إشكالية التباطؤ في تسمية سفراء واشنطن حول العالم

مع رفع شعار “أمريكا عادت “سعى جو بايدن من خلال منصبه كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية بوضع السياسة الخارجية الأمريكية على مسار ثابت، وذلك بعد أربع سنوات مخيبة للآمال في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، حيث تصدرت الدبلوماسية الأمريكية وتنشيط التحالفات البنود ذات الأولوية القصوى على جدول أعمال الإدارة الديمقراطية الجديدة، ولكن بعد قرابة ثمانية أشهر على إدارته، لم يتم سوى تأكيد سفيرين جديدين فقط، هما: ليندا توماس جرينفيلد سفيرة لدى الأمم المتحدة في نيويورك، ووزير الداخلية السابق كين سالازار كسفير في المكسيك، الأمر  الذي طرح تساؤلات و أثار مخاوف حول مدى قدرة إدارة بايدن على التعاطي مع أجندة السياسة الخارجية والرسالة التي يبعثها مثل هذا الفراغ الدبلوماسي إلى المجتمع العالمي.

وفي ضوء ما سبق، يسعى هذا التحليل إلى تسليط الضوء على أبرز ملامح التباطؤ في تعيين سفراء واشنطن، ما هي أكثر الأسباب التي تقف وراء بطء وتيرة تأكيدات سفراء واشنطن في الخارج، وكيف سيؤثر ذلك على مصداقية القيادة الأمريكية حول العالم.

مؤشرات التباطؤ في تعيين السفراء:

يمكن اعتبار ندرة السفراء الأمريكيين الذين تم تأكيدهم في هذه المرحلة من إدارة جو بايدن، انخفاض تاريخي وذلك مقارنة برؤساء الولايات المتحدة السابقين، ويمكن تتبع أبرز ملامح هذه الوتيرة البطيئة في التعيينات، على النحو التالي:

(*) أكبر 20 اقتصادًاً في العالم بدون سفير أمريكي: بايدن لم يقترح حتى الآن مرشحين لأكبر الدول اقتصاداً في العالم مثل ألمانيا وفرنسا وكندا والمملكة المتحدة وأستراليا وكوريا الجنوبية وجنوب إفريقيا والمملكة العربية السعودية وإيطاليا وهولندا، وينطبق الشيء نفسه على أوكرانيا، التي بالرغم من أنها ليست ذات وزن اقتصادي ثقيل، إلا أنها تتمتع ببعض الأهمية الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة كدولة صراع على الحدود مع روسيا.

(*) تأكيد سفيرين فقط: اعتبارًا من 11 أغسطس 2021، تم تأكيد مرشحين اثنين هما وزير الداخلية السابق كين سالازار سفيرا للولايات المتحدة في المكسيك، وليندا توماس جرينفيلد كسفيرة للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، وتم الإعلان عن أربعة مرشحين، بينما ينظر مجلس الشيوخ في 34 مرشحًا، في مقابل وجود أكثر من 67 منصبًا حاليًا خالياً من أي مرشحين، مقارنة بـ 217 سفارة لدى الدول الأجنبية والمنظمات الدولية التي يتعين على الولايات المتحدة شغلها.

(*) بايدن يتخلف عن الرؤساء السابقين: بالمقارنة مع الرؤساء السابقين، أكد الرئيس السابق باراك أوباما تعيين 59 سفيرا خلال الذكرى الـ 200 على تولى منصبه (كانت يوم 8 أغسطس لبايدن)، بينما تم تأكيد 53 سفيرا من قبل جورج دبليو بوش، وأكد دونالد ترامب 19 سفيرا.

