أصداء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان
د. علي الدين هلال
ليس مبالغا القول إن الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان هو أهم الأحداث السياسية التي شهدها الربع الأول من القرن الواحد والعشرين.
وذلك من ناحية الظروف، التي أحاطته، والتداعيات الأمنية والجيوستراتيجية التي خلَّفها، وآثاره على توازن القوى في غرب آسيا وداخل أفغانستان.
المُفارقة الكبرى في هذا التطور أن القوات الأمريكية، التي هاجمت أفغانستان في 2001 بهدف إسقاط نظام حُكم “طالبان”، ها هي في 2021 تنسحب وتُسلِّم الحُكم لـ”طالبان”، بل إن انسحابها جاء بالتنسيق مع الحركة، التي تعهدت بعدم الهجوم على القوات الأمريكية إبان الانسحاب، كما تعهدت بمحاربة تنظيمي “داعش” و”القاعدة” الإرهابيين، والتنظيمات المشابهة لهما.
فيا لها من مُفارقة غريبة ومحزنة في نفس الوقت! تُذكرني بتعبير الفيلسوف الألماني فريدريك هيجل عندما كتب عن سُخرية التاريخ من الذين يتحدّون القواعد التي تحكم مسيرته، فينتهي الأمر بهزيمتهم.
ولم يأتِ هذا التفاهم بين أمريكا وبين “طالبان” فجأة أو دون مقدمات، بل كان نتيجة مفاوضات مباشرة عام 2019 بين المبعوث الأمريكي “زلماي خليل زاد” والمُلا “عبد الغني برادر”، مسؤول المكتب السياسي لحركة “طالبان” في الدوحة، انتهت بتوقيع اتفاقية بين الطرفين في 29 فبراير 2020، وتم ذلك دون مشاركة الحكومة الأفغانية الموالية لواشنطن.
واستمر التواصُل بين الطرفين في الأيام العصيبة، التي أعقبت دخول “طالبان” العاصمة الأفغانية في 15 أغسطس الماضي، والذي تجلَّى في لقاء “وليام بيرنز”، مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، مع “برادر” في كابول، وهو اللقاء الذي كشفت عنه وكالة “رويترز” يوم 24 أغسطس الماضي.
يبدو أن “طالبان” تستثمر الموقف الراهن في إدارة حملة علاقات عامة، بهدف تغيير صورتها التي اتَّسمت بالغلظة والقسوة خلال فترة حُكمهم 1996-2001 أمام العالم، وذلك أملاً في كسب الاعتراف الدولي بالحكومة الجديدة، وفي الدعم الدولي لإعمار أفغانستان، التي تُعتبر من أفقر دول العالم وأقلها تنمية.
وتستخدم الحركة في هذه الحملة وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً موقع “تويتر”، لطرح هذه الصورة الجديدة لها.
هذا في الوقت الذي ما زالت فيه الحركة على قائمة المنظمات الإرهابية في الولايات المتحدة وكثير من دول العالم، وما زالت أفكارها الأساسية وبناؤها الحركي التنظيمي دون تغيير.
ذلك أدى إلى طرح أسئلة عديدة وصعبة في أوساط الرأي العام الأمريكي مثل “لماذا دخلنا أفغانستان؟” و”ماذا حققنا بعد 20 عاماً من الحرب كانت كُلفتها 2.3 تريليون دولار؟ وموت 2400 ضابط وجندي أمريكي، إضافة إلى موت 1100 من قوات الدول الحليفة أعضاء حلف الناتو؟” و”لماذا جاء الانسحاب بهذا الشكل البائس الذي نقلته شاشات التلفاز في كل دول العالم؟”.
واستخدم الكتَّاب والمعلِّقون في وصف هذا المشهد تعبيرات مثل الفشل، والهزيمة، والتخلي عن الشعب الأفغاني، وأن أمريكا حليف “غير موثوق به”، وأن ذلك سوف يؤثر على مكانة الولايات المتحدة ومصداقيتها في العالم.
فى هذا السياق، ركز بعض المُحلِّلين على اهتزاز الثقة في واشنطن، ليس فقط بين عشرات الآلاف من الأفغان الذين تعاونوا مع السُلطات الأمريكية ولم تتمكن الطائرات الأمريكية من اصطحابهم قبل الانتهاء من مُهمتها في 30 أغسطس، ولكن أيضاً بين عدد من حلفاء أمريكا الأوروبيين، وفي مقدمتهم بريطانيا وفرنسا وألمانيا، الذين انتقدوا انفراد أمريكا بتحديد موعد الانسحاب من أفغانستان دون تشاور معهم.
وطلب رئيس الوزراء البريطاني “بوريس جونسون” تمديد الفترة التي يتم فيها الانسحاب حتى تتمكن الحكومة البريطانية من إجلاء كل رعاياها والأفغان المتعاونين معها، وذلك اعترافاً منه بعدم قدرة لندن على حماية مطار كابول في غياب القوات الأمريكية.
ووصف أحد المرشحين لخلافة المستشارة الألمانية “ميركل” بأن ما حدث هو “أكبر فشل أصاب حلف الأطلنطي منذ إنشائه حتى الآن”.
وكان للانسحاب الأمريكي آثار وأصداء في أكثر من بلد حول العالم.
فاستقبلت دولة الإمارات آلاف المهاجرين الأفغان الذين نقلتهم الطائرات الأمريكية كمحطة ترانزيت قبل نقلهم مرة أخرى إلى الدول التي سوف تستضيفهم.
وانتقل أعضاء السفارة الأمريكية في كابول إلى الدوحة لكي يُمارسوا عملهم منها لحين استقرار الأوضاع الأمنية في كابول.
وتخوف بعض المُحلِّلين من أن انحساب القوات الأمريكية من العراق مع نهاية هذا العام سوف يؤدي إلى تنامي نشاط تنظيم “داعش” الإرهابي.
وتخوفت معظم الدول العربية -وبقية دول العالم- من أن تصبح أفغانستان تحت حُكم طالبان ملاذاً للتنظيمات المتطرفة والإرهابية، ومصدراً للعمليات الإرهابية في دول أخرى.
ومن الأرجح أن تستمر هذه الأصداء والتداعيات مع تبلور شكل نظام الحُكم الجديد في أفغانستان، والذي سوف ترسم معالمه “طالبان” وسياساتها في الداخل والخارج.
نقلا عن العين الإخبارية.