صراع الباسيفيك.. ماوراء الكواليس
عبد السلام فاروق
اتضح أننا لا نعرف إلا أقل القليل؛ فبعد أن ظهرت وثائق “ويكليكس” ومن بعدها منذ أيام وثائق “باندورا” تأكد لنا أن عالم السياسة غارق حتى النخاع فى مستنقع أسرار بعيد الغور!
فرنسا نفسها اعترفت أنها جهلت الحقيقة وتعرضت للخديعة من أقرب حلفائها، وأنها لم تتوقع أبداً أن تقع ضحية طعنة مزدوجة من حليفين كأمريكا واستراليا، وغريم تاريخى كبريطانيا.
حتى فرنسا،الدولة الأوروبية الكبري، لم تكن تدرى ما يحاك لها فى الخفاء من أقرب أصدقائها!
اتضح أن الكثير أمسي يُدبَّر فى الظلام وأن القادم أكثر..
إن أزمة الغواصات الفرنسية ثم التحالفات الأمريكية الناشئة فى أعقابها : تحالف “أوكوس” وتحالف “كواد” أشياء فسرتها فرنسا على أنها بداية لحرب باردة طويلة موجهة ضد الصين.
وما إن قيلت الكلمة المحرمة حتى شهدنا حدوث متوالية من الأحداث المدهشة كانتهاء أزمة هواوى، وانفجار أزمة إيفرجراند للعقارات الصينية، ثم الانقطاع المفاجئ لموقع فيسبوك ومعه مواقع أخرى..
فهل بدأت الحرب مبكراً؟ وماذا يخبئ المستقبل للعالم من مفاجآت؟
حرب باردة أم نووية؟:
بإعلانه للتحالف مع استراليا فإن بايدن لم يفعل أكثر من استكمال مسيرة بدأها من قبله أوباما ثم ترامب من بعده، ما يبدو كأنه مخطط قديم متكامل من تصميم البنتاجون وتنفيذ البيت الأبيض..
البداية كانت فى نوفمبر 2011 عندما كتبت هيلاى كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية وقتذاك مقالاً فى دورية السياسة الخارجية كان يُعَد كأول إعلان رسمى لتحول سياسة أمريكا نحو آسيا ، وهو ما تبلور لاحقاً فيما عُرف بمحور الارتكاز الآسيوي أو إعادة التوازن “Rebalance”. وانتهجت أمريكا لتنفيذ تلك السياسة ما أطلقت عليه هيلارى كلينتون اسم ديبلوماسية الانتشار للأمام والتى تعتمد على حصار الصين دبلوماسياً من خلال مبادرات اقتصادية كاتفاقية شراكة المحيط الهادى(TPP) مع نحو 11 دولة آسيوية واتفاقية التجارة الحرة التى أبرمتها أمريكا مع كوريا الجنوبية فى 2012. غير أن أهم مكونات ذلك المنهج هو المكون الأمنى والعسكرى حيث ذكر توم دونيلون مستشار الأمن القومى الأمريكي عام 2013 أن هدف أمريكا هو “أن 60% من أسطول البحرية الأمريكية سيتركز في منطقة المحيط الهادئ بحلول عام 2020،وسيعمل البنتاجون على إعطاء الأولوية لقيادة المحيط الهادئ بالنسبة لمعظم القدرات العسكرية الأمريكية الحديثة، بما في ذلك الغواصات والمقاتلات من الجيل الخامس، فضلاً عن العمل مع الحلفاء لإحراز تقدم سريع في نشر أنظمة الدفاع الصاروخي والرادار”..وهو ما حدث اليوم فعلاً..
الأمر إذن قديم ومدروس.. وما حدث فى عهد ترامب من تدهور حاد فى العلاقات الأمريكية الصينية على إثر الحرب التجارية التى أعلنتها إدارة ترامب ضد الصين كان جزءاً من خطة مدروسة . وما كانت الهجمة السيبرانية الصينية الحادثة فى نهايات عهد ترامب ضد أمريكا سوى ردة فعل لحرب باردة غير معلنة..
ثم جاءت المرحلة الثانية للخطة الأمنية الأمريكية.. مرحلة الانسحاب وإعادة التموضع.. لقد بدأت تلك المرحلة بقرار بدا غريباً وقتها بسحب الجنود الأمريكيين من ألمانيا فى عهد ترامب.. ثم إذا ببايدن ينفذ قراراً عاجلاً بالانسحاب من أفغانستان سبقه تخفيض لأعداد الجنود الأمريكيين بالعراق. وما لبثنا إلا أسابيع قليلة حتى حدثت أزمة الغواصات وأعلنت أمريكا قيام حلفها الثلاثى المصغر”AUKUS” الذى يرمز للحروف الأولى للدول الثلاث.
لقد كان الهدف النهائى أن تترك أمريكا شوكة فى خاصرة الصين اسمها أفغانستان، فى نفس الوقت الذى تحاصرها فيه بصفقة تسليح نووية تدخل فيه استراليا كنقطة ارتكاز جديدة للأسطول الأمريكي فى منطقة الباسيفيك.
غير أن الصين فوتت عليها الفرصة، فاحتوت أفغانستان وأدخلت إيران عضواً فى منظمة شانغهاى. وبدا أن التحالفات المضادة تعمل هى الأخرى على قدم وساق..
