أين تقف روسيا من التقارب “التركي” “الأرميني”؟
تتابع الأوساط السياسية عن كثب مجموعة من المؤشرات الإيجابية عن احتمالية التقارب بين أرمينيا وأذربيجان، والتصريحات المتفائلة الصادرة عن مسئولي كلا البلدين، من أجل استعادة العلاقات الدبلوماسية بعد انقطاع دام أربعين عاما، فقد أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على سبيل المثال في أواخر الشهر الماضي عن ” استعداد تركيا للتطبيع التدريجي مع أرمينيا، حال انتهجت الحكومة الأرمينية مواقف واقعية، وابتعدت عن كل الاتهامات الأحادية “، وفي ديسمبر من العام الماضي؛ كان وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو قد أشار إلى إمكانية تطبيع العلاقات مع أرمينيا، بشرط التزامها باتفاق وقف إطلاق النار في إقليم قرة باغ. وفي الثامن من سبتمبر الجاري، جاء الرد من قبل رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، الذي عبر عن رغبة بلاده في استعادة العلاقات الدبلوماسية بتركيا، وقال ” نحن على استعداد لإجراء مشاورات من أجل تطبيع العلاقات مع تركيا، وإعادة إحياء النقل البري وخطوط السكك الحديدية، وفتح الحدود بين البلدين، كما أكد أن سعي أرمينيا للحفاظ على العلاقات مع تركيا ” بدون شروط مسبقة”، لخلق جو من الثقة المتبادلة بين أنقرة ويريفان.
يذكر أن تركيا أغلقت حدودها مع أرمينيا في عام ١٩٩٣ لدعم أذربيجان، وذلك بعد إعلان أرمينيا الاستقلال في ١٩٩١، واحتلال إقليم قرة باغ. لكن في نوفمبر ٢٠٢٠ أعلن الرئيس الأذربيجاني إلهام عليف استسلام القوات الأرمينية في إقليم قرة باغ، ووقف الاشتباكات بموجب اتفاق لوقف إطلاق النار، تم توقيعه بين أذربيجان وأرمينيا وروسيا.
وفي هذا الإطار؛ يقدم التحليل رؤية حول مدى إمكانية النجاح في تطبيع العلاقات التركية الأرمينية من عدمها في ظل التصريحات المتفائلة من قبل المسئولين في كلا البلدين، ومدى استفادة كل طرف من استعادة العلاقات، ومحاولة التكهن بأسباب إطلاق التصريحات الإيجابية في ذلك التوقيت، فضلا عن توضيح بعض المواقف الإقليمية من تلك الخطوة.
فرص أنقرة:
يحاول أردوغان استغلال حالة الغضب والسخط الشعبي في أرمينيا ضد رئيس الوزراء نيكول باشينيان، خاصة بعد خسارة إقليم قرة باغ في الحرب الأخيرة مع أذربيجان، ووفقا لذلك فقد يحاول أردوغان فرض شروطه لاستكمال مسار تطبيع العلاقات مع الجانب الأرميني، ومن أهم تلك الشروط؛ اعتراف أرمينيا بخسارة إقليم قرة باغ، والعدول عن فكرة ضمه مرة أخرى، والرجوع عن اتهام تركيا بإبادة الأرمن، وفتح الممرات للنقل، والأسواق، وتسليم مزيد من الأراضي لأذربيجان، ومحاولة تحجيم تحالفها مع روسيا ضد أنقرة، هذا بالإضافة إلى مشروع مد خط أنابيب الغاز من تركيا حتى ناختشقان عبر الأراضي الأرمينية، وبالطبع ستحاول أرمينيا الاستفادة من هذا المشروع، وبالفعل؛ فقد بدأت أرمينيا خطوات عملية في سبيل ذلك، حيث سمحت للخطوط الجوية التركية بالتحليق والعبور لباكو مباشرة عبر أراضيها، كما أعدت الحكومة خطة عمل ووافق عليها البرلمان الأرميني، وتضمنت الموافقة على بذل كافة الجهود لإنجاح عملية التطبيع مع تركيا، لذا من المتوقع أن يؤدي مثل هذا المناخ الإيجابي إلى محادثات قد تفضي إلى التوصل لاتفاق مرضي للطرفين.
