ما هي انعكاسات نتائج انتخابات “البوندستاغ” على تشكيل الحكومة؟

أعلن الناخبون الألمان عن اختيارهم لبرلمان فيدرالي جديد، جاءت نتيجته مؤكدة على نتائج استطلاعات الرأي التي تم إجرائها قبيل الانتخابات، وكان من أبرز المرشحين لخلافة ميركل في السباق الانتخابي، أرمين لاشيت من الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وأولاف شولتز من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وأنالينا بيربوك عن حزب الخضر المدافع عن البيئة. وكانت انتخابات درامية بالنسبة لحزب ميركل، حيث انتهت بفوز الاشتراكيين الديمقراطيين، كاتبة نهاية لمسيرة المستشارة أنجيلا ميركل، وكانوا قد حصلوا على نسبة ٢٥.٧ بالمائة، متقدمين بفارق ضئيل عن أقرب منافسيهم المسيحيين المحافظين.

وفي ظل التقارب الواضح في النتائج، يتوقع أن تستغرق عملية تشكيل الحكومة المقبلة عدة أشهر، وذلك لصعوبة الاتفاق على أغلبية، وهو ما قد يبعد بدوره ألمانيا عن الساحة الأوروبية ولو مؤقتا لحين تشكيل حكومة، خاصة أن كلا المعسكرين الفائزين يدعي قدرته على تشكيل الحكومة الجديدة، خاصة أن الاتحاد مازال يتمسك بفرصه في منصب المستشارية. فعلى سبيل المثال، في أعوام 1969 و1976 و1980، انتهى الأمر بالحزب الاشتراكي الديمقراطي بتشكيل الحكومة، على الرغم من حصوله على المركز الثاني. وهو ما يعنى أنه ستكون القدرة على بناء ائتلاف أغلبية في نهاية المطاف أكثر أهمية من الحصول على المركز الأول.

وتأسيسا على ما سبق ذكره، يحاول هذا التحليل إلقاء نظرة على ما بعد إفراز صناديق الانتخابات الألمانية الأخيرة في ظل النتائج المتقاربة، وأثرها على شكل الحكومة الألمانية الجديدة، والمدى الزمني المطلوب لتشكيلها، وذلك وفقا لتجربتين الانتخابات  في ٢٠١٣ و  ٢٠١٧ السابقتين، فضلا عن وضع تصور  للكيفية التي ستتعامل بها الحكومة الجديدة مع السياسات والأحداث الداخلية والخارجية الملحة مؤخرا.

نتائج متقاربة:

أسفرت نتائج الانتخابات التشريعية الألمانية عن فوز الاشتراكيين الديمقراطيين بفارق ضئيل، بنسبة 25.7 بالمائة، 24.1 بالمائة لصالح الاتحاد المسيحي، وهو ما يزيد من فرصة لتشكيل الحكومة الائتلافية الألمانية الجديدة، والتي من المتوقع أن تضم حزب الخضر الذي أتى في المركز الثالث بنسبة 14.8 بالمائة، وهو  ما يعتبر أفضل نتيجة حققها الحزب في تاريخه، بالإضافة إلى الحزب الديمقراطي الحر “الليبرالي ” الذي حل رابعا بنسبة 11.5 بالمائة من أصوات الناخبين.

ومن المحتمل أن تؤثر هذه النتائج على شكل الحكومة القادمة، والتي من الممكن أن تضم أحزابا مختلفة البرامج والرؤى، وهو ما قد يؤثر بدوره لاحقاً على استقرار الحكومة، خاصة وأن حزب الاشتراكيين كان غائبا عن منصب المستشارية أو رئاسة الحكومة لسنوات طويلة. كما يتوقع أن يستغرق تشكيل الحكومة الجديدة مدة زمنية طويلة، وهو ما أثبتته التجربة العملية في انتخابات ألمانية سابقة.

تجارب عاكسة:

يوجد في الانتخابات الألمانية العديد من الأمثلة على تأثير نتائج الانتخابات التشريعية في شكل واستقرار الحكومة والمدى الزمني المطلوب لتشكيلها، كان آخرها:

(*) انتخابات ٢٠١٧ التشريعية:  حصل الاتحاد الديمقراطي المسيحي ” حزب ميركل ” على أكبر عدد من المقاعد، بحصوله على 28.8 بالمائة من أصوات الناخبين، بينما حصل الحزب الديمقراطي الاشتراكي على 20.5 بالمائة، ثم حزب البديل من أجل ألمانيا بنسبة  12.6 بالمائة، فيما حصل الحزب الديمقراطي الحر ” الليبرالي ” على 10.7 بالمائة، أما حزب اليسار  9.2 بالمائة، وتذيل النتائج حزب الخضر على 8.9 بالمائة من الأصوات.

ونتيجة لتقارب النتائج واختلاف الإيديولوجيات بين الأحزاب فشلت مساعي الاتحاد المسيحي في تشكيل الحكومة بالتحالف مع الخضر والأحرار، إلا أن تم الاتفاق بين الحزبين الأكبر في ألمانيا ) الاتحاد المسيحي و الحزب الديمقراطي الاشتراكي(  على التوصل إلى اتفاق في مارس ٢٠١٨ بعد حوالي ستة أشهر من الانتخابات.

وتكونت هذه الحكومة من الاتحاد المسيحي والحزب الديمقراطي الاشتراكي، ويتألف بالإضافة إلى أنجيلا ميركل كمستشارة، من خمسة عشر وزيرا، تحصل منها الاتحاد المسيحي على ٩ وزارات، بينما حصل الحزب الاشتراكي على ٦ وزارات، وهو ما يعنى أن الوزارات تم توزيعها بالتراضي بينهم، إلا أنه من الواضح هيمنة الاتحاد المسيحي في عدد الوزارات.  ومن ناحية الوزارات السيادية؛ فقد كان من نصيب الاتحاد المسيحي وزارة الداخلية والدفاع والطاقة ومنصب رئيس المستشارية، أما الاشتراكيين، فقد تولوا وزارة العدل والخارجية والمالية، فضلا عن منصب نائب المستشار لأولاف شولتز بجانب توليه وزارة المالية.

(*) انتخابات ٢٠١٣ التشريعية: في هذه الانتخابات نجحت ميركل في قيادة حزبها للحصول على أعلى نتيجة انتخابات برلمانية منذ إعادة توحيد ألمانيا ١٩٩١ بحصولها على ٤٢ بالمائة من الأصوات، في مقابل ٢٦ بالمائة لصالح الحزب الاشتراكي 4.8 بالمائة للحزب الديمقراطي الحر، بينما حصل حزب الخضر على نسبة ٨.٤ بالمائة، وحزب اليسار على ٨.٦ بالمائة، ثم حزب البديل بنسبة ٤.٧ بالمائة.

وتولى الاتحاد الديمقراطي المسيحي ٩ وزارات، وكان أهمهم وزارة الدفاع والداخلية والمالية، في مقابل ٦ وزارات للحزب الاشتراكي، وأهمهم وزارة العدل والخارجية والطاقة.

وبناءا على ذلك؛ فعندما تكون النتائج بين الأحزاب في ألمانيا متقاربة، تكون هناك صعوبة بالغة في تشكيل الحكومة، وبالتالي سيستغرف تشكيل الحكومة مدة زمنية طويلة قد تصل إلى بضعة أشهر لحين التوصل إلى اتفاق، كما سيؤثر أيضا على فكرة تقاسم الوزارت من حيث الكم والنوع، فضلا عن احتمالية تأثيره على استقرار الحكومة ذاته، خاصة في ظل الاختلافات في أيديولوجيات الأحزاب، كما هو الحال في تونس. وهو ما حدث في انتخابات ٢٠١٨، لذلك قد يكون الاتحاد المسيحي اضطر لتكوين ائتلاف مع الحزب الاشتراكي لتشكيل الحكومة سويا، وذلك بعد فشله – الاتحاد المسيحي – في تكوين تحالف مع الخضر والأحرار. وذلك على نقيض ما حدث في ٢٠١٣ الحكومة الثالثة لميركل، عندما فاز الاتحاد المسيحي بأغلبية مريحة، كانت خطوة تشكيل الحكومة أسهل بكثير، ولم تستغرق طويلا، حيث تم الانتهاء من تشكيل الحكومة في غضون ٨٦ يوما، بعد تشكيل ائتلاف مع الديمقراطيين الاشتراكيين، وهو ما اعتبر في ذلك الوقت رقم قياسي بالنسبة لألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية.

 الانعكاسات المحتملة للنتائج:

تعد سياسات ميركل في الداخل والخارج رمزا للاعتدال والواقعية والثبات، حيث نجحت في تخطي العديد من الأزمات الداخلية والخارجية، مثل أزمة اليورو وفيروس كورونا وأزمة اللاجئين وصعود الشعبوية، لذلك تثار التساؤلات حاليا حول الكيفية التي سيدير بها الاشتراكيون الديمقراطيون بعد غياب سنوات عن سدة الحكم، وهو ما يمكن أن يدور حول الآتي:

(&) السياسات الداخلية: من المتوقع وفقا لبرنامج شولتز الانتخابي الخاص بالسياسات الداخلية اهتمامه بالقضايا الاقتصادية التي نجمت عن تأثيرات فيروس كورونا، وقضية التغير المناخي، خاصة إذا نجح في التحالف مع الخضر، على اعتبار أن قضايا البيئة على رأس أولوياته، كذلك النظر في التعويضات الواجب صرفها لضحايا الفيضانات الأخيرة، أما عن مشكلة البطالة؛ فقد أعلن عن نيته في إنشاء ضمان اجتماعي للعاطلين، ورفع الحد الأدني للأجور.

 ورغم تبني الحزب الاشتراكي موقفا تاريخيا مرحبا بالمهاجرين، إلا إنه قد يتبنى موقفا أكثر حذرا، خاصة بعد أزمة اللاجئين في ٢٠١٥ والتي أدت لصعود تيار اليمين المتطرف ” البديل ” المناهض لسياسات الهجرة، كما من الممكن وضع قانون معني بتنظيم الهجرة، وقد يشير إلى موقف الحزب في هذا الصدد، الموقف من اللاجئين الأفغان مؤخرا، فقد عارض الحزب سياسات الحكومة التى دعت إلى دعم جيران أفغانستان للتعامل مع المهاجرين، حيث دعى المتحدث باسم الحزب لقضايا الهجرة لارس كاستيلوتشي إلى زيادة برامج التوطين التي يتم التنسيق بشأنها أوروبيا، وهو ما سيتناقض مع موقف حزب الخضر  – إذا نجح تحالفهم – الذي يتبنى مسئولية إنسانية تجاه المهاجرين، واقترح أن تقوم وكالة أوروبية بتوزيع طلبات اللجوء على دول الاتحاد الأوروبي.

(&) السياسات الخارجية : ألمانيا بعد نجاح شولتز على سبيل المثال في علاقاتها بالولايات المتحدة لن تتغير تغيرا جذريا، لكنها ستميل إلى الانفتاح أكثر، خاصة مع ظهور مؤشرات للتباعد بين ضفتى الأطلنطي مؤخرا، على خلاف ميركل التي كانت أكثر موالاة لواشنطن. لكن العلاقات الخارجية بشكل عام ستكون متشابهة إلى حد ما، وإن طرأت تغيرات ستكون بسيطة، تماشيا مع المستجدات الدولية والإقليمية، نظرا لأن ألمانيا دولة مؤسسات بالتالي فإن الأشخاص لن يتمكنوا من إجراء تغيرات جذرية في سياستها الخارجية. وستكون البداية لهذا التغيير هي الاستقلالية العسكرية والسياسية بإنشاء جيش دفاع أوروبي مستقل، أو الاقتصادية من خلال الاعتماد على الاقتصاد الأوروبي، وليس التبعية بالكامل لواشنطن.

وعلى صعيد علاقاتها مع موسكو وبكين، فإنها ستقوم على المصلحة الأوروبية، حيث تعتبر الصين الشريك التجاري الأول لألمانيا. أما روسيا، فمن المتوقع أن يزداد التعاون بينهما في الفترة المقبلة، خاصة بعد توقيع اتفافية خط غاز نورد ستريم ٢، حيث أن ٤٠ بالمائة من الغاز الروسي يتم استهلاكه فيما بين ألمانيا وإيطاليا في الاتحاد الأوروبي.

وفي الختام؛ بالنظر إلى تقارب نتائج الانتخابات التشريعية بسبب تشرذم الأصوات، يبدو أن القدرة على تشكيل حكومة الأغلبية أمر معقد للغاية هذه المرة، وهو أمر غير معهود كثيرا في السنوات السابقة منذ عام ١٩٥٠ م، وذلك رغم تأكيد شولتز أنه سيتم تشكيل الحكومة قبل عيد الميلاد ” رغم الشكوك المحيطة بالمفاوضات الحساسة لتشكيل الائتلاف “، وعلى الجانب الآخر؛ أكد لاشيت أنه سيتم التوصل إلى تشكيل حكومة بسرعة كبيرة قبل تولي ألمانيا رئاسة مجموعة السبع.  أما على صعيد العلاقات الخارجية، فقد تكون أكثر تحررا وفقا للمصلحة، – وهي في الحقيقة  كانت متحررة أيضا في عهد ميركل- نظرا لعدم ارتباط ألمانيا بالتزامات دولية، لكونها عضوا دائما لدى مجلس الأمن مثلا، أو مناطق نفوذ كفرنسا.

وردة عبد الرازق

باحثة في الشئون الأوروبية و الأمريكية، حاصلة على بكالوريوس علوم سياسية، جامعة بنى سويف، الباحثة مهتمة بدارسة الشأن التركي ومتابعة لتفاعلاته الداخلية والخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى