوضاع الأمنية والاجتماعية هناك.

لم تقتصر العلاقات الفرنسية – الإفريقية المتوترة على مالي فقط أو حتى عدة دول أخرى في منطقة الساحل والصحراء، بل امتدت التصدعات أيضاً للدول المغاربية في شمال إفريقيا، حيث شهدت علاقات باريس بكل من المغرب وتونس والجزائر بعض التوترات خلال الفترة الأخيرة بعد قرار باريس تقليص عدد التأشيرات الممنوحة لمواطني هذه الدول إلى النصف، بدعوى رفض الدول المغاربية إصدار التصريحات اللازمة لعودة مهاجرين هذه الدول المرحلين من قبل باريس، وبينما اعتبرت الكثير من التقارير أن هدف “ماكرون” من هذه الخطوة كان بالأساس موجهاً للداخل في محاولة منه لكسب دعم اليمين له في الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد نحو سبعة أشهر، بيد أن هذا الأمر أفرز توترات جديدة للإليزيه في القارة الإفريقية.

وفي الواقع، تشهد العلاقات الفرنسية – الجزائرية حالة من الشد والجذب منذ فترة طويلة، بيد أن هذه الخطوة الأخيرة من قبل باريس وما أعقبها من تصريحات حادة صدرت عن الرئيس الفرنسي تجاه الجزائر ونظامها السياسي الحالي أثار غضب الأخيرة، بل ودفعها إلى سحب سفيرها من باريس وإغلاق مجالها الجوي أمام الطيران العسكري الفرنسي، وهو ما ترتب عليه تداعيات سلبية على عمليات فرنسا في منطقة الساحل الإفريقي.

حلول جديدة:

وفي إطار مساعي فرنسا للبحث عن آليات وحلول جديدة تعيد من خلالها تعزيز أواصر العلاقات مع مناطق نفوذها التقليدية في القارة الإفريقية، حاول الرئيس “ايمانويل ماكرون” الاعتماد على التواصل مع الأجيال الصاعدة من دول القارة، تجنب خلالها دعوة أي من رؤساء دول أو حكومات القارة السمراء، أو حتى دعوة قادة مؤسسات رسمية في سابقة جديدة للقمم الفرنسية الإفريقية التي بدأت منذ عام 1973، لكنه أعتمد بدلاً من ذلك على دعوة نحو 3000 من الشباب الإفريقي والفرنسي (من 12 دولة إفريقية مختلفة)، باعتبارهم مستقبل العلاقات الفرنسية- الإفريقية والقادرين على إعادة إحياء وتجديد نمط هذه العلاقات وفقاً للتصريحات الفرنسية، ومن ثم أصبح “ماكرون” الرئيس الوحيد المتواجد في هذه القمة، وسعى خلالها إلى توجيه رسائل إيجابية للشباب الإفريقي.

وقد تضمنت هذه القمة -التي استمرت لنحو خمسة أيام- برنامجاً مكثفاً شمل اجتماعات حوارية مفتوحة، وعروض ثقافية ورياضية وفنية، كما شهدت حضور العديد من رجال الأعمال ورواد الأعمال والمثقفين لمحاولة بناء جسور مشتركة مع الشباب الإفريقي، وتعزيز دور المشاركة المدنية وبناء شبكات جديدة، وتبادل الخبرات الخاصة بالبحث العلمي والتعليم العالي.

ويجب الأخذ في الاعتبار أن الرئيس الفرنسي كان قد رفع شعار التواصل مع الشباب الإفريقي منذ توليه السلطة في عام 2017، وهو الأمر الذي كان قد أعلن عنه “ماكرون” في خطابه الذي ألقاه في عاصمة بوريكينا فاسو واغادوغو قبل نحو أربعة سنوات، بيد أن القمة الأخيرة ربما تمثل الخطوة العملية نحو هذه الاستراتيجية، والتي ألمحت بعض التقارير إلى أنها تنطوي على “تحولاً” محتملاً في توجهات السياسية الخارجية الفرنسية من التركيز على المؤسسات الرسمية والحكومات إلى الانخراط في المنظمات الأهلية والمجتمع المدني والآليات المختلفة للقوى الناعمة، ولعل هذا ما قصده بيان الإليزيه الذي ألمح إلى ضرورة “الخروج من أنماط وصيغ التفاعلات التقليدية المتهالكة”.

