كيف تفكر دول الخليج في التعامل مع أفغانستان؟
تحتفظ معظم دول الخليج بحضور مؤثر في الملف الأفغاني، منذ ثمانينات القرن الماضي، بالنظر للارتباطات الجيوسياسية والدينية، فضلا عن العلاقات الممتدة مع باكستان الدولة الأكثر اقتراباً من الملف الأفغاني. ومع تبدل الخارطة السياسية الأفغانية عقب الغزو الأمريكي 2001 لم يتأثر الدور الخليجي كثيرا واحتفظ بمكانة متميزة دعمت حضور بعض دوله (خاصة قطر والسعودية والإمارات) كوسيط بين مختلف الأطراف، وصولا لمشهد الانسحاب الأمريكي وما أظهره من توسع مساحة الحركة الخليجية بالتنسيق مع الولايات المتحدة والأطراف الإقليمية والدولية.
وتأسيسا على ما سبق؛ يستهدف هذا التحليل استشراف الدور المستقبلي لدول الخليج العربي في أفغانستان في ضوء الانسحاب الأمريكي وانعكاساته على إطار الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.
الدور الخليجي في ترتيبات الانسحاب:
لعبت دول الخليج دورًا مهمًا في ترتيبات الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، سواء في الترتيبات الأمنية الأولية أو دعم عمليات الإجلاء واستضافة بعض الرعايا الأفغان ” المؤقتة” على أراضيها، لحين نقلهم لوجهاتهم النهائية، سواء في واشنطن أو في عواصم غربية أخرى، فضلا عن جهود ما بعد الانسحاب من تقديم مساعدات فنية لقطاع الطيران الأفغاني وتأهيل المطارات لاستقبال المساعدات الإنسانية، وتتمثل الجهود الخليجية في التالي:
(*) دولة قطر: لعبت قطر دور مهم في التحضيرات السياسية والأمنية المُسبقة (التمهيدية) عبر استضافتها المكتب السياسي لحركة طالبان، والتي سمحت للدوحة بأن تكون قناة رئيسية للتواصل مع الحركة، وعقد العديد من جولات التفاوض مع الجانب الأمريكي، تُوجت باتفاق السلام في أفغانستان، الموقع بالدوحة في فبراير 2020. وفي الثاني من يوليو 2021 بُعيد إخلاء قاعدة باغرام في أفغانستان، أعلن المتحدث باسم البنتاغون استضافة الدوحة مكتبا للتعاون الأمني الدفاعي بقيادة العميد كورتيس بازارد يقود الدعم التمويلي للقوات العسكرية والأمنية الأفغانية وصيانة الطائرات، بالتنسيق مع وحدة أمريكية أفغانية تقرر إنشائها في ذلك الوقت في كابل بقيادة الأدميرال البحري بيتر فاسيلي. كما قامت الدوحة بدور مهم في إجلاء عشرات الآلاف من الرعايا الأجانب والمتعاملين الأفغان مع القوات الأمريكية، علاوة على دورها في تشغيل مطار كابول، إلى جانب استضافتها لمقار البعثات الدبلوماسية للعديد من الدول الغربية وعلى رأسها بعثة واشنطن، وفق ما أعلنه وزير الخارجية الأمريكي في 31 أغسطس 2021، في ظل عدم اعتراف غالبية دول العالم بشرعية الحكومة المؤقتة التي أعلنت عنها الحركة حتى الآن، علاوة على دورها في إعادة تشغيل مطار كابول بالتعاون مع تركيا.
(*) السعودية: كانت المملكة قد رعت مباحثات سلام بين حركة طالبان والحكومة الأفغانية في عام 2008، وحرصت على التفاعل بشكل مستمر مع المشهد السياسي الأفغاني بتعقيداته المختلفة، نذكر منها مؤخراً ستضافتها لاجتماع طارئ لمنظمة التعاون الإسلامي في 22 أغسطس 2021، داعية لإحلال السلام عبر تسوية سياسية شاملة، كما رحبت الرياض في 8 سبتمبر مبدئيا بتشكيل حكومة تصريف الأعمال آملة أن تساهم في تحقيق الاستقرار ونبذ العنف والتطرف.
(*) دولة الإمارات: كانت الإمارات من أوائل الدول المساهمة في الجهود الإنسانية في أفغانستان، مع إعلانها في 18 أغسطس الماضي استضافة الرئيس أشرف غني وأسرته عقب هروبهم من كابل لأسباب إنسانية، فيما بدأت إرسال أولى طائرات المساعدات إلى أفغانستان في 3 سبتمبر 2021 ضمن جسر جوى لتوصيل عشرات الأطنان من المساعدات. واستضافت أبو ظبي قرابة 8500 أفغاني بصفة مؤقتة في مدينة زايد الإنسانية، كما ساهمت في إجلاء حوالي 40 ألف شخص باستخدام طائراتها ومطاراتها إلى وجهاتهم النهائية، وغني عن البيان احتضانها سابقا لمباحثات السلام الأفغانية قبيل انتقالها إلى الدوحة وفي ديسمبر 2018 بالتنسيق والتعاون مع باكستان.
(*) دولة البحرين: قامت مملكة البحرين بدور مهم في عمليات الإجلاء من أفغانستان، من خلال السماح باستخدام مطاراتها كنقطة عبور للاجئين الأفغان لتسهيل عمليات الإجلاء، فيما بدأت مملكة البحرين منذ الخامس من سبتمبر 2021 تسيير شحنات إغاثية غذائية ودوائية إلى مطار حامد كرزاي الدولي بالعاصمة الأفغانية كابل، تحت إشراف المؤسسة الملكية للأعمال الإنسانية، فيما سيرت رابع شحنة مساعدات لها إلى مطار قندهار جنوبي أفغانستان في الثاني عشر من سبتمبر الجاري.
(*) دولة الكويت: لعبت الكويت دورًا مهمًا على المستوى اللوجسيتي والإنساني فيما يتعلق بعمليات أفغانستان، حيث أعلن المندوب الدائم لدولة الكويت لدى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية السفير جمال الغنيم في الثالث عشر من سبتمبر الجاري، سماح بلاده بالعبور الآمن لنحو 15 ألف شخص من رعايا 32 دولة مختلفة بجانب المواطنين الأفغان، وقدمت لهم المساعدات الإنسانية الأساسية، فضلا عن استعداد الكويت للمساهمة في “تعزيز الاستجابة السريعة لمواجهة التداعيات الإنسانية في أفغانستان”. وعلاوة على الجهود الإنسانية والمساعدات الفنية، ساهمت القواعد الأمريكية في الكويت في تأمين عمليات الإجلاء، ففي 12 أغسطس الماضي ذكرت شبكة “سي إن إن”، أن واشنطن تعتزم إرسال 3 آلاف عسكري أمريكي من السعودية والكويت لتأمين مغادرة الدبلوماسيين ودعم “أي عمليات إجلاء محتملة” في ذلك الوقت.
(*) سلطنة عُمان: يعتبر الموقف العماني هو الأقل مساهمة بين دول الخليج الست في مساعدة الولايات المتحدة والدول الأوروبية في ترتيبات الإنسحاب،وحتى الآن من الصعب التأكيد على أسباب هذا الغياب لدور السلطنة، وهل هو لأعتبارات داخلية اقتصادية مرتبطة بجائحة كورونا وما أدت إليه من تداعيات سلبية على الاقتصاد العماني، أم لإعتبارات أخرى مرتبطة بالعلاقات العمانية الإيرانية، وعدم رغبة مسقط في لعب نفس الأدوار التي تلعبها دول خليجية لصالح الولايات المتحدة، بينما يتحدث البعض عن موقف مفتي السلطنة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، وهو في الوقت ذاته نائب رئيس “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”، في تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، حيث بادر فور سيطرة طالبان على المشهد بتهنئة الشعب الأفغاني بـ”النصر المبين” بعد يوم من سيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانية كابل، كما كتب تغريدة أخرى مطلع سبتمبر الجاري أعاد التأكيد فيها على ذات المضمون بإنجاز “نصر الله العزيز للمجاهدين على أعظم قوة استكبارية في الأرض”،في حين لم تعقب أي دوائر حكومية عُمانية عن موقف البلاد من التطورات في أفغانستان أو حول ما صرح به مفتي السلطنة.
مؤشرات التغير المحتملة في الشراكة الاسترتيجية الأمريكية الخليجية:
(&) احتمالية نقل الثقل العسكري الأمريكي من الخليج للأردن: حيث صادق العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني في 16 مارس 2021 على اتفاقية التعاون الدفاعي مع الولايات المتحدة الموقع عليها حكومتي البلدين بتاريخ 31 يناير 2021، تضمنت التأكيد على أهمية الوجود العسكري في دعم أمن واستقرار المنطقة ومهدت لاستخدام الجيش الأمريكي لمرافق ومناطق عسكرية من مطارات وموانئ ومناطق حدودية وفق أي اتفاقات تنفيذية لاحقة بين عمّان وواشنطن تطبيقا لبنود هذه الاتفاقية. وعلى هامش زيارة العاهل الأردني إلى واشنطن خلال الفترة من 19 إلى 24 يوليو 2021، في أول زيارة لزعيم عربي في عهد الرئيس جو بايدن، كشف مسئول بالبنتاغون في تصريحات إعلامية عن تطلع بلاده أن تمثل الأردن ثقلا عسكريا بديلا لها عن قطر.
(&) إدخال العراق ضمن منظومة الأمن الخليجية: أعلن الرئيس الأمريكي خلال لقائه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في واشنطن 25 يوليو 2021 اعتزامه إنهاء “المهام القتالية” لقواته العاملة في العراق بنهاية العام الحالي، على أن تبدأ مرحلة جديدة من التعاون العسكري بين البلدين، تتعلق بتدريب القوات العراقية وتقديم الاستشارات والمعلومات الاستخباراتية.وفي يوم الخميس 16 سبتمبر 2021، وعلى ضوء ذلك التطور أعلنت اللجنة الفنية العسكرية العراقية الأمريكية، المنبثقة عن الحوار الاستراتيجي بين البلدين، الاتفاق على تقليص الواحدات العسكرية الأمريكية في قاعدتي عين الأسد بمحافظة الأنبار، وإربيل بإقليم كردستان، فضلا عن تخفيض مستوى قيادة التحالف الدولي من رتبة فريق إلى رتبة لواء لخدمة الأغراض المذكورة آنفا. كما تعمل واشنطن على دفع فرص التعاون والانفتاح السياسي والاقتصادي والأمني بين العراق ودول الخليج ( الربط الكهربائي وغيرها).
(&) التوجه للاعتماد على قوات صغيرة وتغيير الاعتماد على الأسلحة الثقيلة لصالح الطائرات المسيرة: في 18 يونيو 2021، أكدت القائد البحري جيسي ماكنولتي في تصريحات إعلامية، ما تم تداوله من سحب البنتاغون 8 بطاريات باتريوت من الكويت والسعودية والأردن والعراق بغرض الصيانة والإصلاحات لبعضها والبعض الآخر في إطار خطة إعادة الانتشار، مع الحفاظ على وجود عدد كافٍ من القوات عالية القدرات، على حد تعبيرها، بما يتناسب مع التهديدات في منطقة الشرق الأوسط ويحافظ في الوقت نفسه على المصالح الأمنية الأمريكية. كما علن الناطق باسم الأسطول الأمريكي الخامس تيم هوكينزعن تأسيس قوة جديدة “لدمج سريع للأنظمة غير المأهولة المسيرة عن بعد والذكاء الاصطناعي مع العمليات البحرية” في نطاق عمل الأسطول، وهي أنظمة يمكن استخدامها تحت الماء وعلى الماء وفوقه، على حد تعبيره.يتركز عمل القوة الجديدة على تعزيز قدرات الردع في مواجهة أنشطة إيران المؤثرة على حركة الملاحة البحرية بمياه الخليج على وجه الخصوص، وذلك في أعقاب هجوم بطائرة مسيرة على ناقلة نفط تابعة لرجل أعمال إسرائيلي أواخر يوليو الماضي، وأسفر عن مقتل شخصين من طاقم الناقلة أحدهما بريطاني والآخر روماني الجنسية.
ختامًا، تؤشر المتغيرات السابق ذكرها إلى تغير محتمل في نوعية ومهام القوات الأمريكية العاملة في منطقة الشرق الأوسط بوجه عام وبشكل تدريجي يتلائم مع طبيعة التهديدات ودرجة حدتها، وذلك بالنظرلعدة اعتبارات منها ردع إيران ، حيث ستحتفظ الولايات المتحدة بحضور مؤثر بمنطقة الخليج العربي دعما لأمن حلفائها سواء من دول مجلس التعاون، أو كل من القوى الأوروبية واليابان جراء أي ضرر قد يعوق حرية الملاحة البحرية وحركة ناقلات النفط عبر مياه الخليج وخليج عمان.كما يرتبط الاتجاه نحو الأردن بالحد من فرص المواجهة مع الجانب الإيراني وتخفيف حدة التوتر، بجانب معالجة مخاوف إسرائيل من تمدد الميليشيات الموالية لطهران من جهة الحدود مع الأراضي السورية في درعا. كما ينبني الموقف الخليجي في مجمله على المساهمة الفعالة في صياغة المعادلة السياسية الجديدة في أفغانستان، لمعالجة ملفات حيوية تتعلق بتجنب تحولها إلى بؤرة تهديد أو خزانا لتجنيد العناصر الإرهابية وإرسالها مجددا إلى منطقة الشرق الأوسط في ظل الفراغ الأمني بجوارها العربي شمالا وجنوبا، ومن ثميمثل الدور الخليجي في أفغانستان واعتمادية الولايات المتحدة وغيرها من القوى الدولية عليه معززا إضافيا للشراكة الاستراتيجية بين الجانبين.