وبالتالي، فإن أردوغان وفقا لشرطه يحاول ضرب عصفورين بحجر واحد، فمن ناحية يعمل على حماية مصالح أنقرة في القوقاز، ومن ناحية أخري؛ فإنه يدعم علاقاته بالولايات المتحدة والغرب، باعتباره يسعي أيضا لمناكفة وتحجيم النفوذ الروسي في تلك المنطقة، لذا فإن الرابح في هذه المعادلة هو أردوغان والغرب.
مشروع خط أنابيب الغاز:
تم توقيع اتفاق بين تركيا وأذربيجان بشأن مشروع مد خط أنابيب الغاز من تركيا وحتى جمهورية ناختشقان (جمهورية أذربيجانية متمتعة بالحكم الذاتي، لكنها غير متاخمة لأذربيجان) وذلك بعد التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في إقليم قرة باغ، بعد انتصار القوات الأذرية، وكان من المقرر أن يبدأ تنفيذ المشروع خلال الشهر الجاري، وكان قد تم تصميم خط أنابيب الغاز لإلغاء شرط أن تشارك أذربيجان في مبادلات الغاز مع إيران لتزويد منطقة ناختشقان.
وبناءا على ذلك؛ فقد ربطت بعض التحليلات بين توقيت بدء المحادثات والتصريحات الذي يعتبر مثير للاهتمام، رغم هزيمة أرمينيا أمام أذربيجان وبدعم تركي، وبين التوقيت الذي من المفترض أن يبدأ فيه تنفيذ المشروع، لهذا ترى أرمينيا ضرورة تنحية الخلافات المتأصلة تاريخيا مع أنقرة جانبا، والسير في طريق استعادة العلاقات الثنائية في عدة مجالات، لاسيما المجالات الملحة منها حاليا، كما أنه إذا تم استعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين سيكون ذلك بمثابة انتقاص لدور باكو في المنطقة، صحيح أن التحالف التركي الأذربيجاني سيظل كما هو، إلا أن رونقه وزخمه سيقل مع تحسن علاقات تركيا بأرمينيا.
ترقب إقليمي:
العديد من القوى الإقليمية غدت مترقبة لما ستنتهي إليه العلاقات التركية الأرمينية، أهمها على سبيل المثال:
(*) الموقف الروسي: فالتوصل إلى اتفاق تركي أرميني سيكون الرابح الأكبر من ورائه، هو تركيا والغرب، أما موسكو فقد تكون الخاسر الأكبر إذا لم تكثف جهودها لتعطيل جهود التطبيع أو محاولة الاستفادة منها، رغم أنها لن تكون سعيدة بالتقارب التركي الأرميني، لأن روسيا تعلم أن اي انفتاح – حتى وإن كان محدودا – لتركيا مع أرمينيا سيعتبر انفتاح على منطقة جنوب القوقاز بأكملها، واتصال أوسع مع أذربيجان، مما سيوفر سوقا لأرمينيا، بالتالي تنويع اقتصادها، وعندها ستكون أقل اعتمادية على موسكو والطريق الذي يمر عبر جورجيا، وبالتالي تضاؤل النفوذ الروسي في جنوب القوقاز.
لكن رغم ذلك؛ فقد أعلن رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان أن روسيا مستعدة لدعم عملية التطبيع بين بلاده وأنقرة، وهو ما صرحت به المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروف، وقالت ” نحن الآن على استعداد لمساعدة الدولتين المتجاورتين على التوصل لاتفاق، وأن يكون على أساس الاحترام المتبادل ومراعاة مصالح الطرف الآخر “، وفي هذا الإطار؛ فقد أثيرت بعض التكهنات حول مصلحة روسيا وأسباب مباركتها للتطبيع بين أنقرة ويريفان، رغم أنه من المفترض سيؤثر على نفوذها في المنطقة، وانتهت إلى أن مباركة موسكو للتطبيع فهو إما للاستفادة من طريق بري مباشر إلى تركيا عبر أذربيجان وأرمينيا، أو الاشتراك في مشروع خط أنابيب الغاز.
(*) الموقف الإيراني: إيران لازالت تترقب ما ستبوح به الفترة القادمة من مستجدات على صعيد العلاقات التركية الأرمينية، خاصة بعد الاتفاق على مشروع أنابيب الغاز إلى جمهورية ناختشقان، لأنه سيضعف النفوذ الإيراني في المنطقة، باعتبار أن إيران هي من تمول ناختشقان بالغاز بناءا على اتفاق في ٢٠٠٥، كما توفر له مياه الشرب، فضلا عن أنه من المتوقع أن يكون مشروع الغاز نقطة انطلاق للمشروعات التركية في المنطقة، مثل السكك الحديدية والطاقة بين تركيا وناختشقان وأذربيجان في آسيا الوسطي، ورغم أن المشروع ستكون له تبعاته السلبية على أرمينيا وجورجيا، إلا أن إيران ستكون المتضررة أكثر بينهم، خاصة أن سكان الإقليم من الشيعة، والأكثر في حالة انضمام أرمينيا إليه حال نجاح مساعي التطبيع، لذا من الممكن أن تستخدم إيران أوراقها الثلاثة لمواجهة المد التركي في المنطقة.
وجدير بالذكر، إن إيران تعارض المشروع أو التطبيع من الأساس لأن أرمينيا على الحدود مع تركيا، لذلك تحاول طهران منعها من التواصل مع الدول الإسلامية مثل تركمانستان وأوزباكستان وأذربيجان، وهو ما صرح به مسئول سابق في الخارجية الإيرانية.
(*) الموقف اليوناني: فقد أثارت وسائل الإعلام اليونانية مسألة استعادة العلاقات الدبلوماسية بين تركيا وأرمينيا بعد انقطاع دام لأربعبن عاما، كما ركزت على الإشارات الإيجابية، وسرد التصريحات المتفائلة بين القادة والمسئولين لدى الجانبين، والتي ترى أنها أدت إلي انزعاج اليونان، خاصة مع احتمالية وجود تعاون عسكري بينهما، حيث ذكرت أن ” التصريحات المتبادلة بين المسئولين في تركيا وأرمينيا سببت إرباكا لليونان “. وفي واقع الأمر، فإن موقف اليونان المنزعج من التموضع التركي في منطقة جنوب القوقاز غير قائم على مبررات محددة، ولكن من المؤكد أنه يأتي في إطار الخلافات مع تركيا في عدة ملفات، أهمها غاز شرق المتوسط والقضية القبرصية.
محصلة التحليل؛ يتضح من خلال تصريحات المسئولين الأتراك والأرمن، والتي من المؤكد أنه سبقها اتصلات ومحادثات خلف الكواليس، كذلك الموقف الروسي الذي أعلن تأييده للخطوة، لأنه من البديهي قبل أن تقدم أرمينيا على خطوة الإعلان عن رغبتها في التطبيع مع تركيا، سيكون قد سبقها تنسيق مسبق مع روسيا، أن هناك احتمالية بنسبة كبيرة لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بين أنقرة ويريفان، لكن رغم ذلك لا يمكن إنكار وجود احتمالات للفشل أيضا وتدعمها عدة عوامل، أهمها؛ لأنه إذا كان الهدف من مباركة موسكو لاستعادة الجارتين علاقاتهما هو محاولة إيجاد طريق بري لتركيا، فإنه سيكون طريق صعبا وطويلا، وسيظل التواصل الأساسي بين أنقرة وموسكو عبر البحر الأسود كطريقا للتجارة، كذلك الموقف الأذري، الذي من الممكن أن يحاول التأثير على أنقرة حتى لا يتعارض ذلك مع مصالحها، هذا بالطبع دون إغفال أن العلاقات التركية الأرمينية يتخللها مناخ من عدم الثقة والمتأصل تاريخيا.