قراءة فى التطورات الأفغانية: (٢) معضلة التنبؤ
د. أحمد يوسف أحمد
لا تثير التطورات الأفغانية الأخيرة قضايا تتعلق بمستقبل أفغانستان أو محيطها الإقليمى أو النظام الدولى فحسب وإنما تنطوى أيضا على دلالات نظرية مهمة تتعلق بإشكاليات التحليل السياسي، وقد مثلت المقالة الماضية بداية التأمل فى هذه الدلالات بقدر محاولتها إعادة الاعتبار لمكانة التاريخ فى التحليل السياسي، وثمة دلالات مهمة أخرى ترتبط مثلاً بدور الجغرافيا فى هذا التحليل كما أظهر الدكتور محمود توفيق باقتدار بمقالته فى الأهرام بتاريخ(32/8)، وبتأكيد حدود قدرة القوة العسكرية على تحقيق أهداف سياسية وبفساد فكرة الخلق الخارجى للنظم السياسية وغيرها، وسوف أُركز هنا على معضلة التنبؤ فى التحليل السياسى نظراً لما تردد فى سياق تسارع الأحداث من أن سيطرة طالبان لم تكن متوقعة، أو أنها لم تكن على الأقل متوقعة بهذه السرعة، والتنبؤ هو غاية كل علم، فالاستشراف الناجح للمستقبل يجعلنا أكثر قدرة على التحكم فيه أو على الأقل التحسب له، ففى الظواهر السياسية قد يمكننا مثلاً تفادى انهيار نظام سياسى بإدخال الإصلاحات اللازمة إذا اكتشفنا عوامل الخلل فيه مبكراً، لكننا فى الظواهر الطبيعية كالزلازل مثلاً لا نستطيع تفاديها وإنما نتحسب لوقوعها.
وتواجه مهمة التنبؤ فى التحليل السياسى صعوبات جسيمة من أهمها تعقد متغيرات الظواهر السياسية، فلكى تتنبأ بثورة عليك أن تعلم بدقة كل ما يتعلق بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية فى مجتمع ما وبيئته الخارجية إقليمياً وعالمياً، كذلك هناك صعوبة التحيز، فللباحث تحيزاته الشخصية التى قد تؤثر على موضوعيته فلا يُحسِن تقدير مكامن الضعف فى النظام السياسى الذى يؤيده أو جوانب القوة فى العدو الذى يدرسه وهكذا، ويُضاف إلى ذلك ما سبق ذكره فى المقالة الماضية عن استحالة إجراء التجارب بالمعنى العلمي، وترتبط بذلك صعوبة القياس، فالمقاييس فى العلوم الاجتماعية ليست موضع اتفاق كذلك الذى تعرفه العلوم الطبيعية فى مقاييس الأطوال والأوزان والكثافة وغيرها، ويزيد الأمر صعوبة أن الظواهر الطبيعية تتحدث عن نفسها، فالسوائل تتبخر أو تتجمد فى درجة حرارة معينة بينما المحللون هم الذين يتحدثون عن درجة الاستقرار السياسى أو الرضا الشعبى وفقاً لمقاييس ليست موضع اتفاق، وحتى عندما توجد المتغيرات السياسية فى حالة كمية كالقوة العسكرية فإن متغيرات كيفية كالروح المعنوية والكفاءة القتالية تؤثر فى فعالية توظيف هذه القوة، وأخيراً توجد الصعوبة المتعلقة بأثر التوصل إلى تنبؤات معينة على التطور اللاحق لإعلانها، ففى العلوم الطبيعية عندما تتنبأ بالأعاصير والزلازل لا يمكنك أن تمنع وقوعها وإنما تتحسب لها فحسب بعكس الظواهر السياسية التى يمكن فيها بعد التنبؤ بسقوط حزب فى انتخابات قادمة أن يسعى أنصاره إلى علاج أخطائهم فيفوزوا فيما يُعرف بالتنبؤ الهادم لذاته، أو بنجاح ساحق لحزب آخر يُصاب خصومه باليأس ويُهزمون بالفعل فيما يُعرف بالتنبؤ المحقق لذاته، فهل يعنى ذلك أن التنبؤ فى التحليل السياسى مستحيل؟
ليس التنبؤ السياسى مستحيلاً وإن كان شديد الصعوبة وغير مكتمل الدقة بدرجات متفاوتة، ويتطلب الأمر من المحللين السياسيين جهوداً فائقة للتغلب على الصعوبات السابقة بمحاولة الإحاطة بكل المتغيرات المؤثرة فى الظواهر موضوع التحليل والتعمق فى فهمها والتدريب الشاق على الموضوعية إدراكاً لأنها السبيل لتحقيق مصلحة الباحث وليس التحيز، ومحاولة الاستفادة بنماذج الخبرة الماضية، والتوصل لمقاييس قد لا تكون دقيقة تماما،ً ولكنها أفضل من لا شىء، والمتابعة الدائمة للتطورات وهكذا، والدليل على أن التنبؤ ممكن أن ثمة حالات عديدة أمكن فيها التنبؤ بسهولة بتطورات مهمة فى وقت مناسب، وأحياناً كانت هناك تنبؤات صحيحة بعيدة المدى بما يفيد فى التخطيط الاستراتيجي، ومازلت أذكر كيف كان أستاذى الجليل سمعان بطرس فرج الله رحمه الله يجيب فى نهاية ستينيات القرن الماضى إجابات فورية على أسئلتنا بخصوص مصير محاولات تسوية الأزمة الڤيتنامية بالقطع بفشلها لأن الڤيت كونج غير ممثلين فيها، تماماً كما نجيب الآن بالقطع نفسه على مصير أى محاولة لتسوية القضية الفلسطينية فى ظل موازين القوى الحالية، ومازلت كذلك أذكر كيف نظرت بانبهار وتشكك فى الوقت نفسه إلى نبوءة أستاذى الجليل الدكتور عبد الملك عودة رحمه الله فى محاضراته عن “النظم السياسية الإفريقية” بانهيار نظام الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا الذى حدث بالفعل فى مطلع التسعينيات بعد نبوءته بحوالى ربع قرن، أما مثالى الأثير على إمكان التنبؤ السياسى الدقيق الذى لا أمل ذكره لطلبتى فأستمده من خبرة الغزو العراقى للكويت١٩٩٠ وبطله القائد العسكرى الفذ عبد الغنى الجمسي، وكان مركز الدراسات السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بقيادة الدكتور على الدين هلال قد دأب على تنظيم حلقات نقاشية مغلقة تتناول القضايا الملحة فنظم واحدة عن حرب تحرير الكويت بعد اندلاعها بأسبوعين، وكُلفت بإعداد ورقة النقاش وكان الجمسى أحد المدعوين، وكنت قد ذكرت فيها عبارة تفيد أن الحرب قد طالت عن أمدها المتوقع، وعندما حان دوره فى الحديث قال إنه سيعلق على هذه العبارة حصراً، وبدأ تحليلاً بالغ الدقة لميزان القوى فى الحرب مؤكداً أنه لابد سيفضى إلى هزيمة صدام، مستعرضاً طبيعة العمليات اللازمة لتحقيق هذه الهزيمة ومنتهياً إلى أن الحرب سوف تنتهى بعد ستة إلى سبعة أسابيع من بدايتها، وعندما انسحب آخر جندى عراقى من الكويت في٢٨فبراير١٩٩١ وجدت أن ذلك اليوم هو أول أيام الأسبوع السابع لبداية الحرب، وقد يكون بعض التنبؤات غير دقيق أو مكتمل لكنى كنت أقول لطلبتى دائماً إنه أجدى من لا شىء كعود الكبريت الذى يحمينا من التعثر فى الظلام، فأين التطورات الأفغانية من هذا كله؟.
الواقع أننى دُهشت من التصريحات التى تحدثت عن مفاجأة سيطرة طالبان على كابول أو السرعة التى تمت بها، فالحالة الأفغانية نموذج لإمكان التنبؤ السياسى بل سهولته، والواقع أن ما حدث هو النتيجة الطبيعية لاتفاقية فبراير٢٠٢٠، فما الذى يعنيه أن تتفق الإدارة الأمريكية عندما تقرر الانسحاب مع طالبان وليس الحكومة الشرعية؟ أو أن تطلب منها فى الاتفاق ضمانات للأمن الأمريكي؟ وما الذى يعنيه ألا تلزمها وقف إطلاق النار؟ أو أن تطلب منها ألا تصدر تأشيرات أو جوازات سفر لعناصر إرهابية؟ أو أن تسمح لها بتسمية نفسها كطرف فى الاتفاق إمارة أفغانستان الإسلامية؟ فالواقع أن كابول سقطت يوم توقيع الاتفاق، وأشك أن المسئولين الأمريكيين لم يكونوا يدركون ذلك، وإنما كان الاتفاق هو ورقة التوت المطلوبة لستر عورة الهزيمة.
نقلاً عن الأهرام.