ما مستقبل الأوضاع بـ “إدلب” في ضوء نتائح القمة الروسية التركية؟
ملخص:
(&) عقدت روسيا وتركيا لقاء قمة في مدينة سوتشي الروسية، يوم الأربعاء الموافق 29 سبتمبر 2021، تناولت قضايا عديدة تخص العلاقات الروسية التركية على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، وكان ملف إدلب هو أبرز هذه الملفات.
(&) من الواضح أن روسيا تريد من هذه القمة دور تركي لإنجاح مسار التسوية السياسية وفق شروطها، لكنها في الوقت نفسه تسعى لتحجيم التأثير التركي العسكري في المسألة السورية، وقد يكون تغيير قواعد الاشتباك في إدلب مقدمة لهذا التحول الجديد.
(&) الملف السوري سيشهد تغيرات مهمة خلال المرحلة المقبلة، وتعد مخرجات هذه القمة أحد المحطات المهمة في طريق هذا التغيير، خاصة مع الحديث عن مباحثات روسية أمريكية حول ترتيبات الانسحاب الأميركي من شرق الفرات، في إطار اتفاق شامل بين دمشق و”قسد” والكرد، حيث تريد موسكو دعم انقره لإنجاح هذا المسار.
عقدت قمة روسية تركية في مدينة سوتشي الروسية، يوم الأربعاء الموافق 29 سبتمبر 2021، تناولت قضايا عديدة تخص العلاقات الروسية التركية على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، لكن ملف إدلب كان هو العنوان الرئيسي لهذه القمة. خيمت أجواء من التوتر بين الجانبين على هذه القمة، على وقع التطورات التصعيدية الأخيرة في إدلب، بيد أنه وبالقياس على نهج التفاعل الروسي التركي في سوريا خلال السنوات الأخيرة، يتوقع المراقبون أن هناك مجال لإعادة رسم تفاهمات جديدة حول إدلب، وقد تمتد لتشمل قضايا سورية أخرى.
تأتي هذه القمة بعد عشرة أيام تقريباً من القمة التي عقدت بموسكو بين الرئيسين بوتين والأسد، وعقب زيارة مهمة للمبعوث الأمريكي لروسيا، وبالتالي سياقات هذه القمة لا يمكن فصلها عن الاجتماعات التي استضافتها موسكو مع الجانب السوري والأمريكي.
أجواء التصعيد قبل القمة:
سيطرت على أجواء هذه القمة توترات متبادلة من الجانبين الروسي والتركي، حيث كثفت روسيا من غاراتها الجوية على مناطق تواجد الفصائل المسلحة التابعة لتركيا، في حين ردت تركيا بمحاولة استهداف ” غير ناجحة” لمروحية روسية، مع تركيز الفصائل التركية ” الجيش الوطني” على القصف الصاروخي، واستمرار تركيا في حشد وتحريك مزيد من قطاعاتها العسكرية وبعض الأسلحة إلى مناطق التماس الفاصلة بين القوات السورية والفصائل التابعة لها، مع الدفع بمنظومات صواريخ هجومية.
جدول أعمال القمة فيما يخص سوريا:
تضمن جدول أعمال القمة العديد من القضايا البعيدة عن الشأن السوري، والتي تغطي مساحات التقاطع بين البلدين سواء في ليبيا أو القوقاز أو آسيا الوسطى. لكن وبالتركيز على ما يخص الشأن السوري فإن القضايا التي طرحت للنقاش بحسب المصادر التركية والروسية قد شملت ما يلي: الموقف من الوحدات العسكرية الكردية، والدوريات المشتركة الروسية والتركية، وخريطة انتشارها واستتباب الأمن في إدلب مع ضمان وقف الهجرة وحالة النزوح من المنطقة، ومواصلة الجهود لإعادة السوريين إلى أراضيهم، حيث وصل عدد النازحين من إدلب ما يربو عن مليون ونصف المليون موزعين على مئات المخيمات المتاخمة للشريط الحدودي مع تركيا بالإضافة إلى الموقف من الجماعات المتطرفة ومنها ” هيئة تحرير الشام” التي تتلقى دعماً تركياً رغم كونها محظورة دولياً.
أجواء القمة وما تعكسه من دلالات:
(*) غموض نتائج القمة: لم يرشح عن هذه القمة أية تفاصيل بخصوص مستقبل الأوضاع الراهنة في إدلب، حيث انتهت القمة دون عقد مؤتمر صحفي للرئيسين، وتم الاكتفاء بتصريحات دبلوماسية وصفت اللقاء بالمثمر والجيد والمفيد، وتم الحديث عن مستقبل الصداقة بين البلدين والتعاون التجاري، دون الإشارة بشكل واضح لملف إدلب، رغم تصدره لجدول الأعمال، باعتباره الملف الأكثر اشتباكاً بين الجانبين.
(*) مؤشر إيجابي: رغم غموض نتائج القمة، إلا أن هناك بعض المؤشرات التي يمكن رصدها والبناء عليها لفهم ما يمكن أن يكون قد جرى خلف الكواليس من تفاهمات ، سواء النقاط التي كانت محل اتفاق أو تلك التي ظلت عالقة بين الجانبين الروسي والتركي منها عقد وفدي البلدين اجتماعاً عقب لقاء القمة، ما يؤشر على أن اتفاقاً ما قد تم إبرامه بين الرئيسين التركي والروسي، وقد يحتاج الوفدان للجلوس معاً للبحث في آليات التنفيذ من أمور فنية ولوجستية وغيرها، والترتيبات المشتركة، ودل على هذا ما قاله الرئيس بوتين، من أن المحادثات “بيننا تواجه صعوبات أحيانا، لكنها تفضي إلى نتائج نهائية إيجابية، وتعلمت مؤسساتنا المختصة إيجاد حلول وسط تصب في مصلحة كلا الجانبين”.
السياقات الاستراتيجية للموقف الراهن في إدلب وتأثيره على مخرجات القمة:
(&) التحوط التركي: الواضح من جملة التحركات التركية التي سبقت هذه القمة ، أن هناك نوعاً من التحوط التركي الاستباقي، من احتمالية إقدام القوات السورية على تنفيذ عملية عسكرية كبيرة داخل المناطق الخاضعة لسيطرتها، كما جرى في مارس من العام 2019 ، والتي تمكنت من خلالها من استعادة ريفي إدلب الجنوبي وحماة الشمالي، والضغط على هيئة تحرير الشام وإبعادها من هذه المناطق، وتأتي هذه التقديرات التركية لاحتمالات تطور الموقف في إدلب، بعد التطورات الأخيرة في درعا، والتي اعتبرت من جانب تركيا مقدمة لتشجيع روسي للقوات السورية على مزيد من التحدي لتركيا في مناطق الشمال السوري، ومنها إدلب.
كما تخشى تركيا من تعرض مناطق نفوذها لضغط روسي أمريكي، وفق تفاهمات قد جرت بين الجانبين خلال الأشهر الأخيرة( منذ قمة بوتين – بايدن في يونيه الماضي) ، حيث رصدت تركيا بقلق ما قامت به الطائرات الأميركية من غارات في إدلب للقضاء على أهداف تتصف بالدقة آخرها كان في 20 سبتمبر الجاري، قضت من خلالها على قائد عسكري بتنظيم هيئة أحرار الشام ، أبو حمزة اليمني، وقيادي آخر وهو أبو البراء التونسي، وفق بيان لـلبنتاغون.
(&) التوجهات الروسية الجديدة بشأن إدلب: يتضح من سياق السلوك الروسي تجاه إدلب خلال الفترة الأخيرة ، خاصة بعد نجاحها في تسوية ملف درعا لصالح سوريا ولصالحها بشكل واضح، أن موسكو تواصل تشجيع القوات السورية على استعادة السيطرة على المناطق الواقعة خارج سيطرتها، ومن ضمنها المناطق التي خضعت من قبل لما عرف بتفاهمات خفض التصعيد، ومنها إدلب، حيث تستهدف روسيا بصورة كبيرة الجماعات والفصائل المتطرفة، ومنها جبهة أحرار الشام النشطة في الشمال السوري ” بموافقة وتشجيع تركي” ، كما تحاول روسيا أن تكون هذه التحركات مقدمة للضغط والدفع نحو إخراج كافة القوات الأجنبية من سوريا، مع تشجيع الدول المعنية بالملف السوري للدخول في حوار مع الحكومة السورية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر .
(&) الأهداف التكتيكية للطرفين: يستهدف الروس الضغط على تركيا لتأمين طريق (إم 4) حلب – اللاذقية الذي يربط الشمال بالغرب والسيطرة عليه، خاصة بعد أن نشرت أنقرة نقاطها العسكرية بكثافة على امتداده. ومحاولة إنهاء ملف إدلب، من أجل التفرغ للتعامل مع المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية في شمال شرق سوريا، والواقعة تحت سيطرة الأكراد، والتي تعتبر مناطق نفوذ للولايات المتحدة أيضاً، خاصة وأنها تضم أغلب حقول النفط السورية، والتي تريد سوريا وروسيا استعادة السيطرة عليها من أجل الاستفادة منها في دعم الاقتصاد السوري وإعادة الإعمار في المرحلة المقبلة. بينما تريد تركيا تثبيت الحدود والخطوط الحالية لمناطق السيطرة في إدلب ومناطق مال غرب سوريا ، على أن تتكفل تركيا بفتح وتأمين الطريق الدولي ( أم 4).
التأثيرات المحتملة على مستقبل الأزمة السورية:
(*) تأثير القمة على مسار الحوار التركي السوري: من الواضح أن روسيا مستمرة في محاولة دفع تركيا للجلوس مع سوريا على طاولة واحدة، وإحداث انفراجة في علاقات البلدين، حيث تعوّل روسيا على الحساسية التركية من ملف اللاجئين السوريين، والضغوط الشعبية المتزايدة على حزب “العدالة والتنمية” الحاكم جراء تبعات هذا الملف، وكذلك على التوجه التركي الجديد نحو تحسين العلاقات المتوترة مع دول متعددة في المنطقة (الإمارات، مصر، السعودية)، لدفع أنقرة التي لا تخفي رغبتها بإعادة اللاجئين السوريين، إلى تليين مواقفها من نظام الأسد، والجلوس في نهاية المطاف معه.
(*) تغيرات محتملة في مناطق السيطرة الجوية على شمال شرقي سوريا: خاصة في حال استمرت روسيا خلال الأيام المقبلة في شن هجمات على مواقع في منطقة عملية نبع السلام التركية في شمال سوريا ، خاصة وان جانب من العمليات الجوية الروسية في هذه المناطق يتم بتنسيق مع القوات الأمريكية ، ما يعني أنه لا يمكن استبعاد أن تكون هذه التغييرات ثمرة مشاورات روسية أميركية سابقة»، خاصة مع الحديث عن تفاهمات روسية أمريكية بشأن ترتيبات لانسحاب أمريكي من شرق الفرات، وتولي روسيا مسئولية إدارة هذه المناطق.
(*) تفاهمات جديدة حول إدلب: يحتمل أن يكون الرئيسان الروسي والتركي قد توصلا لتفاهمات جديدة حول إدلب ، يتوقع ان تدور حول الاستمرار في آليات التنسيق بين البلدين، مع مراعاة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وسيادة الحكومة الشرعية في البلاد على كافة أراضيها.
(*) تغيير آليات إدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا: حيث تضغط روسيا باتجاه تسليم هذه المساعدات لحكومة دمشق، وإلا فأنها قد تعرقل العملية بالكامل، حيث أعلن لافروف أن موسكو ستتوقف عن دعمها لآلية إيصال المساعدات الإنسانية إلى سوريا، في حال استمرار تجميد إيصالها عبر دمشق. وقال خلال مشاركته في الدورة الـ76 للجمعية العامة للأمم المتحدة، أنه «إذا لم يتم الآن اتخاذ خطوات ملموسة لتحرير إيصال المساعدات الإنسانية عبر دمشق، وفق ما تتطلب ذلك قواعد القانون الإنساني الدولي سوف نتوقف عن دعم هذه «الأمور غير الشفافة العابرة للحدود».
وفي التقدير، أن هذه القمة قد عكست رغبة البلدين ( روسيا وتركيا ) في توصيل رسائل قوية لكل طرف ، حيث أرادت روسيا أن تلوح برغبتها بتجاوز مصالح أنقرة في الملف السوري الحساس بالنسبة للأتراك، تعبيراً عن القلق الروسي من تغيرات ترصدها في السياسة التركية في بعض الملفات الحساسة بالنسبة للروس مثل أوكرانيا وأفغانستان وليبيا وسوريا، والهدف ليس تصعيد الخلاف بقدر كونه محاولة لإعادة ضبط مسار التعاون الاستراتيجي بين الجانبين.وبالتالي من غير المتوقع أن يكون هناك تغيرات جذرية في مسار العلاقات التركية – الروسية بعد قمة “سوتشي”، والتي كانت بمثابة تعبير عن رغبة الطرفين باستمرار التنسيق بحكم الضرورة، وعدم ترك هامش الخلافات ليتسع خارج حدود السيطرة والمصالح الاستراتيجية المهمة.