أي مسار تأخذه أزمة الطاقة في أوروبا؟
منذ أسابيع تعانى دول أوروبا من ارتفاع كبير فى أسعار الطاقة، بما يهدد التعافي الاقتصادى الذي بدأت تتذوقه بعض تلك الدول بعد جائحة كورونا، ويشوه محاولات التحول نحو الاقتصاد الأخضر الناشئ. حيث تجاوزت أسعار الغاز في السوق الأوروبي 970 دولارا لكل ألف متر مكعب، وهو مستوى غير مسبوق على الإطلاق، كذلك ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي ارتفاعاً هائلا في منشأة التحويل الهولندية Title Transfer، وهي المعيار الرائد في أوروبا من 16 يورو ميجاواط في الساعة في أوائل يناير2021 إلى 75 يورو بحلول منتصف سبتمبر 2021، وهي زيادة بأكثر من 360٪ في أقل من عام واحد كما هو موضح فى الشكل رقم (1). كما ارتفعت تكلفة البيع بالجملة للغاز الطبيعي إلى مستويات قياسية في المملكة المتحدة وفرنسا، وإسبانيا، وألمانيا، وإيطاليا.
شكل رقم (1) تطور سعر الغاز الطبيعي في المعيار الأوروبي الرائد خلال الفترة 2011-2021
كما ارتفعت تكلفة الكهرباء في أوروبا ومازالت آخذة في الارتفاع مع بدء الانتعاش الاقتصادي. فمنذ بداية سبتمبر 2021، ارتفعت أسعار الكهرباء في ألمانيا وفرنسا بنسبة 36٪ و 48٪ على التوالي. وهي تتراوح الآن عند حوالي 160 يورو (189 دولارًا) لكل ميجاواط في الساعة. فعلى سبيل المثال وصلت الأسعار في بريطانيا إلى 385 جنيهًا إسترلينيًا (532 دولارًا)، ارتفاعًا من 147 جنيهًا إسترلينيًا قبل أسابيع قليلة كما هو موضح بالشكل رقم (2).
شكل رقم (2) تطور أسعار الكهرباء فى بريطانيا وفرنسا والمانيا منذ يوليو الى سبتمبر 2021
أسباب الأزمة:
تتعدد أسباب ارتفاع أسعار الطاقة فى أوروبا ما بين أسباب جغرافية واقتصادية وسياسية كما يلى :-
(*) أسباب جغرافية ومناخية: حيث لا توجد رياح فى بحر الشمال؛ وبالتالي تنخفض مساهمة الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة الكهربائية، ومع انخفاض المعروض ترتفع الأسعار. ففي ألمانيا على سبيل المثال، تساهم الرياح بنسبة كبيرة من مزيج توليد الطاقة، وحين توقفت الطواحين نتيجة عدم وجود رياح فى الهواء، تأثرت سلباً شبكة الكهرباء بأكملها.
(*) زيادة الطلب وكثافة الاعتماد على الغاز الطبيعى: على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي يخفض تدريجياً ومنذ فترة طويلة اعتماده على الوقود الأحفوري، حيث أصبحت مصادر الطاقة المتجددة المصدر الرئيسي للكهرباء لأول مرة في عام 2020 وفقا لخطط التحول نحو الاقتصاد الأخضر الداعم لأهداف التنمية المستدامة الأممية– ولكن لم يكن التحول سريعًا وواسع النطاق بما يكفي لاحتواء متطلبات الطاقة. فلا يزال الغاز الطبيعي والفحم معًا يوفران أكثر من 35٪ من إجمالي إنتاج الاتحاد الأوروبي، ويمثل الغاز أكثر من الخمس. ويختلف مزيج الطاقة اختلافًا كبيرًا في جميع أنحاء دول الاتحاد الأوروبي، وللوقود الأحفوري حصة هامشية في السويد وفرنسا ولوكسمبورغ، ولكنها تشغل أكثر من 60 ٪ من إجمالي الإنتاج في هولندا وبولندا ومالطا وقبرص.
ونظرًا للتخلص التدريجي من الفحم، وهو الوقود الأكثر تلويثًا، يلجأ العديد من الدول إلى الغاز الطبيعي كمورد انتقالي ليكون بمثابة جسر قبل طرح البدائل الخضراء، مثل توربينات الرياح والألواح الشمسية. علاوة على ذلك، يتم استخدام الغاز أيضًا في توليد الطاقة الكهربائية الأوروبية، وفى أغراض التدفئة والطهي في المنازل، حيث يعتبر مصدرا رئيسيا للوقود للتدفئة المنزلية في عدة دول أوروبية مثل المملكة المتحدة، ويتم توصيل 85% من المنازل بشبكة الغاز، الأمر الذى يسهم فى استنفاذ مخزونات الغاز الطبيعي. كذلك حدثت قفزة غير متوقعة في الطلب على مصادر الطاقة مع انتعاش الاقتصاد من فيروس كورونا خاصة فى دول أوروبا والصين، وزادت بشكل أكبر خلال الصيف عندما دفعت درجات الحرارة المرتفعة المواطنين إلى استخدام أنظمة تكييف الهواء والتبريد.
(*) انخفاض مستوى مخزون الغاز: حيث كان مخزون الغاز في أوروبا في حالة انخفاض طويل الأمد، بعدما تجاوز الإنتاج ذروته في كل من أكبر ثلاثة منتجين في المنطقة – النرويج والمملكة المتحدة وهولندا. ومن هنا تسارعت أسعار الغاز في أوروبا منذ بداية أبريل، إلى ما دون متوسط خمس سنوات قبل الوباء، مما يشير إلى أزمة محتملة في الإمدادات منذ ذلك الحين، فانخفضت الإمدادات الهولندية والبريطانية في عام 2020 بنسبة 75% و 65% على التوالي من الذروة التي وصلت إليها قبل 20 عاما على الأقل.
وهذا وقد دخل إنتاج النرويج عامه الرابع من التراجع فى ظل ارتفاع فى الطلب كان آخذ فى النمو، حيث كان من المتوقع أن يرتفع بنحو 53% بين العامين 2020 و2030 وفق للتقديرات الدولية، ليصل إلى 560 مليون طن سنوياً، بينما الطاقة الإنتاجية الحالية والتي هي قيد الإنشاء لن تتجاوز 515 مليون طن سنوياً بحلول 2030، ما يتطلب استثمارات إضافية لطاقة إنتاجية بنحو 45 مليون طن سنوياً، وهذا رقم ضخم جدا يخلق مأزق إضافي في أوروبا، وهي أن شركات توليد الكهرباء هناك تتحوّل إلى الفحم الحجري عندما ترتفع أسعار الغاز كثيراً، لكن هذه المرة تشهد إمدادات الفحم نقصاً وارتفاعاً في الأسعار، بسبب تراجع الإنتاج من المناجم الأوروبية وارتفاع الطلب الصينيً.
(*) روسيا وإمدادات الطاقة إلى أوروبا: سبب آخر لنقص الغاز في أوروبا يتمثل فى تراجع الإمدادات من روسيا -وهي أكبر مصدر للغاز في الاتحاد الأوروبي- الواردة عبر أوكرانيا إلى أوروبا، وتلك علامة استفهام أثارت تكهنات متباينة ما بين عدم قدرة الروس على ضخ المزيد أو أنهم يتعمدون ذلك للضغط باتجاه تشغيل خط أنابيب (نورد ستريم 2) المثير للجدل في أثناء تصاعد الأزمة الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي بخصوص هذا المشروع العملاق، وذلك بعد اكتمال بنائه في الأسابيع الماضية.
إضافة إلى ذلك، تلعب أسعار الشحن دورا في مصير الشحنات والأسواق التي ستتوجه إليها. حيث أشارت الوكالة الدولية للطاقة إلى أنّ روسيا تفي بالتزاماتها التعاقدية الطويلة الأمد مع أوروبا إلا أن صادراتها منخفضة مقارنة بمستويات العام 2019.
تداعيات الأزمة أوروبياً:
ثمة تداعيات تعكسها أزمة الطاقة على دول الاتحاد الأوروبي، يتمثل أهمها فيما يلي:
(&) ارتفاع فواتير الكهرباء والغاز: نتيجة ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والكهرباء، ففي إيطاليا على سبيل المثال، حذر المسئولون من توقع زيادة بنسبة 40٪ في فواتيرهم خلال الأشهر المقبلة. كما أكدت فرنسا إنها سترسل دفعة واحدة بقيمة 100 يورو لأكثر من 5.8 مليون أسرة منخفضة الدخل لدعمها لمواجهة ارتفاع أسعار الطاقة. وفي إسبانيا، وعدت الحكومة بخفض الأسعار إلى مستويات عام 2018. إلا أن كل ذلك قد لا يوفر الكثير من الرضا للمستهلكين الأوروبيين، الذين ليس لديهم مجال كبير لتحويل المولدات من الغاز إلى الوقود السائل، أو دفع تلك الفواتير الباهظة.
(&) ارتفاع تكاليف إنتاج الشركات: تؤدى الارتفاعات الكبيرة فى أسعار الطاقة إلى رفع تكاليف شركات الطاقة الأوربية، وخاصة الصغيرة وقد يدفع بعضها إلى التوقف عن العمل. كما يؤدى ذلك إلى مزيد من الارتفاع لأسعار المنتجات، الأمر الذى يصب سلبا فى غير صالح المستهلكين الأوروبيين، خاصة إذا كان هذا الارتفاع فى الأسعار يشمل الغذاء، وهو ما ينذر بنشوء محتمل لمشكلة نقص الغذاء.
كما من المحتمل أن سيؤثر ذلك على عدة صناعات أخرى، فعلى سبيل المثال، اضطرت بعض شركات صناعة الصلب البريطانية إلى تعليق عملياتها، وفقًا لمجموعة “يوكيه ستيل” التجارية. وخفضت شركة “يارا” النرويجية (YARIY) للأسمدة إنتاج الأمونيا في أوروبا بنحو 40٪ بسبب ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي القياسية. وتزداد تلك الصعوبات التي يواجهها عمالقة الصناعة في أوروبا بالنسبة للشركات كثيفة الاستهلاك للطاقة، التي لا تمتلك عادةً منشآت إنتاج الطاقة الخاصة بها، ولديها وصول أقلّ إلى أدوات التحوط المتطورة التي يمكن أن تساعد على تعويض مكاسب الأسعار. كما حذرت مجموعة من أكبر شركات إنتاج المعادن في العالم رجال السياسة في أوروبا من أن أزمة الطاقة تنذر بعرقلة مساعي المنطقة للحفاظ على البيئة، وقد تضطر الشركات إلى نقل مصانعها.
وبعثت مجموعة يوروميتو، التي تضم شركات ( جلينكور وريو تنتو ونورسك هيدرو)، برسالة إلى المفوضية الأوروبية في الوقت الذي دفع فيه ارتفاع أسعار الطاقة الشركات إلى خفض الإنتاج، حيث دعت المجموعة إلى تقديم مزيد من الدعم لهذا القطاع، بما في ذلك ضمان عدم ارتفاع أسعار. وكانت شركة “نيتستار إن في” لإنتاج الزنك، أعلنت أنها سوف تخفض إنتاجها في مصنع رئيسي خاص بها بهولندا، لتسلط بذلك الضوء على تأثير ارتفاع أسعار الطاقة على إمدادات وصناعة المعادن.
(&) إجهاض خطط التحول نحو الاقتصاد الأخضر: مع استمرار أسعار الغاز والكهرباء نحو الارتفاع، فإنها سوف تقلل حوافز استخدام الصناعات المختلفة للكهرباء كوسيلة للاستغناء عن الوقود الكربوني. ففى وقت سابق من هذا سبتمبر الجاري، دفع ارتفاع أسعار الغاز وانخفاض إنتاج الرياح المملكة المتحدة إلى إطلاق محطة كهرباء قديمة تعمل بالفحم لتلبية احتياجاتها من الكهرباء. كما نجد الرئيس الأميركي (جو بايدن) المتحمس جداً لخفض الانبعاثات الملوثة للبيئة، خرج قبل أسابيع ليطالب أوبك بزيادة الإنتاج للحد من ارتفاع أسعار البنزين. وتثير هذه الخطوة تساؤلات جدية حول الالتزامات البيئية للحكومة وسط أزمة المناخ. فمن المؤكد أن الفحم هو الوقود الأحفوري الأكثر كثافة من حيث الانبعاثات الكربونية، وبالتالي فهو الهدف الأكثر أهمية للاستبدال في المحور المقترح للبدائل المتجددة، وهو ما يقوض أهداف مبادرة (الصفقة الخضراء) الخاصة بالاتحاد الأوروبي” للوصول إلى الحياد المناخي بحلول 2050.
تأسيساً على ما تقدم، من المتوقع أن يظل تعرض الاتحاد الأوروبي لأزمة أسعار الطاقة المتقلبة خطرًا في السنوات القادمة قبل أن يجلب التحول الأخضر الاستقرار المتوقع للسوق. حيث يعتمد مزيج الطاقة الأوروبي بشكل مبالغ فيه على الطاقة المتجددة والتي بدورها لا يمكن الرهان عليها على الأقل حالياً، خاصة مع عدم إيجاد مخرج لمشكلة استحالة تخزين الطاقات المتجددة مثلما يتم مع النفط أو الغاز والفحم. فقد تفرض تلك الأزمة على قادة الاتحاد الأوروبي إلى البحث العاجل عن حلول لها قبل استفحالها، ووضع أولوية لها مع دفع خطتهم المناخية الشاملة، المتمثلة في خفض انبعاثات الكربون بنسبة 55٪ بحلول عام 2030 – وهي حملة تُعرف باسم “Fit for 55”.
فمن المتوقع أن يجري العمل على التوجيه فيما يتعلق بإجراءات التخفيف التي يمكن للدول الأعضاء اتخاذها بشكل فردي ضمن قواعد الاتحاد الأوروبي. لكن ليس هناك ما يشير إلى أي تدخل مركزي مهم. وسيتعين على الحكومات التوصل إلى حلول مؤقتة، مثل خفض معدلات الضرائب والرسوم الإضافية المطبقة على فواتير الطاقة، والتي يمكن أن تشكل في بعض الدول نصف السعر النهائي، مثلما خفضت الحكومة الإسبانية مؤقتًا ضريبة الكهرباء الخاصة من 5.1٪ إلى 0.5٪. كما يمكن أن تشمل التدابير الأخرى برامج اجتماعية لحماية الأسر الضعيفة والشركات الصغيرة، والتخفيف من فقر الطاقة ومنع الأسر من قطع إمدادات الكهرباء. ولعل اتجاه الدول الأوروبية نحو سياسة تنويع مصادر الطاقة وعدم الاعتماد بشكل كبير على روسيا فى تصدير الغاز ، من شأنه أن يصب في مصلحة الدول العربية المنتجة للطاقة والقريبة جغرافيا، الأمر الذي من شانه توفير فرص تبادل أكثر لمصلحة الطرفين.