علاقات تنهار .. وتحالفات تقوم:
كان غريباً علينا أن نري كيف باعت أمريكا حليفتها فرنسا وألقت بها على طول ذراعها! لماذا؟
ليست فرنسا وحدها بل هناك نيوزيلاندا أيضاً ، ولها قصة..
ففى أواخر الأربعينيات وقَّعت أمريكا مع بريطانيا اتفاقية تعد من أهم الاتفاقيات فى ذلك الوقت سُميت باتفاقية “يوكوزا” ضمت خمس دول فيما عُرف بتحالف العيون الخمس: (كندا واستراليا ونيوزيلندا) بالإضافة للدولتين الكبيرتين. وباتت تلك الدول الثلاث مرتكزات تستغلها أمريكا لخدمة أنظمة تجسس واسعة النطاق تدار من خلال شبكة أقمار صناعية تحيط بالجهات الأربعة.. إلا أن الرفض النيوزيلندى للانتشار النووى جعلها تسقط من حسابات أمريكا فى الحلف الجديد. وربما رأت نيوزيلندا أنها تُستغل من جانب أمريكا دون استفادة حقيقية أو دعم يوازى خدماتها.
ثم أن تحالف “كواد” الذى جمع أمريكا باليابان والهند وكوريا الجنوبية جاء ليمثل استكمالاً لتحالف أوكوس. وكلمة السر فى هذا التحالف الجديد “استراليا”.. إنها الحصان الأسود الذى تراهن عليه أمريكا فى حربها الباردة القادمة ضد الصين.. فإذا كانت استراليا تعتمد فى وارداتها على الصين بشكل أساسي، وإذا كانت فرنسا على علاقة جيدة بالصين، فإن الصفقة الأمريكية تجعل من استراليا قوة نووية تهدد الصين بشكل مباشر.. فهل ستظل الحرب بين الصين وأمريكا باردة ، أم قد تتحول يوماً إلى حرب نووية؟
جبابرة المحيط:
أزمة الغواصات الفرنسية التى خسرت فرنسا جراءها نحو 65 مليار يورو لم تكن إلا قمة جبل الثلج التى أشارت للعالم أن سفح جبل الأسرار أعمق بكثير مما كنا نتصور..
الحق أن أمريكا تعمل لهذا اليوم منذ سنوات طويلة، حيث سعت أمريكا للسيطرة على منطقة الباسيفيك لتأمين حركة الملاحة والطريق التجارى فى هذا القوس الأكبر الذى يضم المحيطين الهادى والهندى بدءاً من الغرب الأمريكي، وقد بدأ السعى الأمريكي بالسيطرة على جزيرة “غوام” التى طالما نشبت حولها الصراعات لقربها الشديد من كوريا الشمالية وتمثل أهم قواعد أمريكا فى تلك المنطقة الواقعة بين جزر هاواى والفلبين . ثم القاعدة الجوية الأمريكية التى تم إنشاؤها مؤخراً فى جزيرة “تينيان” بعد توقيع عقد إيجار بقيمة 22 مليون دولار لمدة 40 عاماً مع حكومة كومنولث جزر ماريانا الشمالية .
حلف أمريكا واستراليا لم يكن إلا تتويجاً لخطة مستمرة منذ زمن لإعادة التوازن فى منطقة الباسيفيك التى يبدو أنها ستغدو مسرحاً لصراع يطول بين التنين الصينى والنسر الأمريكي. فلماذا تكبدت أمريكا مشقة تلك الرحلة الطويلة منذ أوباما حتى اليوم؟ وما الهدف الحقيقي وراء كل تلك الخطوات؟ هل هو مجرد تعطيل النمو الصينى كما تدعى أمريكا ؟ أم تأمين الطرق التجارية كما تقول بريطانيا؟ أم أن الهدف دفاعى ليس إلا..؟!
التسليح النووى فى صفقة التحالف الأمريكي الاسترالى لا يشى بحسن النوايا ، والحرب الباردة التى بدأت بمناوشات سيبرانية ومعارك تجارية وألاعيب مخابراتية قد تتحول يوماً إلى حرب ساخنة تلتهب فى عرض المحيط، فهل سيكون النصر من نصيب أمريكا؟
فوز بطعم الهزيمة:
الحق أن الحرب إذا قامت فلا فائز هناك بل خسائر تطال الجميع..
إن العالم لم يحتمل مجرد انقطاع مؤقت لموقع فيسبوك لمدة 6 ساعات، والخسائر الاقتصادية لأزمة بسيطة مثل هذه كانت أشد فداحة مما توقعنا. فما بالنا بحرب سيبرانية واسعة النطاق؟ أو حرب نووية تشل مسار الطرق التجارية عبر المحيطات؟
هل العالم اليوم لديه الاستعداد أو القدرة على تحمل تداعيات حرب كبري، بعد أن رزح طيلة عامين كاملين تحت عبء اقتصادى هائل جراء الوباء؟
إن الفوز الذى تنشده أمريكا على الصين طمعاً فى مزيد من النفوذ ليس إلا خسارة فادحة لعالم بات منهكا من كثرة الأزمات والحروب والكوارث. إنه فوز بعيد المنال.