وقد انطوت القمة على ثلاثة أبعاد رئيسية، البعد السياسي، والبعد الاقتصادي، والبعد الثقافي، فإلى جانب مناقشة الملفات الخلافية بين فرنسا وبعض الدول الإفريقية، فضلاً عن بحث ملفات الاستعمار والرقيق وقضايا الهجرة غير الشرعية، منحت القمة أهمية خاصة للفاعلين الاقتصاديين، فقد سبقتها اجتماعات في باريس مع نحو 350 من رواد الأعمال الإفريقيين، كما شهدت القمة أيضاَ مباحثات خاصة بالبعد الثقافي، ارتكزت على ملفات على غرار إعادة الممتلكات الثقافية وغيرها.

صندوق الابتكار من اجل الديمقراطية:

شهد اليوم الأخيرة من القمة الفرنسية- الإفريقية جلسة عامة بين شباب الـ12 دولة إفريقية المشاركة في القمة بالإضافة إلى بعض الشباب الفرنسي، وقد حضر الرئيس الفرنسي هذا اللقاء، حيث تم فتح المجال أمام مناقشة العديد من الموضوعات الخاصة بالشأن الإفريقي وعلاقتها بفرنسا، وارتبطت بعض التساؤلات التي وجهت لماكرون بالتوترات الراهنة بين باريس وعدد من الدول الإفريقية فضلاً عن الحديث عن حقبة الاستعمار الفرنسي ودور باريس في تجارة الرقيق في القارة، وفي هذا الإطار اعترف الرئيس الفرنسي بمسئولية بلاده في هذا الشأن لكنه رفض تقديم أي اعتذارات عن الماضي، مشيراً إلى ضرورة تجاوز الماضي.

أيضاً، شهدت جلسة الحوار المفتوح إعلان “ماكرون” عن إنشاء “صندوق الابتكار من أجل الديمقراطية في أفريقيا”، بالإضافة إلى جملة من المبادرات الثقافية، ومن المفترض أن تكون هناك إدارة مستقلة لهذا الصندوق، حيث تم تخصيص مبلغ مبدئي له يقدر بحوالي 30 مليون يورو خلال ثلاث سنوات، ويستهدف هذا الصندوق دعم الجهات الفاعلة في التغيير والتحول الديمقراطي.

كذلك، تعهد الرئيس الفرنسي بإنشاء صندوق آخر لدعم الشركات الإفريقية المبتكرة والناشئة في مجال القطاع الرقمي، والذي من المفترض أن تبلغ قيمته حوالي 10 مليون يورو، وهو ما يأتي في إطار مبادرة “أفريقيا الرقمية”، كذا أعلن “إيمانويل ماكرون” عن إنشاء مؤسسة خاصة بالدراسات الإفريقية سيتم تقديم المقترحات الخاصة به خلال الأشهر الستة المقبلة، وبضاف لذلك صندوق خاص بمساعدة المتاحف الإفريقي على استضافة الأعمال العالمية، فضلاً عن برنامج آخر لدعم الأكاديميات الرياضية في القارة الإفريقية، وتعكس هذه التحركات المكثفة محاولات استعادة فرنسا لدورها في القارة عبر أدوات القوة الناعمة التي لطالما نجحت باريس في استغلالها للانخراط في مناطق نفوذها.

تشويه متعدد الأجيال:

وتجدر الإشارة إلى أن الفيلسوف والمؤرخ الكاميروني “أشيل مبيمبي” كان قد قاد عملية اختيار الشباب الإفريقي الذين شاركوا في هذه القمة، فقد تم تكليفه من قبل الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” بمهمة إدارة عملية المناقشات والاختيار قبل موعد القمة، كما قدم “مبيمبي” تقريراً لماكرون قبل بدء انعقاد جلسات القمة الفرنسية- الإفريقية، حيث تضمن هذا التقرير توصية للإدارة الفرنسية تشير إلى أن باريس “تعد منفصلة عن واقع الحركات الجديدة والتجارب السياسية والثقافية التي يقوم بها الشباب الإفريقي”، ملمحاً إلى خطورة استمرار فرنسا في دعم الاستبداد في القارة السمراء على صورة الاليزيه لدى الشعوب الإفريقية، وتجدر الإشارة هنا إلى أن “مبيمبي” تعرض إلى انتقادات حادة من قبل نظرائه الأفارقة بسبب موافقته على تنظيم هذه القمة.

وفي هذا السياق، نشرت مجلة الإيكونوميست The Economist تقريراً بشأن سياسة ماكرون تجاه القارة الإفريقية، وقد تضمن هذا التقرير بعض تصريحات كان “مبيمبي” قد أطلقها قبل نحو عام من الآن، حيث أشار إلى أن باريس لا تزال غير مدركة جيداً للإشكاليات التي باتت تهدد نفوذها وحضورها في القارة الإفريقية، حيث تنطوي أحد أبرز هذه الإشكاليات في فكرة “التشويه متعدد الأجيال”، والذي يعني بأن تشويه صورة فرنسا في القارة يمثل ظاهرة بنيوية لا تقتصر على جيل محدد بل أضحت متوارثة عبر الأجيال، وهو الأمر الذي يزيد من صعوبة تغير هذه الصورة النمطية.

في النهاية، ثمة محاولات مكثفة من قبل فرنسا لمواجهة التنافس الدولي والإقليمي المتنامي في القارة الإفريقية، خاصةً في ظل الحضور الروسي المتنامي في مناطق النفوذ التقليدية لباريس، وهو ما جعل الإليزيه يبدأ في التحرك السريع لإعادة صياغة صورتها في القارة، خاصةً بعدما أدركت فرنسا عدم فاعلية الانخراط العسكري في مناطق التوتر، ومن ثم يبدو أن الحكومة الفرنسية تعمل في الوقت الراهن على إعادة بلورة آليات جديدة تضمن لها التموضع والبقاء في المنطقة، فضلاً عن القدرة على المنافسة وتجنب تهميش دورها.

من ناحية أخرى، يجب الأخذ في الاعتبار أن فرنسا مقبلة على انتخابات رئاسية حاسمة في أبريل المقبل، وفي ظل الإخفاقات المتعدد للرئيس “إيمانويل ماكرون” سواء في الملفات الداخلية والخارجية، بدأ الأخير في العمل مؤخراً على تبني بعض السياسات التي يستهدف من خلالها كسب أصوات شرائح معينة من الناخبين الفرنسيين، فمن ناحية، تعكس حالة التصعيد التي أتبعها ماكورن إزاء الدول المغاربية وفي مقدمتها الجزائر مساعيه لكسب دعم وتأييد اليمين الفرنسي (بما في ذلك اليمين المتطرف)، كذلك، يسعى ماكرون إلى كسب دعم وتأييد شريحة الفرنسيين من أصل أفريقي عبر هذه الدبلوماسية الناعمة، فضلاً عن اليسار الفرنسي.

ويضاف لذلك محاولات الرئيس الفرنسي تحقيق نوعاً من الإنجازات في سياساته الخارجية خاصة تلك المتعلقة بالدور الفرنسي في القارة الإفريقية، ولعل العملية العسكرية التي قادتها باريس في سبتمبر الماضي والتي تمخض عنها مقتل قائد تنظيم داعش في الصحراء الكبرى “عدنان أبو وليد الصحراوي” تعزز هذا الطرح.

لكن، على الرغم من المحددات السابقة التي ربما تفسر التحركات الفرنسية في القارة الإفريقية، والتي يمكن إضافة بعد آخر لها يتمثل في التوترات الراهنة في علاقة فرنسا والولايات المتحدة، ومساعي باريس إلى التحرك بشكل منفرد في الملفات التي تشكل مصالحها الخاصة، بيد أن مدى نجاح هذه المساعي الفرنسية لا يزال محل شك، في ظل التشويه الواسع الذي غلف الصورة الفرنسية في القارة السمراء، والذي ربما تعكسه الانتقادات المتصاعدة التي وجهت للقمة الفرنسية – الإفريقية الأخيرة من قبل بعض الأفارقة، مما يجعل نتاج هذه التحركات التي تقوم بها باريس تحتاج إلى وقت أطول كي يمكن الحكم علي نجاحها من عدمه، ولعل هذا ما أشار إليه بوضوح المفكر الكاميروني “أشيل مبيمبي” والذي ألمح إلى أن هذه القمة لن تغير شكل العلاقات الفرنسية- الإفريقية، لكنها تعد بمثابة البداية التي يمكن البناء عليها في رحلة طويلة ربما تحتاج إلى جيل أو جيلين

المراجع

  1. David Coffey, Post-colonial order under fire at Africa-France ‘youth summit’, RFI, 8 October 2021, available on:
  2. Emmanuel Macron hosts a different sort of Africa summit, the Economist, Oct 9th 2021 edition, available on: https://econ.st/3DpZClp
  3. France seeks to reinvent its relationship with Africa, Africanews, 6 October 2021, available on:

 

 

عدنان موسى

باحث في الشئون الأفريقية معيد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، وباحث سياسي منذ 2013، نشر العديد من الدراسات والأبحاث الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى