قراءة فى التطورات الأفغانية: (٤) ملاحظات ختامية
د. أحمد يوسف أحمد
ناقشت فى المقالات السابقة عددا من القضايا المرتبطة بالتطورات الأفغانية الأخيرة منها ما حاول تفسيرها، ومنها ما سعى لاستكشاف دلالاتها، وأختتم هذه السلسلة بمناقشة قضيتى العلاقة بين النظام الدولى أو بالأحرى قمته وبين النظم الإقليمية والتطورات الإقليمية بصفة عامة، ومستقبل التيار الذى يُسمى خطأً فى تقديرى بالإسلام السياسى وأفضل تسمية التأسلم السياسى لأن الأولى تعنى ضمناً أن ما تفعله الحركات المتطرفة التى تدعى السعى لإحياء الإسلام والحكم بموجبه هو من الإسلام فعلا،ً بينما تفيد تسمية التأسلم السياسى معنى توظيف الإسلام لخدمة أهداف لا علاقة لها به بالضرورة، والقضيتان مهمتان بالنسبة لنا سواء لأننا نتحرك فى إطار نظام إقليمى يهمنا أن ندرك حدود قدرة القوى العالمية على التأثير فيه أو لأن منطقتنا قد شهدت تجليات كارثية لهذا التيار ويهمنا استشراف مستقبله.
أما جدل العلاقة بين العالمى والإقليمى فقد كانت وجهة النظر السائدة حتى ستينيات القرن الماضى تُفيد بأن علاقة التطورات فى الأقاليم محكومة بإرادات القوى العالمية، وبالتالى فإذا أردنا تفسير ما يجرى فى إقليم ما فليس علينا سوى النظر لما تريده القوى العظمى والكبرى لهذا الإقليم، وعلى سبيل المثال تكون حرب أكتوبر١٩٧٣ نتاجاً لمسرحية خططت لها الولايات المتحدة مع السادات وليست عملاً مصرياً وعربياً فريداً لاسترداد الأرض، وصولاً إلى أن انتصار طالبان الأخير تم برضا الولايات المتحدة كى تكون طالبان شوكة فى خاصرة خصميها اللدودين الصين وروسيا، ومشكلة هذا النوع من التحليلات أنه فاقد للبرهنة العلمية، ثم بدأت وجهة نظر أخرى تتبلور مفادها أن للأقاليم إراداتها الذاتية، وأنها قادرة على التقليل من تأثير القوى العالمية عليها بل وتحييده وصولاً إلى إمكان أن تؤثر الأقاليم فى القوى العالمية، وقد اكتسبت وجهة النظر هذه جدارة على ضوء الواقع الفعلى، فهى لم تدع غياب أثر القوى العالمية على الأقاليم فهو موجود وظاهر، ولكن كل ما ذهبت إليه أن الأقاليم قادرة على مقاومة تأثير القوى العالمية فتقلل منه أو تحيده أو حتى تصبح هى صاحبة التأثير على القوى العالمية، والأمثلة عديدة وقد سبقت الإشارة إلى هزيمة بريطانيا فى أفغانستان فى القرن ١٩، ويمكن أن نضيف هزيمة فرنسا فى الهند الصينية (ڤيتنام الحالية) فى خمسينيات القرن الماضى، وحركات التحرر الوطنى الظافرة فى الوطن العربى وبالذات فى الجزائر وجنوب اليمن، وحرب أكتوبر١٩٧٣ التى جاءت تحدياً لإرادتى القوتين العظميين آنذاك، وصمود إيران بوجه الضغوط والعقوبات الأمريكية، وما فعلته المقاومة العراقية ومن بعدها الأفغانية بالغزو الأمريكي٢٠٠٣، وقد تعمدت عدم ذكر الأمثلة التى كان الدعم الدولى فيها جلياً كحرب فيتنام التى كان الدعم السوڤيتى والصينى فيها للڤيت كونج واضحاً، وقد لعبت الأقاليم على النحو السابق دوراً فى التأثير على بنية النظام الدولى، فأدت حركات التحرر فى خمسينيات القرن الماضى وستيناته إلى تراجع الدور العالمى لبريطانيا وفرنسا تماماً كما أسهمت المقاومة العراقية فى تآكل نموذج الأحادية القطبية التى بلغت أوج جموحها بغزو العراق في٢٠٠٣، وهاهى التطورات الأفغانية تضيف مثالاً آخر، فليست الولايات المتحدة بعد هزيمتها فى أفغانستان كما كانت قبلها، وأصبح شعار “أمريكا عادت” الذى رفعه بايدن فى بداية ولايته لا يعنى عودتها لقيادة العالم، وإنما عودتها للتركيز على داخلها، والدروس واضحة لمن يستسهلون الخضوع لإرادات القوى العظمى والكبري.
أما مستقبل التأسلم السياسى على ضوء انتصار طالبان فيجب أن يكون واضحاً أن انتصارها لا يعنى تفوق نموذجها وإنما فساد نموذج التدخل الخارجى لتقويض نظام حكم وإحلال آخر محله، وقد راجت أفكار بعد سيطرة طالبان مفادها شروق الشمس على الحركات المتشددة وأن طالبان قد استفادت من أخطائها ومن ثم فسوف تقدم نموذجاً جديداً يتفادى هذه الأخطاء، وصحيح أن انتصارها قد يضخ دماءً جديدة فى عروق مثيلاتها من الحركات المفارقة للتاريخ، لكن مقولة تطويرها لنموذجها فاقدة لأى أساس، فما الذى يدعو حركة انتصرت على القوة الأولى فى العالم لأن تغير نموذجها؟ خاصة وقد أصبحت القوى المعنية إما خاطبة لودها أو داعية إلى التعامل معها لاعتبارات عملية، وحتى لو حدث تطوير ما فلن يكون سوى تطويرٍ شكلى وفى الأغلب وقتى، ويبقى السؤال المهم: هل يمثل انتصار طالبان دفعة لحركات التأسلم السياسى فى منطقتنا؟ الإجابة عندى بلا قاطعة لسبب بديهى وهو أن المنطقة باتت تملك مناعة قوية مضادة لهذه الحركات التى نالت فرصة غير مستحقة لولا تشرذم القوى السياسية عقب الانتفاضات الشعبية فى مطلع العقد الماضى وغياب الوعى و/أو غلبة الانتهازية لدى البعض، وقد مثلت هذه الفرصة نقطة الذروة فى منحنى صعودها، إذ انكشفت طبيعتها الشمولية العنيفة وعجزها الفاضح عن إدارة الدولة، وكانت البداية بمصر التى انتفض شعبها بحماية قواته المسلحة وأطاح بالحكم الشمولى، ثم امتدت الظاهرة إلى تونس التى تراجع فيها نفوذ النهضة بالتدريج عبر صناديق الانتخاب إلى أن اتخذ الرئيس التونسى قراراته الأخيرة بدعم شعبى واضح،، وإذا كان البعض قد اتهم الخطوات الحاسمة فى التجربتين المصرية والتونسية بأنها غير دستورية فقد جاءت الانتخابات المغربية لتثبت بما لا يدع مجالاً لأى شك حصانة شعوب المنطقة ضد حركات التأسلم السياسى فقد سقط حزبها فى المغرب من الحزب الأول إلى الثامن بآليات انتخابية صرفة، ناهيك بأن هذه الحركات لم تنجز سوى قدر هائل من التخريب فى ليبيا وسوريا بدعم خارجى دون أن تحصل يوماً على أغلبية شعبية. أعان الله شعب أفغانستان فى محنته وعزز قدرتنا على كشف كل ما هو زائف.