لماذا التراجع في عدد السفراء المكلفين؟:

هناك مجموعة من الأسباب تقف وراء بطء وتيرة تأكيدات سفراء واشنطن في الخارج، والتي يمكن التطرق إليها في النقاط التالية:

(&) تحديات ما بعد ترامب: جادل فريق بايدن بأن ترامب تركه في وضع صعب، بداية من رفض ترامب الاعتراف بنتيجة الانتخابات الرئاسية وصولاً إلى هجوم أنصار ترامب على مبنى الكابيتول في 6 يناير الماضي، مما أدى إلى إبطاء عملية انتقال السلطة بشكل سلمي، بالإضافة إلى الاضطرابات الناجمة عن الاستجابة لفيروس كورونا، وقد دفعت تلك التحديات إدارة بادين إلى التركيز على التنوع في التعيينات أكثر من التركيز على السرعة، ليتقدم على جميع الرؤساء في عدد المرشحات من الأقليات العرقية منذ أول 100 يوم له في البيت الأبيض.

(&) مجلس شيوخ متشدد: تواجه إدارة بايدن مجلس شيوخ أكثر تشددًا، على الرغم من تمتع حزب الرئيس بأغلبية ضئيلة للغاية في المجلس، إلا أن الأقلية الجمهورية لا تزال لديها القدرة على شل العملية التشريعية من خلال توظيف مجلس الشيوخ كأداة ضغط في الخلافات الحزبية، على سبيل المثال، تعهد  عضو مجلس الشيوخ عن ولاية تكساس تيد كروز بتعليق كل مرشح لمنصب سفير أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، حيث منع ما يقرب من 30 ترشيحًا دبلوماسيًا أسباب لا علاقة لها بالأفراد أنفسهم، بل بسبب خلافاته مع سياسة بايدن في عدد من الملفات على رأسها خط غاز نورد ستريم.

(&) طول مدة عمليات التدقيق والتحقق من خلفية المرشحين: أكد عدد من المسئولين على رغبة بايدن في التأكد من عدم مواجهة مرشحيه لمفاجآت غير مريحة خلال جلسات الاستماع الخاصة بالترشيحات، لاسيما في ظل الاستقطاب الحزبي المفرط الذي تشهده واشنطن حالياً، ولذلك تستغرق عملية مراجعات التدقيق والأخلاقيات للمرشحين المحتملين وقتًا أطول بكثير مما كانت عليه في الماضي، حيث تجري إدارة بايدن مراجعات أخلاقية أعمق مما فعل فريق ترامب، بالإضافة إلى ذلك يعاني قسم الأمن الدبلوماسي بوزارة الخارجية الأمريكية من نقص الموارد مما يؤثر على طول فترة عمليات التدقيق والتحقق من خلفية المرشحين.

(&) الضغط على بايدن لتعيين دبلوماسيين مهنيين: تتعرض إدارة بايدن للضغوط للاستفادة من عدد أقل من السفراء السياسيين، حيث لا يزال بايدن يخطط لتوزيع السفراء على كبار المانحين للحملة، بينما يرى بعض الدبلوماسيين إن خفض عدد جامعي الأموال الذين يتم إرسالهم إلى المناصب الخارجية سيعيد الثقة في الحكومة الفيدرالية، ويعزز الروح المعنوية لوزارة الخارجية، من خلال بعث رسالة إلى العالم مفاداها أن الإدارة الأمريكية الجديدة تستهدف إعادة بناء الدبلوماسية بشكل أفضل عن طريق التخلص من ارث الرئيس السابق دونالد ترامب الذي اختار حلفائه السياسيين لشغل مناصب السفراء أكثر من أي رئيس في التاريخ الحديث، الأمر الذي ساهم في تنامي المخاوف المتعلقة بالفساد.

 تحديات حرجة:

من المتوقع أن يساهم غياب سفراء واشنطن وبطيء وتيرة تأكيد تعييناتهم، في فرض عدد من التحديات على إدارة بايدن خلال المرحلة القادمة، والتي تتمثل في:

  • تهديد القيادة الأمريكية العالمية: فراغ منصب السفير الأمريكي في العديد من دول العالم، يرسل إشارات مربكة حول قدرة واشنطن على الوفاء بالتزاماتها مع حلفاءها الاستراتيجيين والتنسيق في العديد من الملفات الهامة، وذلك بالنظر إلى التحديات العالمية التي تواجهها الولايات المتحدة، بدءاً من الصين ذات المنافسة المتزايدة، وصولاً إلى التصدي لجائحة كورونا، الأمر الذي يفرض على إدارة بايدن سرعة تأكيد سفراءها في الخارج من أجل تعزيز الأمن والمصالح الاقتصادية لأمريكا، والتأكيد على عودة القيادة الأمريكية القائمة على تنشيط تحالفاتها والعمل الجماعي العالمي.
  • تقويض عمل الدبلوماسية الأمريكية: عدم وجود تعيينات مؤكدة على الأرض قد يضر بالفعل سفراء المستقبل، حيث يفقد السفراء فرصًا للجلوس في الاجتماعات وبناء علاقاتهم الخاصة مع نظرائهم الأجانب، وبالتالي عدم النجاح في خلق موظفين مؤهلين من الدبلوماسيين الأمريكيين على دراية بالعديد من الأجندات السياسية محل الاهتمام.
  • التشكيك في وعود بايدن الانتخابية: توقع العديد من الدبلوماسيين الأمريكيين أن يقوم بايدن بإعادة بناء الدبلوماسية بشكل أفضل، هذا يعني عدم العودة إلى الممارسة القديمة المتمثلة في توزيع السفراء على المانحين وذوي العلاقات الجيدة وأن نسبة المرشحين السياسيين في مقابل المرشحين المهنيين يجب أن تكون أقل من 10٪ على الأكثر، ولكن مؤخراً أعلن البيت الأبيض إن بايدن يأمل في إبقاء التعيينات السياسية على حوالي 30٪ من السفراء الذين يختارونهم على الرغم من دعم بايدن ترقية السفراء المهنيين، وشملت جولة جديدة من ترشيحات السفراء اثنين من كبار المانحين في حملته الرئاسية لعام 2020، هما المحامي “مارك ستانلي ” الذي ساعد في تنظيم حملة محامون لدعم بايدن أثناء الانتخابات الرئاسية ، حيث تم اختياره كسفير في الأرجنتين، والأخر هو ” سكوت ميللر” جامع تبرعات كبير تم ترشيحه ليكون سفير الولايات المتحدة القادم في سويسرا.

خلاصة القول، يريد الرئيس الأمريكي جو بايدن دورًا قياديًا عالميًا لأمريكا والانخراط مع العالم من جديد، لكنه يفتقر في تلك المرحلة إلى فريقه من الدبلوماسيين، وبالرغم من أن السفارات الأمريكية لا تزال تعمل، لكن بالنظر إلى أن الوجود الدبلوماسي والتنموي أمر بالغ الأهمية لمواكبة التهديدات العالمية المتزايدة واستمرار القدرة على التنافس ضد القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا، يبدو أن غياب الموظفين في المناصب الرئيسية والسفارات نتيجة بطء عمليتي الترشيح والتأكيد سيقوض بشكل مباشر القيادة الأمريكية في جميع أنحاء العالم خلال الفترة القادمة، لاسيما وان بايدن قد لا يعين سفراء كثيرين قبل مرور أكثر من عام على ولايته الأولى، ويرجع ذلك إلى توقف جلسات الكونجرس خلال منتصف شهر يوليو وفي عطلة شهر أغسطس، و في ضوء ذلك أصبح هناك حاجة ملحة بضرورة إعادة مراجعة آلية تعيين السفراء بشكل عام في الولايات المتحدة، والتي تعتمد في الأساس على موافقة مجلس شيوخ قد تسيطر عليه المعارضة.

سلمى العليمي

باحثة متخصصة بالشؤون الأمريكية، الرئيس السابق لبرنامج الدراسات الأمريكية، باحث ماجستير في العلوم السياسية، حاصلة على بكالوريوس العلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، ودبلومة في الدراسات العربية، دبلومة من الجامعة الأمريكية في إدارة الموارد البشرية، نشرت العديد من الدراسات والأبحاث الخاصة في الشأن الأمريكي والعلاقات الدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى